حين التقيت في بداية الثمانينات الأستاذ المشرف على أطروحتي في جامعة السوربون، وهو مستشرق ومستعرب كبير البروفسور بيار تييه بادرني بالسؤال: "ما الاطروحة التي تريد أن تسجلها معي؟" وأجبت - أنا الطالب القادم من الجامعة اللبنانية ومناخاتها -: "نقد الفكر العربي في عصر النهضة". فبادرني الاستاذ السبعيني بالقول: يا بني أنتم العرب تدخلون الى المكتبة العامة وتقولون "نريد قراءة المكتبة!". حدِّد الموضوع والإشكالية بصورة عملية إجرائية! وهكذا كان فأصبح عنوان الموضوع نقد النهضة العربية: دراسة دلالية مقارنة في أعمال شبلي الشميل، سلامة موسى، فرح أنطون. هذا الدرس المنهجي والطرائقي وضعته نصب عيني، كما وضعت نصب عيني الأخرى نصيحة مماثلة لأستاذ جامعي كبير هو شهيد الفكر حسن حمدان مهدي عامل وهي نصيحة "إبستمولوجية" كبرى لأستاذ كان منخرطاً في الايديولوجيا حتى أذنيه! "لا تقرأوا الكتب الثانوية - قال - إلا بعد قراءة الكلاسيكيات" أرسطو، ابن سينا، سبينوزا، كانط، ماركس الخ.... حقاً ان الأكاديمية نعمة، ليس في ذاتها ولذاتها، وإنما لأنها تعلّمنا على الدقة، والتواضع والتدرج تماماً كما يتدرج المحامي على قوانين المهنة وقوانين الحقوق قبل أن يصبح محامياً قانونياً متفرغاً، وهكذا دواليك في سائر المهن الأخرى. هذه المقدمة، هي توطئة، لقراءة كتاب علي حرب "الإنسان الأدنى: أمراض الدين وأعطال الحداثة" المؤسسة العربية، 5002. تشبه طريقة علي حرب في الكتابة والقراءة المثل الذي قدمته أعلاه: باحث يضع عنواناً عمومياً، ويذهب فيه مذهب من يقرأ المكتبة ليكتب أطروحته، فلا يفيد ولا يستفيد. يحب علي حرب الحكمة، أو الفلسفة، والفلسفة بالمعنى اليوناني القديم تعني "حب الحكمة"، ولكن الفلسفة قبل هذا التعريف وبعده تعني شيئاً يسمى المعرفة أو العلم الإبستمي، أي العلم الدقيق، الصحيح، المُحكم. وبرأيي ان معنى الحكمة أو حب الحكمة هو، ههنا، الإحكام العلمي، الذي يعني باليونانية الرأي المجرد، المتجرد ordoxa، وليس مجرد الرأي doxa، لأن مجرد الرأي قبل - الفلسفة كان باب الجدال فيه مفتوحاً على مصراعيه، في الفكر السفسطائي الذي يبحث في الوجود واللاوجود، والحق والحقيقة، والسعادة والفضيلة من دون طائل. العلم الابستمي، أو العلم بالماهيات أو "الخصائص الكثيرة للشيء التي نطلق عليها اسماً واحداً" كما عرّفها أفلاطون في محاورة "تياتيتوس" هو الذي حسم الأمر بتأسيس المعرفة على المفهوم أو الأفهوم concept، الماهية، التي يتعين بها الشيء على ما هو به كما هو، بهويته، وذاتيته. وجاء أرسطو فهذب هذا النمط من المعرفة العلمية الإبستمية بوضعه مبادئ عامة للعقل الهوية، والتناقض، والثالث المرفوع وعشر قواعد لمقولاته، وخمساً أخرى للسبب أو العلة. ومبادئ أربعة للتحليل والقياس analogie ليس هنا مجال لتعدادها والخوض فيها. وعندما وضع أرسطو، بعبقريته الفذة مبادئ ثلاثة للعقل لم يكن غافلاً عن مبدأ الاختلاف التفاضلي في هذه المبادئ، وإن في حدود معارف عصره. ولذلك نجده يقول في كتاب "التأويلات" ان "كلماتنا لا تحدد الحقيقة من الداخل، ولا تستطيع أن تلغي الاختلاف بين تطابقات معرفتنا والواقع الذي ننشد معرفته"... جاء نيتشه في العصور الحديثة ليقلب القيم، وينادي بمعرفة تفاضلية منفكة عن الذات والذاتية، تقوم - على عكس المعرفة الأُفهومية اللوغوقراطية - على الدلالة والقيمة والارادة المحددة للمعنى والقيمة، في علاقة الفكر باللامفكر فيه، في جينيالوجية المعرفة. ولكن هل يعني هذا أن مبدأ "الهوية" قد ألغي وانتفى كما يظن البعض - ومنهم علي حرب - وهل الهوية نافلة، بلا قيمة؟ كلا. فحتى بالمعنى الجمالي، والميتافيزيقي، هناك ماهية للفكرة، تتعين بها الفكرة كفكرة، ولها صفة الثبوتية النسبية، وإلا فالمفاهيم تختلط، ويصبح الأسود أبيض، والمختلف مؤتلفاً، والحي ميتاً، والوجود غير موجود الخ. يقدم علي حرب "الفيلسوف" على المفكر، فيما يقدم هايدغر المفكر dinker على الفيلسوف، باعتبار أن الفكر انفتاح أو اكتشاف بينما الفلسفة مفهوم واصطلاح. فهل يتقيد الباحث علي حرب بقواعد النظر الفلسفي، الأكاديمية الأولية، قبل أن نقول المنطقية والابستمية والإبستمولوجية؟ وهل مساهمة علي حرب في القول الفلسفي فلسفة؟ أم سفسطة؟ تفكير إبستمي، علمي، أم جدلي وكلامي وخطابي؟ المدرسة التفكيكية تعالوا لنرى! قبل الولوج في لعبة المصطلحات والكلمات عند كاتبنا لا بد من التساؤل عن طريقته المنهجية. وعلي حرب باحث من المدرسة التفكيكية، وهي عبارة عن منهج إكسترا - نقدي، يقوم على مبدأ الاختلاف التفاضلي الجينيالوجي، التكويني، يستدخل الاختلاف التفاضلي على العقل بحثاً عن اللامعقول اللامفكر فيه بأبعاده الدلالية والاشارية في ذات العقل والعاقلة ratio من خلال نقد النزعة العقلية - التمركزية اللوغرقراطية. أما الطريقة الاجرائية المتبعة في كتابته وقراءته - وهو يقدم القراءة على الكتابة في مفهومه للتناص ومعالجة النص ? فهي الطريقة التداولية، وهي كما نعلم ترجمة لمصطلح pragmatisme. والمقاربة التداولية تقع على مفترق الأبحاث الفلسفية واللسانية، في الاتجاهات السيميائية والدلالية والتواصلية عند بيرس، فريجه، وفتغنشتاين. وثمة تداولية شكلية بدرجات متعددة بارهييل، ستالناكر، وهانسون. وتداولية اختزالية reductioniste راسل وتداولية إشارية عند "كوشي". وهناك تداولية تهتم بالسياق عند سيرل، والمعنى الموضوعي مع ديكرو، تقوم على الاقتضاءات والتضمينات. وهناك تداولية تتعلق بأفعال اللغة. وهناك تداولية تواصلية نجد آثارها في كتابات آبل، وهابرماس وجاك فرنسيس... فإلى أي مدرسة من المدارس التداولية ينتسب علي حرب؟ يعرّف حرب التداولية "بالمراس الوجودي، والعمل النقدي المتواصل والمزدوج على الذات لتقوية القناعة بتناهينا وتواضعنا الوجودي"... ومن هذا التعريف يطلع علينا بمفهوم جديد للانسان العام والعربي - الإسلامي في شكل خاص هو "الانسان الأدنى" في تفكيكه لمفهوم الانسان وإعادة بنائه، وهذا الانسان برأيه حلقة وسيطة ما بين القرد والانسان، وهو مفهوم غايته إعادة النظر بالأنسنة الخادعة، المزيفة بغية التخلي عن المكابرة لكي نعترف - والقول للكاتب - بأننا أعجز وأجهل وأوهى وأخبث وأشرس من أن نصف أنفسنا بصفات السمو والطهر والعظمة والفضيلة والعلم ص 12. دعت الفلسفة النقدية البنيوية والأركيولوجية الى فلسفة "موت الانسان" باعتبار ان الانسانية الغربية نسيت "كينونة" الانسان، واختصرت الانسان بماهية الانسان العام، بحيث أشكل الانسان على الانسان - كما يقول أبو حيان التوحيدي - فهل مفهوم علي حرب مشابه لهذه النزعة النقدية ما بعد - الانسانية؟ في الشكل نعم! أما في المضمون، فنظرة علي حرب الى الانسان الأدنى، دونية ودون هذه النظرة الفلسفية المتعالية. ينتسب علي حرب الى فلسفة الاختلاف، وهذا يعني من وجهة نظره - ونظرنا - قبول الآخر والمختلف، فهل يقبل، حقاً، وفعلاً الآخرين، والحق بالاختلاق والاعتراف؟ لا يبدو الأمر كذلك. فالآخر الاسلامي، والقومي، والماركسي والعلماني التنويري في نظر الكاتب - على حد سواء - أصحاب مذاهب عقيمة وعاجزة ومفلسة ورجعية وهشة... يعدنا الكاتب بأن يضع موضع المساءلة أو النقد والتفكيك ما هو سائد من العقليات والمذاهب والمقولات والتصنيفات والسياسات موضع المساءلة والفحص والمراجعة - وثمة ضرورة بلا شك لمراجعة كل فكر وعقيدة وأدلوجة ومذهب لتوليد امكاناته اللامفكر فيها، واللامرئية، فهل يقدم الكاتب نقداً، تفكيكياً، توليدياً، غايته انتاج المعنى وإبداع القيمة؟ يُقال ان كتابة علي حرب تبسّط المعنى، بالمعنى الدلالي لكلمة vulgarisation بالفرنسية، ولكن من يستعرض مصطلحاته، من العنوان "أمراض الدين وأعطال الحداثة"، "الإنسان جرثومة فساد"، "فيروس الأصولية"، "عصاب نفسي"، "فخ ثقافي"، "حقول ألغام"، "عمى ايديولوجي"، "داء عضال" لا يكتشف في أحكام الكاتب، الهادئ في مظهره الخارجي، عصاباً باتولوجياً مرضياً فقط، بل يكتشف أن الكتابة هي كتابة سوقية، تستخدم منطق السوق التشبيح اللغوي وتدافع عن "منطق السوق" ليس بالمعنى الدلالي فقط، وإنما بالمعنى الفعلي والواقعي. يقول الكاتب ان منطق السوق والمعلومة والشراكة، والعملة، والقناة الميدياء، والسلع هي التي تجمع البشر، لا الثقافة والهوية: بول غيتس رمز العصامية، وليس رأسمالياً جشعاً يجمع الثروات، وهو حقق ثروته بما يبدعه في مجال البرمجيات بلا كيف؟... "والديموقراطية والعدالة والحرية يدافع عنها المبدعون - أمثاله -الذين يصنعون الحياة بإنتاج المعرفة والمعلومة أو الثروة والقوة" ص 120 وكل هذا حق، ولكن لا يطرح علي حرب سؤالاً على نفسه كالآتي: هل ثروة المبدع الهائلة متكافئة مع قيمة إبداعه وإبداعات غيره من المثقفين، قديماً وحديثاً، هل كان أينشتاين، أو هل يحق له أن يكون، بثراء بول غيتس؟ ولماذا، وههنا المفارقة، لم يحصل مكتشف معلومة فائض القيمة ماركس على ثروة تضاهي ثروة بول غيتس بل مات فقيراً معدماً؟ أما كان من حق واطسون، وماركوني وحسن كامل الصباح أن يكونوا أثرياء مثلهم مثل بول غيتس؟! ولا يخفي علي حرب إعجابه بنجوم "سوبر ستار" ونجاحاتهم المالية: وكان عليه أن يستكمل إعجابه بنجوم "روتانا" جميعهم، باعتبارهم رموزاً للعصامية، والثروة والقوة، والنجاح! في منطق "الإنجاز" هذا، تأخذ عبارة vulgarisation معناها "المطابق" مثلما يتطابق الفيلسوف وپ"الفيلسوق"! إنها العقلية البراغماتية التداولية، عقلية الإنجاز، والنجاح، وتحقيق الإمكانات وفق منطق السوق، والسلعة، والميديا، والسلطة. وهي طريقة الحياة الأميركية، طريقة تحقيق الثروة والوفرة ولو على حساب العالم والعالمين mony talks. وتلك هي الفلسفة هي التي يدعونا اليها علي حرب لندخل في منطق العصر والعولمة والحداثة الفائقة. وعلى هذا الأساس يدعونا الى أن نشتغل على عناويننا ومفاهيمنا، القديمة والحديثة، تغذيةً وتحويلاً، لتغيير خريطة الإمكان ومجريات اللعبة، بانتاج الجديد من اللغات والمجالات أو الصيغ والمعادلات أو الأساليب والآليات، وأن نفكر بصورة حية ومثمرة، بنّاءة وفاعلة، وتفعيل منظوماتنا وأدواتنا في الفهم والتقويم أو في العمل والتنظيم أو في المعالجة والتدبير ص 4 وإلا كنا عجزة وعاجزين عن مواكبة العصر! حداثة باهتة هل الأصولية الدينية "أفيون" أم "فيتامين" أم "فيروس"؟ يقدم لنا الكاتب توصيفاً ظواهرياً للصلة ما بين المقدس والمتعالي، والمحايث والدنيوي جامدة ستاتيكية، تقترن فيها الأصولية بالقدسية والتعالي، ولا يفهم مغزى اعتبار ريجيس دوبريه أن الدين والدينية في حداثة باهتة قامت على "اللاقدسنة" وپ"اللاطبعنة" في الغرب" فيتامين الضعفاء"، والدليل على ذلك حملته الشعواء على الأصولية باعتبارها الداء والفيروس الخبيث الذي ينبغي استئصاله من جسد الإنسانية، من دون أن يكلف نفسه عناء "فهم" هذه الظاهرة بعلائقيتها السببية كما يفعل ريجيس دوبريه، ومرشيا إلياد، ورينيه جيرار مثلاً. ... المشكلة، والأزمة، والكارثة قائمة في "منطق الهوية" والحل في الاندماج الكوني في الحاكمية العالمية. هل وصلنا الى حالة الحاكمية العالمية، وتجاوزنا هوياتنا الوطنية والقومية في مجتمع عالمي مفتوح يقوم على العدالة، والتكافؤ، بين الأفراد والشعوب؟ يرى علي حرب بكل راحة ضمير اننا وصلنا بفضل العولمة الى الاقتصاد الافتراضي والميديا والسبرنطيقا الى المجتمع العوالمي، الكوكبي، على رغم أنف حماة الهوية، المدّعين والمشعوذين، وعجزة الحداثة، القوميين والماركسيين والعلمانيين ودعاة التنوير! وبناء على ذلك يؤيد علي حرب حق التدخل - الباطل! -، بل "واجب التدخل" - كما يقول - من جانب دولة أو مجموعة اقليمية أو الاسرة الدولية في شؤون دولة أخرى أو مجموعة من الدول في شؤون الدول الأخرى ? بحسب ما يصوغ المسألة بيار هاسنر، أستاذ العلاقات الدولية في معهد الدراسات الدولية في باريس تشرفنا!. وعلى رغم هجمة الكاتب الشعواء على دعاة التنوير والعلمانية نجده قد تحول الى علماني متزمت ملكي وجمهوري أكثر من الجمهوريين في فرنسا في تأييده لإلغاء الحجاب في فرنسا، بحجة أن الحجاب رمز وليس فريضة دينية على عكس موقف الأصوليين أصحاب منطق الخصوصية الذين يغلبون منطق الهوية على ثقافة المواطنية. ومن أعجب المواقف التي يبدو فيها علي حرب مستشرقاً جاهلاً قوله "إذا كان الحجاب ليس رمزاً دينياً بل فريضة دينية فمن باب أولى أن يرفض، لأن الفرائض والطقوس تمارس في البيوت أو في دور العبادة لا في المؤسسات العامة". والسؤال، بمنطق الحق بالاختلاف والاعتراف هو الآتي: هل يحق للأصولي أن يكون أصولياً؟ وثمة فارق ما بين الأصولية والتمامية - كما يحق للعلماني أن يكون علمانياً، والوجودي ان يكون وجودياً في نظام المواطنية؟ ماذا عن العرب والعصر؟ لقد ولى زمن القومية، وخطاب الوحدة، القائم على هواجس الهوية، وبات على الرجعيين - الجدد من قوميين وماركسيين، الاندراج في الحداثة الكوكبية! فالعربي الجيد، في عصر الحداثة الفائقة هو الغربي... ولو حاولنا تجريد المثقف العربي من كل أثر غربي لأصبح عارياً، حتى من زيه ولقبه، فضلاً عن معارفه! المفارق في مواقف علي حرب غياب البُعد العلائقي بين الموضوع والمحمول، والذات والموضوع، والمقدمة والنتيجة، فهو يحدثنا عن نجاح ماليزيا والصين في التنمية، من دون تعارض مع الوحدة والحفاظ على الهوية، ويعارض في الوقت ذاته استراتيجيات الوحدة والتنمية، والحداثة والتنوير العربية، داعياً الى ثقافة العولمة والهجنة والحداثة الفائقة. انها حالة الاغتراب، والانفصام التي تحول الانسان الأعلى المتعالي إنساناً أدنى، مملوءاً بالشعور بالدونية ، وپ"للمرء من إسمه نصيب": حرب علي حرب على حرب.