ينفرد "حزب الله" بين جميع المكوِّنات اللبنانية، باستخدام مفردات وتعابير من نمط خاص. فعلى مر السنين، تأصَّل، في أدبياته ومواقفه وخطاباته، ميل صريح نحو تبني مقولات ونعوت وألفاظ من فضاء فكري جَبَل الأسطوري بالمذهبي، عمل حثيثاً على تلقين جمهوره وتنشئته وفق مواصفات معيارية مغايرة لمألوف المشهد اللبناني. سبق لبحَّاثة علم الاجتماع أن اعتنوا كفاية بظاهرة تتصل بالمنظومات الأيديولوجية، أطلق عليها ما يسمَّى بسوسيولوجيا الجماهير. ولقد هدفت دراساتهم إلى بيان مدى تطبيع مجموعات تدين بالولاء السياسي، وإسكانها بيئة مصغرة متميزة ضمن المجتمع الأوسع بحيث تنبض بكلية وانسجام، وتستجيب عفوياً وعضوياً لطروحات قيادتها، وتتسم برد فعل موحَّد ونقزة حيال كل مقترح أو خطوة يتقدم بها طرف آخر لوقوعها سلفاً في دائرة الشبهة. ويُجمع معظم الدارسين على أنَّ ناتج هذا المنحى مزدوج المردود، انغلاق على الذات الجمعية واستيلاد هوية عازلة، والقعود بين عاملين يتكاملان ويمدَّان الواحد الآخر بسعرات الحرارة والغذاء المتبادل. تسود هذه المحابس لغة تمتاز بتعبير صادق من المناخ العصبوي الحاضن. لغة لها بنية عصية على الغريب، مشبعة بالبعد الرمزي والاستعارة من خزانة حافظة للذاكرة، تلتف على الشريك في المواطنة، وتوائم المثيل القائم ما وراء الحدود في مدار نظري مشترك. فعلى وجه العموم، يستفاد أنَّ حلقة الوصل تقفز فوق الجغرافيا البشرية التي يرسمها الكيان الدولتي، كون رباطها من ألياف عقدية مشدودة إلى أوتاد ركنية تنتصب عليها الرايات بمثابة بطاقة تعريف للمناداة ولمّ الشمل. ينزع الجامع العقيدي إلى تمتين وشائج الإلفة وبعث الروح في خلاياه بالنفح الخلاصي. بذلك يعيد إنتاج رابطة شبيهة برابطة الدم القبلية باستحضار مسوِّغات من الحقل اللاهوتي/ الأيديولوجي وإنزالها مقام النصرة وتوحِّد المسار والمصير. عملياً، تؤول هذه الصناعة الرؤيوية إلى إيقاظ"وعي"جهوي على خلفية انتماء يتربع في صدر المحددات وسلَّم الأولويات، وتدثر مخلوقها النظامي بهالة الصحوة والهوية المشروطة وقفاً على المريدين، مرادفاً لعصبية مستترة وانطوائية بخط عريض. أما الوجه الآخر لهذا المبتغى فيتمثل بالنفي الكياني وإقصاء المجاميع المجاورة عن حظوة الانتماء والائتلاف وبالتالي التأسيس لخصومة دهرية ومسبِّبات فراق. كل تعريف حصري مدخل لتصنيف وتوصيف المقابل في خانة النقائض، على قاعدة حكمية معيارية لا تقبل الاجتهاد. ويتدرج الفصل الذهني والتعاملي ليبلغ حد ذوي القربى، في بحث دائم عن النقاوة والالتزام المطلق بصحيح العقيدة وفق أقانيم قاطعة يسهر عليها حرَّاس الهيكل. هكذا حلَّ الطلاق بين أمميتين عمَّاليتين خرجتا من رحم طبقي واحد، ثم انفصل البلاشفة عن المناشفة داخل الحزب الاشتراكي العمالي الروسي، ومن ثم سار تروتسكي وحيداً من الاتحاد السوفياتي والتف حوله أنصار أممية جديدة. ولئن حكي عن الأمة العربية أو الإسلامية وضرورة درء المخاطر التي تحيق بها، يُكتشف أن أحزاباً شمولية صادرت الميراث وأسبغت على نفسها صفة الرقيب والمشرف الأمين، فيما شطبت اعتباطياً دولاً وتيارات وسلخت عنها نعمة الرسو في حضن الأمة. كذلك تتنافس وتتعارض حركات تدعي كل منها النطق باسم الأمة الإسلامية، على قاعدة مذهبية، وتختلف فتاوى الجهاد حسب هوية الأطراف القائلة بها، كل ينسب لمرجعه تفويضاً يخوله الإفتاء من لدن القوامة على مصالح الأمة، وغالباً ما ينتهي الأمر تقاذفاً بالحرم والجرم، وتميُّزاً بالمظهر والملبس، وتشديداً واقتباساً من مصادر فقهية مرجعية على وجه الخلاف. تعمل المنظومات المعقدنة