روى ألفارو فارغاس يوسّا، وهو غير الروائي البيروفي الذي يشاركه اسم العائلة، أن توباك كاتاري، الهندي من"شعب الأيمارا"، قاد في القرن التاسع عشر انتفاضة ضد الحكم الاسباني في بوليفيا حملته على محاصرة العاصمة لاباز. فعندما انهزم، أُلقي القبض عليه وقُتل بربط رجليه ويديه بأربعة أحصنة ركض كل واحد منها في اتجاه يعاكس الاتجاهات الأخرى. لكن كاتاري، قبل أن يموت، تفوّه بعبارة على شكل تنبّؤ:"سوف أعود على هيئة ملايين". وتأخّرت العودة التي انتظرها هنود بوليفيا، أو سكانها الأصليّون. لكنْ، في الغضون تلك، وصل الى البلد المذكور الوزير الكوبي الذي عاف وزارته كي يُشعل الثورة انطلاقاً من بوليفيا. ففي أحد أيام 1966، حلّ تشي غيفارا في أرياف سانتا كروز مباشراً حرب عصابات لم تعمّر طويلاً. فقد ألقي القبض عليه وقضى برصاصات أُريد ألاّ يكون لها صوت مسموع. وغيفارا، الذي كان على بيّنة من أهمية تأييد الفلاحين، إنجاحاً للثورة أو إفشالاً، ساقه وعيه الطبقي الى المناطق الشرقيّة، حيث ثمّة فلاحون. لكن ما فات الثائرَ الطبيب أن الموقع الطبقي وحده لا يكفي. ذاك أن السكان هناك، أغنياؤهم ومُزارعوهم الفقراء، بيض أو أخلاط ميستيزو تأتّوا عن تزاوج بالإسبان. وبوليفيا لطالما عانت الصراع بين أراضيها المنخفضة في الشرق، وعاصمته سانتا كروز، وبين الهضاب الغربيّة التي يأهلها الهنود الأصليّون. غني عن القول إن الغيفاريّة، الطبقيّة الوعي، والتي لا تحمل بشرتها لوناً بعينه، ليست الهيئة التي هدّد توباك كاتاري برجوع الملايين عليها. فكان لا بدّ، بالتالي، من انقضاء عقود أربعة بتمامها كي يلوح شيء من كاتاري في إيفو موراليس. ذاك أن السياسي البوليفي الذي بدأ مزارع كوكا وانتهى رئيس جمهورية، ليس قائداً طبقياً مناهضاً للإمبريالية بالمعنى الذي عمّمته الماركسيّة، بل هو، قبل ذلك، أوّل الهنود الأصليين الذي يصل الى منصب كهذا في أميركا اللاتينيّة. وهو أمر يتعدّى"تنوّع اليسار"في القارّة المذكورة مما أشار إليه كتّاب يساريّون كثُر. صحيحٌ أننا لا نعثر اليوم على نظرية"البؤرة"يقترحها الكوبيّون، ومعهم ريجيس دوبريه، على كل من يحمل بندقيّة، ولا على"حرب العصابات المدينيّة"بالمعنى الذي رفعته"توباماروس"إنجيلاً يناظر إنجيل"حرب العصابات في الأرياف"لأصحابه الصينيين. لكن الصحيح أيضاً أن ما يفرّق بين"اليساريين"هؤلاء أكثر جذريّة بكثير. فما يطرحه البوليفيّون منهم يتعدّى كونه تغييراً في السياسة الى التغيير في التاريخ. وكان ألفارو غارسيا لينيرا، الذي انتُخب نائباً لموراليس، قد أوضح ذات مرّة، ان المطلوب"إنهاء 500 سنة من الاستعمار، و180 سنة من التمييز، و20 سنة من السياسة الاقتصادية النيو ليبرالية". فالمشكلة يضرب جذرها، إذاً، في الاضطهاد الذي نزل بالسكان الهنود مع حلول الإسبان بين ظهرانيهم عام 1535. أما تاريخ"شعب الأيمارا"، ومنهم موراليس، فمداره يتجاوز رقعة الدولة-الأمة الحالية، مثلهم في ذلك مثل كل"شعب"تشدّه روابط دمويّة الى"أخوة"مُقيمين وراء الحدود، وروابط عدائيّة الى مواطنين مُقيمين داخلها. والراهن ان تغيّرات مهمة ظهرت في ثقافة الأيمارا بعد الحقبة الاستعماريّة الاسبانيّة: فقبل أقل من قرنين بدأ"الشعب"هذا يعيش في ظل حكم الجمهوريات البيروفية والبوليفيّة التي