يتطور النقد ضمن عملية تراكم تاريخي للإبداع الأدبي والمعرفة النقدية في الوقت نفسه، فهو لا ينمو بذاته معزولاً عن النصوص التي يعمل عليها. وهو بهذا يتميز عن الأنواع الأدبية، الشعرية والقصصية والروائية والمسرحية، بكونه يحتاج إلى نصوص أخرى لكي يولد ويكتسب حضوره في شبكة النصوص المتداولة في المؤسسة الأدبية. لكن استناده إلى نصوص أخرى لا يعني تجريده من الإبداع والنظر إليه بصفته خلقاً وتطويراً للمعرفة الأدبية وإسهاماً في كتابة نصوص إبداعية موازية قد تتفوق على النصوص الأولى التي تقوم بتأويلها. ما أحاول قوله هو ضرورة إدخال النص النقدي في أرض الإبداع وتخليصه مما التصق به من وصف بالثانوية، وكتابة النص على النص، والقول بأنه طفيلي يعتاش على ما تعارفنا عليه بصفته إبداعاً حتى لو كان يفتقر، بسبب ضعفه لغة وأسلوباً وخيالاً، إلى الإبداع والخلق. إن النقد لا يقتصر، انطلاقاً مما سبق، على كونه مجرد تأويل للأعمال الإبداعية. لقد نشأ، بالفعل، على هامش الفلسفة في الميراث الفلسفي الإغريقي، ويمكن التمثيل على ذلك بمحاورات أفلاطون وكتابي"فن الشعر"وپ"فن الخطابة"لأرسطو"كما نشأ على هامش التأويل القرآني في الثقافة العربية، وأصدق تمثيل لهذا النشوء ما كتبه عبدالقاهر الجرجاني في كتابيه"دلائل الإعجاز"وپ"أسرار البلاغة"حيث أقام هذا العالم الكبير رؤيته لنظرية النظم على مفهوم الإعجاز القرآني. من هنا، فإن تطور المعرفة النقدية عبر العصور لم يعتمد فقط على قراءة النقد للنصوص الإبداعية، وإنما على تشابك المعارف الفلسفية وتأويل النصوص الدينية والأساطير، إلى أن وصلنا في النظرية الأدبية المعاصرة إلى أن يكون كل شيء تقع عليه يدا النظرية موضعاً للتأويل والقراءة النقدية، فلم يعد في عالم النظرية ما ينأى عنها ويُعد تخصصاً قائماً بذاته لا يسمح للنظرية بقراءته وتفحصه. ليس لدي أي شك، من هذا الباب، في أن النص النقدي إما أن يكون مبدعاً أو غير مبدع، وهذا يتصل بشخصية الناقد وطاقته الخلاقة وقدرته على إنشاء نصه الأصيل حتى ولو استند فيه إلى نص آخر يتكئ عليه. هناك خلط إذاً في ما يكتب في الوطن العربي والعالم حول كون النقد نصاً ثانوياً يقيم على أطراف نص أول يسمى النص الإبداعي. وأنا أصدر في رؤيتي هذه من كون الكتابة لا تطلع من عالم هيولي غير محدد المعالم، وإنما تطلع، بغض النظر عن نوعها وشكلها، من كتابات أخرى، فلا يمكن الروائي مثلاً أن يكتب من دون أن يكون عارفاً بما كتبه الروائيون من قبله، لأن النوع الأدبي يفرض شروطه وتقنياته وحركة تطوره في التاريخ على الكاتب. ومن هنا، فإن الكاتب يكتب بدءاً مما وصل إليه النوع الأدبي الذي يكتب في إطاره، وهو يطور ويغير انطلاقاً من تلك الأرضية التي شكلتها النصوص السابقة. وأود أن أشير هنا إلى أن للأنواع الأدبية ديناميتها الخاصة وشروطها الضاغطة التي يتحرك ضمنها الكتّاب والمؤلفون. يصدق هذا على الأنواع الأدبية كلها وعلى الأشكال الأدبية المختلفة ومن ضمنها الكتابة النقدية، فأنا لا أستطيع كناقد أدبي أن أكتب كما كتب الجرجاني، لأنني أهمل في هذه الحال كل ما كتب بعد الجرجاني من نقد في العالم. وفي الوقت نفسه، فإنني أكتب نصي النقدي الخاص بغض النظر عن النصوص التي أعلق عليها، أو أستند إليها لأثبت فرضيتي النقدية الخاصة. ما أود أن أقوله صراحة هو أن النقد إبداع مثله مثل القصة والرواية والشعر، والناقد الذي يسمح بأن تكون كتابته مجرد وسيط شفاف تمر من خلاله النصوص التي يعلق عليها هو مجرد ملخص للنصوص لا يفهم الطبيعة الخلاقة للكتابة النقدية. يمكن، انطلاقاً مما سبق، أن نضرب أمثلة من الكتابة النقدية العربية التي يمكن النظر إليها بصفتها كتابة خلاقة حتى ولو لم نعرف النصوص التي تتكئ عليها"فالجرجاني مثلاً مبدع خلاق فيما كتبه في"أسرار البلاغة"و"دلائل الإعجاز"، وكذلك الجاحظ في"البيان والتبيين"، وفي"كتاب الحيوان"، وپ"البخلاء"، وفي مجمل كتابته عموماً. وفي الكتابة النقدية الحديثة نضرب مثلاً طه حسين الناقد والمفكر الخلاق الذي يعد أسلوبه وكأنه يقيم في المسافة الفاصلة بين النص الإبداعي المبتكر والتأويل التاريخي للسياقات الثقافية والدينية والتاريخية للعرب عبر العصور. يصدق الوصف السابق نفسه على نقاد كثر في العالم، من الشرق والغرب ممن طوروا المعرفة النقدية عبر العصور، وقامت نصوصهم بنفسها أمثلة حية على الإبداع والأسلوب المبتكر، الذي وضع النقد ضمن خريطة الأنواع الأدبية. ولا يمكن النظر إلى كتاب ميخائيل باختين عن دوستويفسكي، أو"تشريح النقد"لنورثروب فراي، أو"المحاكاة"لإريك أورباخ، أو"الكتابة في درجة الصفر"لرولان بارت، أو"الكتابة والاختلاف"لجاك دريدا، أو"الاستشراق"لإدوارد سعيد، إلا بصفة هذه الأعمال نصوصاً إبداعية كبرى تجمع إلى المعرفة النقدية الأسلوب الباهر والإبداع الخلاق الذي يشع كمعدن ألماس على مر العصور.