على تحصين دارها وتصليب عدد أتباعها، وتنهل من بئر تعاليم موثوقة يقتدى بها على سبيل الأمانة والوفاء. تُحاط هذه المحدّدات"النظرية"بأسمى الشهادات، وترفع إلى مصاف الحقائق الكنسية لدى رافضي الإكليروس، وإلى رتبة المقدَّس عند الملتزمين بالغيبي المغلف دينياً. وفي كلا الحالين يبرز منطوق أسطوري هيولي يلف الخطاب ويقيه مشقة الامتحان في نطاق الواقع المعاش، خشية النقد أو مجرد المراجعة. وعليه تملي الرسالة الموعودة ضوابط وموانع للحد من حركية مربكة، وينساق المريد إلى احترام طوعي للطقوس، ويقنع بمضار المساءلة، كأنَّما القيود حجاب الوقوع في الخطيئة، وحاجة لصفاء البنية، ودرع واقٍ من السقطات والإنحراف. بدأ"حزب الله"في لبنان من حيث انتهت الثورة الإسلامية في إيران بعد تنظيف صفوفها من الحواشي العلمانية والليبرالية والطاقم الأول الذي تأهَّل على تماس مع المقاومة الفلسطينية. كان عليه، بادئاً، المواءمة بين إرث الإمام الصدر والولاء للمرشد الأعلى، وتوضيب رزمة أدوات لاحتلال مساحة مناسبة على الرقعة الشيعية على حساب حركة"أمل"ذات الأبوة الصدرية، المنادية بالاستمرار على خط الإمام المؤسِّس المغيَّب. اقتضى ذلك صراعاً مريراً على المواقع، وتمايزاً بائناً دفع"حزب الله"إلى اعتماد مرجعية الثورة الإسلامية، والدعوة لقيام جمهورية إسلامية مماثلة في لبنان. غير أنَّ الحزب تنبَّه لاحقاً، إلى ضرورة وجدوى طي هذا الشعار/ الهدف، واختراق النسيج اللبناني تحت راية المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. لكنه، وإن تمكَّن من ممارسة وقيادة المقاومة بصبر ونجاح، فإنَّه، واقعاً، بلور نمطاً حسينياً صرفاً ونهجاً كربلائياً بغية الإمساك بجمهور الطائفة الشيعية، وتجذير وجوده الطاغي في حضنها. هذا ما دفعه إلى توكيد طابع المقاومة الإسلامي، بينما اختارت حركة"أمل"أساساً الصبغة اللبنانية، متجاوزاً ودافناً المقاومة الوطنية التي أطلقت الشرارة الأولى وأجبرت الاحتلال الإسرائيلي على الانكفاء نحو الشريط الحدودي. توالت مظاهر التعبئة والانتشار، وحصد"حزب الله"رصيداً مرموقاً بتضحيات مقاوميه، وعمل آلة دعائية رفدت الجهد العسكري وعظَّمت مكانة الحزب وإنجازاته. استطاع الحزب اجتياز المراحل وتظهير دعواته وسياساته بكفاءة للتمويه على هويته الأصلية وتوليف جهاديته المشتقة من جعبة ولاية الفقيه ومستحضراتها السلطوية. وللدلالة، أنجب انسحاب إسرائيل من جنوبي لبنان وتحرير الأرض، انتصاراً مشهوداً، اعتقد لوهلة أنَّه خاتمة العمل المقاوم الملازم لاستعادة التراب الوطني. بيد أن الحملة المحمومة التي أطلقت قبيل الانسحاب، وذهبت إلى اعتبار الانسحاب الإسرائيلي المتوقع بمثابة المؤامرة في ضوء العهد المقطوع من باراك خلال الحملة الانتخابية بالانسحاب من جانب واحد في غضون سنة من تاريخ فوزه، وجدت تفسيرها اللاحق خاصة بعد رسم الخط الأزرق في نبش قضية مزارع شبعا من حافظة السكون، والدفع بها إلى الواجهة والمفصلية عنواناً لاستمرار الحاجة للمقاومة وامتلاكها السلاح. وبتعبير آخر، يتبيَّن أنَّ الأصل في بقاء صيغة المقاومة بعهدة فريق جهادي يتناول المسألة من منطلق الرسالة التي أوكلها إلى ذاته، وما الأرض إلاَّ ذلك العنصر الموصول بالمهمة. وعليه، وكما تقدمت مزارع شبعا على مصلحة لبنان الشاملة في التقاط الأنفاس والاستقرار عقب التحرير عام 2000 رغم أن العمليات في قطاعها تقطعت موسمية تذكيرية، كذلك أضحى سلاح المقاومة الصاروخي بخاصة غاية في ذاته، أسفر بحثاً عقيماً عن مخارج داخلية حول طاولة الحوار لتفادي مفاعيل القرار 1559، دمَّرته حرب