أخضعته، على نحو أو آخر، لضغوط التغريب. كذلك طرأت تحوّلات درامية عدة خلال ربع القرن الأخير تحديداً، اذ اعتمدت الحكومتان برامج للاصلاح الزراعي وبرامج للتنمية الريفية ودمج السكان المحليين. غير أن بوليفيا، بسكّانها البالغين اليوم تسعة ملايين، ظلت الأشد استعصاءً على النسق السياسي الحديث، حائرةً بموقعها حياله وموقعه حيالها. فمنذ نيلها الاستقلال عن اسبانيا في 1825، عرفت 83 رئيساً للجمهوريّة، بمعدل رئيس واحد كل سنتين وشهر. كذلك عانت قرابة 200 انقلاب عسكري ومحاولة انقلاب، وهو معدّل لم يعهده بلد آخر. وخاض البوليفيّون، ممن سُمّي بلدهم تيمّناً بالقائد الاستقلالي والوحدوي سيمون بوليفار، حروباً عدّة ضد جيرانهم الخمسة كانوا هم البادئين بشنّ معظمها، علماً بأنهم خسروها جميعاً. وبقي النزاع مع تشيلي في مصاف القضيّة المقدّسة في وعيهم ولاوعيهم السياسيين. ذاك أن البلد الأخير هو الذي حال، في 1885، دون وصول بوليفيا الى ممر أتاكا بانتصاره عليها في"حرب المحيط الهادىء". هكذا جُعلت دولةً لا تطل على البحر، برّيّةً تتآكلها العزلة والدعوة النضاليّة الملحاح إلى استرجاع الممرّ مرفقةً بتعبئة السكان حوله. واجتمعت، في 1952، ظروف اقتصاديّة واجتماعيّة حملت الديموقراطي واليساري فيكتور باز إستنسورو الى الرئاسة، فحقق عهدُه مكاسب وإنجازات في عدادها تأميم المناجم وتوسيع حق الاقتراع ليشمل الجميع، بمن فيهم الأصليّون. بيد أن الردّ على التحديث الديموقراطيّ هذا جاء سريعاً، وهي ما كانته حال أميركا اللاتينية إبّان الحرب الباردة. ففي 1954، حصل انقلاب الجنرال، ونائب الرئيس، ألفريدو أوفاندو كاندي الذي أعاد البلاد الى نسقها، أو لانسقها، السياسي المألوف. وعلى النحو هذا سيست بوليفيا، الحائرة في انتمائها والمعزولة والفقيرة، الى أن انفجرت، أوائل الثمانينات، أزمة اقتصاديّة من عيار فلكي. فقد تصاحب الركود والتضخّم الحادّان والتردّي الضخم في قيمة العملة، مع انهيار سوق الصفيح الذي فُقدت بنتيجته قرابة 25 الف فرصة عمل عادت إحداها الى والد موراليس. وهو جميعاً ما مهّد لإجراءات التحرير الاقتصادي مما كانت إدارة ريغان، في الشمال، تحضّ عليه فجاءت مصحوبةً بالانتقال، عام 1982، الى الديموقراطيّة. والحق أن الاصلاحات يومذاك، وكانت تدرّجيّة، نجحت، فارتفع الناتج الوطني العام في التسعينات الى 4 في المئة. كذلك حصلت انفراجات دستورية وسياسية ملحوظة إذ، في 1994، اعتُمد نظامٌ للامركزيّة بموجب"قانون المشاركة الشعبيّة"الذي أعطى 327 مجلساً بلديّاً حق التصرف بموازنات ماليّة واتخاذ قرارات مستقلّة، معترفاً بالمجموعات الإثنيّة المختلفة والكثيرة، وأيضاً باللغات المحلية. وبدا هذا بمثابة موديل ناجح انبثقت منه ظاهرة"الحركات الاجتماعيّة"التي سيُقيّض لها دور بارز في المسار السياسي اللاحق. على أنه مع أواخر التسعينات، شرع الوضع يتردّى تحت وطأة التباطؤ الكونيّ في الاستثمار، مما ترتّب على الأزمة الآسيوية-الروسية وارتفاع العجوزات المالية تالياً. وبدل أن تتباطأ حركة التحرير الاقتصادي، تسارعت فخُصخص كل شيء يمكن بيعه تقريباً، الأمر الذي زاد مساوئَه افتقارُ البلاد، على عكس تشيلي مثلاً، الى مؤسسات مستقرّة وشبكات أمان على قدر من الفعاليّة. وإذ زادت النقمة على الولاياتالمتحدة، جزئياً لأسباب تضرب في التاريخ، وجزئياً لمماهاتها بالعولمة والتحرير الاقتصادي في أردأ نتائجهما، ودائماً لبحث البوليفيين عن قضيّة يفسّرون بها تفكّكهم، كان للتدهور الأمني والسياسي أن زاد في اهتزاز ثقة المستثمرين وفي الحيلولة دون توافُر فُرص العمل المعوّل عليها محاصرة الفقر. لكن ما يرسخ، في آخر المطاف، أن معدل الدخل الفردي بات أدنى مما كان قبل 25 عاماً. وفي المناخ الموصوف، تمّت انتخابات 2002، التي خاضها موراليس وخسرها بفارق 42 الف صوت فقط، بعدما عملت التصريحات العدائيّة بحقّه التي أطلقها السفير الأميركي مانويل روشّا، على تحويله قائداً، شعبياً ومحبوباً، للمعسكر"المناهض للامبريالية". وإيفو موراليس، ابن السادسة والأربعين، أبوه العامل في صناعات الصفيح مات أربعة من أبنائه الستة في طفولتهم. لكن الفقر والتعاسة سارا، في حياة أسرته، يداً بيد مع الولاء للقديم، أو أقلّه مع التضرّر من تقادُمه. فبعد ان أغلقت الحكومة معامل الصفيح التي كانت تملكها وتديرها، لأن أكلافها شرعت تفوق عوائدها، انضمّت العائلة الى آلاف العائلات الفلاحيّة الفقيرة التي تعيش على زراعة الكوكا. وإيفو لم ينهِ دراسته الثانويّة ولا غادر المرتفعات الغربيّة حيث شغل، ذات مرة، رئاسة اتحاد مزارعي الكوكا كما انتُخب عضواً في الكونغرس. وبصفتيه النقابيّة والسياسيّة قاد، عام 2002، أؤلئك المزارعين في إقليمه، إقليم شاباري، فطُرد من المجلس بتهمة ممارسة الارهاب، وكان المقصود أعمال العنف التي تصدّت لنشاط استئصال نبات الكوكا المموّل أميركياً. بوليفيا والكوكا والحال أن تعاظم انتاج الكوكايين في جنوب القارة، هي المصنوعة من الكوكا، جعل الولاياتالمتحدة توالي الضغوط على بوليفيا، وهذا فيما كان موراليس يباشر صعوده السياسي قائداً يكافح اجتثاث"النبتة المقدّسة". وبتعالٍ وعنجهيّة منفّرتين، راح الديبلوماسيّون الأميركان في لاباز، الذين استثمرت دولتهم بلايين الدولارات في برامج الاستئصال، يصوّرونه مجرماً في عصابة وواحداً من حثالة لا يليق بالمنصب الرسمي أن يتولاّه. وفي المقابل، كان من حجج المطالبين بتشريع الكوكا، فضلاً عن عيش عشرات الآلاف عليها، أن قدامى الأنكا تعاطوها، بينما جعل اليسار الشعبوي الأميركي اللاتيني يردد أن الكوكا بعض الثقافة التقليديّة والدينيّة الوثنيّة لبلدان جبال الأنديس، وهو ما يُجيز للهنود انتاجها. وكما في أيّ تصنيع ايديولوجي للماضي سطعتْ، هنا، الخرافة. فزراعة الكوكا في شاباري ليست تقليدية، وهي لم تبدأ قبل الثمانينات. أما أموال الكوكايين فيبقى دورها في إنمائها أكبر بلا قياس من دور التقاليد والأصالة المزعومة. وبين نهم للربح معزّز بالتشاوُف الأميركي، ومعارضات حادّة ومستعجلة تتوسّل السلف الصالح، بدا كأن السياسة تخلي المشهد للعنف. فقد سجّل العام 2003 أعمال احتجاج قصوى ضد سياسات الرئيس غونزاليس دو لوزادا الجاذبة للاستثمار. وحين رُفض عرضه إجراء استفتاء حول تصدير الغاز الطبيعي وقالت"الحركات الاجتماعيّة"ان التأميم وحده المقبول، انتقل لوزادا الى ميامي مخلّفاً عشرات القتلى. وفعلاً ألغيت الخطط الموضوعة لتصدير احتياطات الغاز المكتشفة حديثاً الى أسواق الشمال الكبرى. وإذ تراجع نمو الناتج المحلي في 2003-2004 عما كانه في التسعينات، جفّ الاستثمار الخارجي واعتمدت الشركات سياسة ترقّّب لخلفه الرئيس كارلوس ميزا ولمدى رغبته في حماية حقوق المستثمرين. وميزا مؤرّخ للسينما ثم صحافي صار نجماً تلفزيونياً قبل أن يصير سياسياً. وحين وصل الى الرئاسة، أواخر 2003، لم يكن ثمة حزب يدعمه، الا أنه أبدى حساسيّة ملحوظة حيال المسألة العرقيّة عبّر عنها شعاره:"البوليفيون لم يصبحوا شعباً متساوياً بعد". وقد حظي بدعم شعبي حين أخلّ بعقود الغاز الطبيعي مع المستثمرين الأجانب، كما قاد حملة متوتّرة وشعبويّة ضد تشيلي. غير أن"الحركات الاجتماعيّة"ما لبثت انقضّت عليه وأجبرته، في حزيران يونيو 2005، بعد 19 شهراً في الحكم، على الاستقالة. وكان السبب المباشر لإسقاطه ما عُرف ب"حرب الغاز الثانية"حيث توالت تظاهرات الشوارع وحاصرت المعارضة الهندية-العمالية العاصمة لاباز. وعلى العموم، أطيح رئيسان منتخبان دستورياً، بقوة الشغب الجماهيري للسكان المحليين، في غضون سنوات ثلاث، فتأكّد للبعض أن بوليفيا بلد يستحيل حكمه. وإذ انتُقدت"الحركات"على سرعة نفاد صبرها انتُقدت، في المقابل، الأوضاع التي جعلت معدل الدخل الفردي 900 دولار سنوياً، هو الأدنى في اميركا اللاتينية. لكنْ، في ظل مناخ استقطابي كهذا، يتقاطع بُعده الاجتماعي مع مسألة عرقيّة متفجّرة وانشطار مناطقي، اشتدّت المطالبات بالحكم الذاتي الاقليمي، لا سيما في السهول الشرقية الأغنى. فهذه البيئة لم تكتم مخاوفها من ان تحرمها الحكومة"ثرواتها"، مذعنةً لنازعها المركزي أو للضغط الديماغوجي يهبّ من الشارع. وتبعاً لضعف التقاليد السياسية المرفق بضعف النسيج الوطني، استهجنت نخبة سان كروز المعروفة بجشع وأنانيّة لا تداريهما، ودائرة رجال الأعمال التي تتزعّمها، أن تكون ثروات مناطقها مُلكيّة وطنيّة جامعة. ومعروفٌ أن الغاز، ثروة البلد الأهم، والزراعة المتقدّمة نسبياً، وكذلك الكفاءات والمهارات، تنوجد في هذه المناطق، لا في هضاب الغرب العشيري الذي يمضغه الفقر وتستنزف شبّانَه هجرة متعاظمة الى لاباز العاصمة. والحق أن بوليفيا عرفت زيجات مختلطة بين الأقلية الكبيرة من البيض وأكثرية الأصليين الهنود، لكن البلد لا تزال تقيم فيه النسبة الأعلى من السكان الأصليين في اميركا اللاتينية كلها. فهناك 36 مجموعة محليّة متميّزة يتجاوز عددها ال60 في المئة من السكان. ولم يكن لينيرا وحده من عبّر عن حدّة المسألة العنصرية حين قال لمؤيديه:"تكاد بوليفيا تملك نظام تمييز عنصري ? ليس قانونياً، لكنه يكاد عمليّاً يكون مساوياً لذاك". وإذ تخلّفت الأفكار السائدة في الشطر الغربي عن إدراك وحدة الوطن ووحدة ثرواته، لم يملك السياسيون الهنود و"حركات"هم نيلسون مانديلاّ، بل مضوا يلوّحون بسلاح العدد، إذ"ما دمنا الأكثريّة"صار المطلوب"وضع قوانين لصالح الأكثريّة"، و"ما دمنا الأصل صار التاريخ المقبول هو الذي نضعه نحن". يسارية"رأسمالية" والحال ان اليساريّة البوليفيّة لم تخلُ تقليدياً من اتجاه نازع الى تحديث الرأسمالية وتخليصها من بقاياها القروسطيّة. بيد أن أصحاب الاتجاه هذا، لا سيما البيض منهم، تضاءل حجمهم مع تعاظم التداخُل بين الطبقي والإثني في العقدين الماضيين. وقد تأدّى عن ذلك عزل اليساريين البيض والملوّنين ووصم أكثرهم، تارةً بالاصلاحيّة وطوراً بالانتهازيّة. ولم تقف هنا أزمة اليسار. فقد بدا واضحاً، لدى طرح إجراء الانتخابات كمخرج من صراعات ربيع 2005، ان قراراً كهذا ساء"الحركات الاجتماعيّة". فهي رأت في صناديق الاقتراع استراتيجية خطيرة هدفها تفكيك التعبئة والاحتجاجات التي هددت بنزع استقرار بوليفيا، وإعادة إدراج للمطالب الشعبية في نفق مؤسسات يسيطر عليها اليمين تقليدياً. بعد ذاك ربطت"الحركات"التي شاركت في الانتخابات مشاركتها تلك بتلبية"الحركة صوب الاشتراكية"ماس، حزب موراليس، مطالبها. وفي الغضون هذه، جرت محاولات يسارية لمنافسة موراليس، فحاول وفشل جيمس سولاريس، قائد"الاتحاد الفيدرالي المركزي للعمال البوليفيين"، في إقامة ائتلاف انتخابي مع فيليب كويسبي،"الأمين العام لاتحاد العمال الزراعيين في بوليفيا". وكويسبي فلاح راديكالي من الأيمارا وأحد قادة الهضاب، يؤمن بتأسيس دولة ايمارية مستقلة ولا يكف عن مهاجمة نخبة بوليفيا"البيضاء". وفي تموز يوليو 2005 عبّر أبل ماماني، قائد"فيدرالية مجالس أحياء [مدينة] إل ألتو"، عن رغبة في تشكيل حزب سياسي غير"ماس"، تؤسسه أحزاب وقوى في عدادهم فيليب كويسبي. وتأخذ"الحركات"على"ماس"أنها وسطيّة دعمت الاستفتاء"الابتزازيّ"، صيف 2004، حول تأميم الموارد الهيدروكربونية. ويُرجّح أن تمارس، وقد أجريت الانتخابات، ضغوطاً متوالية على موراليس، تتصدّرها في هذا"حركة تذمّر [مدينة] كوشابامبا"التي سطع نجمها في صراعها عام 2000 مع شركة"بكتل"الأميركية، و"مجالس إل ألتو"وشبكات المزارعين الريفيين وتعاونيّات عمال المناجم و"حركة الفلاحين البلا أرض". فهؤلاء يعلنون أنهم سيواجهون بضراوة كل محاولة للتراجع عن الوعود بتأميم الغاز واعادة توزيع الأرض والغاء خصخصة الخدمات العامّة، فضلاً عن مطالبتهم بإقامة جمعية تأسيسية تضع دستوراً تمثيلياً جديداً يكون لصالح الأكثرية الاثنية. وقد عكس قائد"حركة التذمّر"، أوسكار أوليفيرا، آراء بعض"الحركات"وميولها في استعجال وضع الماضي في موضع الحاضر: ف"نحن لم نقاتل أبدا من اجل الانتخابات. انها مجرد قاطرة لمافيا معيّنة من سانتا كروز والشركات المتعددة الجنسية التي تريد أن تكبح الحركات الاجتماعيّة... في الوقت نفسه لا يسعنا أن ندع اليمين يعود الى السلطة، وهكذا فسندعم"ماس". نريد ان نخلق مجتمعاً جديداً مبنيّاً على موديلات عرفناها قبل الكولونيالية، ترتكز على علاقات الجماعة والصلة بالطبيعة. إننا نرفض نظاماً قائماً على الدولة النيو كولونيالية". وفي لقاء جرى مؤخراً، قال ممثّلو"الحركات"انهم سوف يعطون حكومة"ماس"الجديدة ثلاثة أشهر فحسب"كي تبدأ بإظهار"البراهين المطاوبة. على أن الصعوبة الأكبر تتجسّد في تعدّد المطالب، الملصَقَة إلصاقاً الى بعضها، واستحالة العثور على قضية جامعة، تبعاً للطبيعة القطاعيّة والمناطقيّة ل"الحركات"نفسها. فعمّال المناجم، وهم ربما كانوا تاريخيا اكثر النقابات نضاليّة في اميركا اللاتينية، وقد شكّلوا عصب"الاتحاد الفيدرالي المركزي"، تكمن قضيّتهم في مقاومة خصخصة معاشات التقاعد. أما حركة كوشابامبا، فقضيتها تأميم الغاز. وهناك هنود السهول في المناطق الشرقية، وهم خليط من جماعات مهاجرة من اجزاء اخرى في البلد، ومجموعات اصليّة كالغواراني والأيوريو والشيكويتانو والغواريوس، انخرطوا في النزاعات المتصلة بالأرض إثر توسّع الزراعات القابلة للتسويق الرأسمالي كالصويا، فضلاً عن التوسّع في تربية الماشية. وهؤلاء تمثّلوا ب"كونفيدرالية الشعب الهندي في بوليفيا"، وعلى يسارها حركة"البلا أرض"الأصغر، والتي تدعو، على غرار أختها البرازيلية، الى الاستيلاء على الأراضي، وقد احتلّوا صيف 2004 ثلاثة مواقع تملكها"بريتش بتروليوم"، فيما استولى الهنود الغواراني على حقول نفط تديرها الشركة إيّاها ومعها"ريبسول"، ما حمل الاثنتين على وقف الانتاج. ولئن برهنت"الحركات"على درجة بعيدة من التضافُر إبّان الصراع"ضد"الرؤساء السابقين، فهذا لن يكون على السهولة نفسها في طور العمل الإيجابيّ"مع"الرئيس الحاليّ. وتُبدي مدينة إل ألتو عيّنةً باهرة على استعجال لا يستطيع أن يواكبه أيّ تغيير مؤسسي، لا سيما في ظل اصطباغ سياساتها بالعنصر الديموغرافي المتفجّر. ذاك أن المدينة تلك، الملاصقة للعاصمة، هي الأسرع نمواً سكانيّاً بين مدن أميركا اللاتينية كلها. فقد عدّت 11 ألف نسمة في 1952، ويتجاوز عددها اليوم المئة ألف، أربعة أخماسهم من السكان الأصليين، ومن الأيمارا تحديداً. أما المعدل الوسطي لأعمار أبنائها ف22 عاماً، إذ أن 60 في المئة من سكانها دون الثلاثين. وكان الكثيرون من ابناء الايمارا والكويشو "الشعب"الهندي الكبير الآخر قد قُسروا على مغادرة أرضهم بفعل الأزمة التي ضربت الزراعة التقليدية وذات النطاق الصغير فتجمّعوا في إل ألتو. وهؤلاء آتون من مناطق ريفيّة ذات جذور متينة في التنظيم الذاتيّ بوصفه نقيض التخطيط الدولتي. وقد سبق للأيمارا بينهم أن طردوا الشرطة والقضاة المحليين والمحافظين من إقليم أوماسويوس، عام 2000، مقيمين سلطاتهم الخاصّة بهم. والى إل ألتو حملوا"تقاليدهم"فأحرقوا مقر محافظ المدينة. عفوية الضحايا هكذا تغدو اليساريّة البوليفيّة تزكيةً شعبويّةً لعلاجات تقترحها عفويّة الضحايا. والضحايا، بالتأكيد، عديدون. ففي إل ألتو أيضاً عمال المناجم السابقون، وهم العمود الفقري تقليدياً للطبقة العاملة النضالية في بوليفيا، والذين بنتيجة خصخصة المناجم تُركوا معدمين. والمدينة تستقبل، فوق هذا، أياً من الجماعات التي تفقد رزقها أو عملها أو أرضها فتستأنف، في ذلك"الكوميون"، حياتها الأصعب. وتحت ضغط الهجرات اليها معطوفةً على نموّها البيولوجيّ، بما يؤدي الى زيادة تبلغ نسبتها 10 في المئة سنوياً، انحلّت البنى التحتيّة والخدمات الى رثاثة لا تلبّي الحاجات الأشدّ أوليّة للسكان. وباليسير المتوافر تتولى"الحركات"المناطقية المحليّة شؤون إل ألتو بالكامل تقريباً، وأبرزها"فيدرالية الأحياء"و"المركز العمالي الإقليمي لإل ألتو"الذي يلعب دوراً متصدّراً في النيابة عن الدولة، وقد كان له دور مركزي في إطاحة لوزادا. و"المركز"كان على وشك مقاطعة الانتخابات الرئاسيّة الأخيرة، فيما"الفيدراليّة"شاركت من دون حماسة لاعتبارها أن ما من شيء سيتغيّر قياساً بمطالب المدينة، وأهمّها تأميم الهيدروكاربونات. هكذا تصرّ بيئة"الحركات"، أو معظمها، على ضرورة الحفاظ على مسافة نقدية عن"ماس". ذاك أن من الضروري، في عرفها، تجنّب تكرار السيناريو البرازيلي للرئيس لويس إيناسيو لولا دا سيلفا لولا. فهناك واجه النشطاء الحزبيّون السابقون المهمة المزدوجة لإعادة بناء حركاتهم والمضي في بناء الحزب السياسيّ. وتحذّر"الحركات"، ويسارها أشد استقلالية حيال الأحزاب بأكثر كثيراً مما في البرازيل، من أن"ماس"شرعت، في السنوات القليلة الماضية، تتبع خطاً مشابهاً لخط حزب العمال البرازيلي، ومن أنها تتحوّل ببطء من حزب لحركة اجتماعيّة الى آلة انتخابية همّها إيصال إيفو موراليس الى المنصب الأوّل. وفي السياق هذا، يُستشهَد ب"فشلها المتكرر"في التعبير عن المطالب الشعبيّة و"دعمها للقادة النيوليبراليين"، حيث عقدت تسويات مع الرئيس ميزا والرئيس الموقت ادواردو رودريغز. وكان لوحظ، في الحملة الانتخابيّة، أن قادة"ماس"تفوّهوا بعبارات متناقضة وملتبسة عن رؤيتهم للاقتصاد البوليفي. فموراليس قال إن العقود التي وقّّعتها بلاده مع الشركات ملغاة لا قيمة لها، لكنه قال ايضا ان الاستثمارات الأجنبيّة لن تُصادَر، حاضّاً على المساهمة الدولية في مشروع"إل موتون"للتعدين، قرب الحدود مع البرازيل، الذي تبلغ كلفته 500 مليون دولار. وفي أيلول، لم يأت موراليس ولينيرا على ذكر الغاء العقود النفطية، وبعد ذلك غيّرا رأييهما معلنين دعمهما التأميمَ واستعادة المصادر الطبيعية عبر تشكيل الجمعية الوطنية. وأغلب الظن ان"التأميم"، لدى موراليس، لا يعني مصادرة ملكيات شركات الغاز العابرة الحدود، بل يعني أمرين آخرين: فهناك النصّ في الدستور على"تملّك"بوليفيا الغاز الذي فوق الأرض وتحتها، لا الذي تحتها فحسب، على ما هي الحال راهناً. وهناك، بناءً عليه، حمل الشركات المتعددة الجنسيّة على دفع جعالات ومكوس أعلى. فهو، من ثم، برنامج ذو ملامح كينزية، يؤكّد دور الدولة المتعايشة مع القطاع الخاص، ويشدد على الحاجة الى تركيز الطاقات على إنماء السكان الأصليين، مع دعم المشاريع الصغرى والمتوسّطة والانتاج الزراعي، فضلاً عن المشاريع السياحية القابلة للحياة. ويسود اليسارَ تخوّف من ان تعد"ماس"بتأميم الغاز ولا يتحقق الا تفكيك تعبئة"الحركات". وقد وصف أحد معلّقيه البرنامج الذي عرضته"ماس"،"خطة النقاط العشر"، بأنه برنامج تعاون مع البيزنس الكبير وكبار الملاكين الزراعيين والشركات العابرة الحدود، تحت عنوان"إعادة اختراع الديموقراطية"و"الرأسمالية الأنديّة". ويرى اليسار الجذري، ردّاً على هذا، أن المجتمع العادل إنما يتحقق ببناء مزيد من الحركات الاجتماعيّة القوية التي تصعد من القاعدة لتمسك بسلطة الدولة. ولا يسلم موراليس من الاتهامات. فهو، كما يورد النقد، لعب دوراً في التحركات الجماهيرية حتى 2000، ومع إطاحة لوزادا اختار جرعة براغماتية طعّم بها نضاليّاته، ثم تعاون مع كارلوس ميزا، ولم يُر له وجه في"حروب الغاز"أواخر 2003 وأواسط 2005. وفي الحالات كافة، ف"ماس"، على رغم إسمها، ليست حزباً إشتراكيّاً. ذاك أن ناشطيها يناقشون بأن حركتهم تغاير حركات اليسار التقليدي: ف"نحن لم نطوّر ذاك المعتقد الماركسي الذي يسيطر على احزاب اليسار الغربي. ايديولوجيتنا لا تزال قيد البناء. إنها لم تُعرّف وهي تتغذّى على قوى وحركات مختلفة وعلى ممثلين متنوعين"، تبعاً لمدير حملاتها الانتخابية خوان رامون دو لا كوينتانا. بل ليست"ماس"حزباً سياسياً بقدر ما هي جبهة هشّة تضم قوى بعضها متنافس، أهمّها منتجو الكوكا في شاباري، شمال كوشابامبا، يليهم جهاز متواضع يرتبط بالحزبيين من أعضاء الكونغرس، وبعض مثقفين أبرزهم نائب الرئيس لينيرا. ويُذكر أن تسمية الأخير لنيابة الرئاسة كان سببها القفزة التي حققتها حركته في حظوظها الانتخابيّة، ورغبتها في توسيع الحظوظ تلك. فلينيرا يُنظر اليه على انه ممن يخاطبون عواطف الطبقة الوسطى البيضاء. وهو أبيض من نجوم الإعلام وأكاديمي معروف، لكنه اهتمّ، منذ تسميته مرشحاً لنيابة الرئاسة، بفصل نفسه عن جذوره الراديكالية. فالرجل كان واحداً من قادة حرب العصابات المدينية، سُجن وكتب في النظريّة الماركسيّة والحركات الاجتماعيّة في بوليفيا ومسائل الاشتراكيّة، غير أنه، كما قال أحد نقّاده في اليسار،"بات يصرف جهوداً كبرى لاقناع المقترعين بأنه لن يذكر ثانيةً كلمة إشتراكيّة". وفي القائمة الطويلة للمآخذ اليساريّة، يؤخذ على"ماس"أنها، مع اقترابها من السلطة، جذبت إليها سياسيين تقليديين بعضهم ذوو سمعة سيّئة وفاسدة، ما يحيل مكافحة الفساد شعاراً نظريّاً للاستهلاك والتمويه. وإذا كان موقف"ماس"الأوضح في"مناهضة الامبرياليّة"مكافحةَ الخطط الأميركية لمنع زراعة الكوكا، فبديهيٌ أن هذا لا يرقى الى سياسة رصينة وسديدة للتنمية الوطنيّة. وحتى لو كان موراليس جادّاً في محاربة الكوكايين، يبقى من الصعب فرز الأخيرة عن الكوكا التي حين تراجعت عمليّات استئصالها في 2004، قفز إنتاج الكوكايين الى 107 أطنان، بزيادة 35 في المئة عمّا كانه قبل عام. وقصارى القول إن ما حدث، ويحدث، في بوليفيا، لا يسمح بالاعتداد العربي، كما نقلته برامج تلفزيونيّة ومقالات صحافيّة، بهزيمة واشنطن انطلاقاً من لاباز. فلا الصلعاء التي تتباهى بشعر جارتها مُحقّة في تباهيها، ولا شعر الجارة كثّ بما يكفي للتباهي. وهذا من غير أن يتسع المجال لتناول الضغوط المضادّة، كالتي تهبّ من الشركات المتعددة في مطاردتها حكومة لاباز في المحاكم، أو من صناديق الإقراض الدولي وهي من يسدّد أجور الموظّفين الرسميين، أو من واشنطن التي تتكفّل مساعداتها إبقاء الاقتصاد البوليفي عائماً. وهذا ناهيك عن ضغوط محتملة من البرازيل نفسها إذا ما ذهب موراليس مذهباً راديكالياً في تأميماته، إذ البرازيل المستثمر الأجنبي الأول في الثروات الطبيعية البوليفية. وهو ما يشير الى أن يساريي أميركا اللاتينية قد لا ينتهون كتلة موحّدة وراء شافيز وكاسترو، خصوصاً إذا ما فاز الاشتراكيون الديموقراطيون في تجديد ولايتهم في تشيلي، وهو المرجّح، واستمر البوليفيون في إصرارهم على قضيتهم"المقدّسة"ضد التشيليين. وبين الذين فازوا، والذين سيفوزون، في انتخابات تلك القارة، يساريّون يحدّثون الرأسمالية ويزاوجونها مع العصر بتشذيبها من الرواسب القروسطية، ومن يساهمون في إشعار واشنطن بأنها ليست وحيدة على هذا الكوكب، وأن عليها أخذ تعدد العالم واختلافه في حسبانها، ومن وصلوا الى الحكم وقد يفاجئوننا ببرنامج لم يكن برنامجهم، ومن قد يدفعون بلدانهم الى تفتت أو ظلمة أصوليّة من دون أن يجدوا غير الماضي الميّت هادياً ودليلاً. وهذا ليس امتداحاً للسياسة الأميركية، ولا لمتعددات الجنسيّة، لكن ما يُمليه الحدّ من جموح"الفضول"الكوني لدينا، قاصراً ومشوّهاً، تُختصَر معه المعمورة الى معاداة أميركا ومحاباتها، فيُغضّ النظر عن قصور قد يكون في المُعادين، وعن محاسن قد تكون في المُحابين، ويُطلَب العلم ولو في بوليفيا قبل أن يطأها الإسبان.