دامت 33 يوماً، ورافعة غير معلنة للتحكُّم بالقرار اللبناني الشامل على صعيد السلطة سنداً للصمود المحقق المسمَّى انتصاراً. ومن زهدٍ بالمناصب والحكم وتفرُّغ سامٍ للعمل المقاوم، انتقل"حزب الله"تدريجياً إلى معترك الانتخابات بدخول الندوة النيابية واجتياح المجالس البلدية، ومن ثم الاشتراك في الحكومة، توطئة للمطالبة بالنصاب المعطِّل، وإلاَّ الاعتكاف والحرد والاستقالة تحت طائلة العصيان المغلف بوسائل الديموقراطية. عرف"حزب الله"أهمية الكلمة وأتقن استخدامها تماماً كالرصاصة. وليس بغافل أنه قد أنشأ جهازاً في هذا السبيل، وطوَّر أساليب المخاطبة تبعاً للظرف والمكان بإخراج درامي متوسلاً وسائط التقنيات كافة. والملاحظ، وفق التسلسل الزمني، تبدُّل تلاوين الخطاب المعتمد حول ثابت المقاومة المحوري، عامود لغة الحزب الفقري ولب انشغاله. لهذا، يسجِّل ذلك الإصرار على تعبير المقاومة بديلاً عن الحزب لإضفاء مسحة التضحية عليه والقداسة على أفعاله، وإيقاع مهمة خلاصية على عاتقه نيابة عن الشعب والأمة. إلاَّ أن الحزب يلجأ إلى صريح المقال في مجالسه ويمهر أحاديثه ومطوَّلات التعبئة والاستنهاض بالطرق على الموروث الكربلائي ومرجعية أهل البيت، باعتباره مكملاً وفياً للشهادة وربيباً للدوحة الحسينية يجمع بين عاشوراء والقدس السليب وينيط بذاته النهوض بواجب الأمة إزاء تقاعس الآخرين وخيانة من ارتضى السير على خطى معاوية ويزيد. إن مقاربة التاريخ على هذا النحو تضع فاصلاً بين الذات والآخر، وتجعل من دونية الآخر شرطاً لرفعة الذات. ينسحب هذا المضمر القيمي ويتمظهر في ثنايا لغة"حزب الله"وتحت عباءة وصفاته عند لحظات الشدَّة والمواقيت المفصلية. فوفق قراءة مؤدلجة بامتياز، يتردد أن الحزب مشروع شهادة بلا مقابل، يستوي في موقع المظلوم لتفانيه وعفته وارتفاعه عن الصغائر ونهوضه بقدر الرسالة عوضاً عن المتخاذلين الضعفاء. وهو، بلا جدال، منبت الرجولة وصدق القول والفعل، يفي عند الوعد من دون منَّة، لأنَّ تلك قسمته، وغايته وعلَّة وجوده، يقف سيِّداً خادماً للناس، ويجسد مفهوم الإمامة والرجاء، ملكه الجنَّات والخلود في تقشُّفه وازدرائه بالموت والحياة الرغيدة. أما الظالم، فهو عدو يقاتله بشرف، وهو جائر متآمر في الخفاء، نكبت به الأمة وجرجرت أحابيله منذ زمن بعيد. يطيب ل"حزب الله"تكرار تمنطقه بالشفافية وكأنما يوجِّه التهمة لسواه، يقينه أن دونه معشر المخادعين الخائفين من انتصاراته والعاملين على جني ثمارها وانتزاعها منه. ورغم نفوره الكياني من التسويات، البغيضة من منظوره والغريبة عن ثقافته، يقرُّ باحتمالها خياراً بين السيئ والأسوأ، حتى إذا ما فرضتها الضرورات، لجأ إلى التفلت منها بالنسج على الالتباس وتأويل المضامين كيفياً والنيل من مسببِّيها وتوريطهم تبعاً لغايات دفينة حاقدة. في هذا السبيل، يكمن وراء الاستدلال، ويخرج الدلالات المستنبطة من دائرة التقية والحذر المشروع، ليسقط على كل مخالف شبهة التزمت واللهث وراء المكاسب الرخيصة من سلطة وحماية وطلب وصاية ومراهنة على العدوان وكيد الأسرة الدولية والمشاريع الاستئثارية. وكما أبلى في رصد تحركات العدو وفاجأه ونال منه، يطبِّق"حزب الله"الدرس ذاته، راصداً في حقل السياسة، مستعيراً مقتطفاً ما يؤيِّد احتراسه ويدعِّم تفسيراته، كيفما وحيثما تسنَّى له ذلك من سوقه على لسان وبقلم المراقبين، ليقيم الحجة القاطعة ويجلس في مقعد الاتهام. رسم"حزب الله"خريطة العالم على مقاس مراده، وهو يتهيَّأ لما جانب البوح به طويلاً وتعفف عنه في أدبياته، عنيت القبض على السلطة وتمدد دولته المصغرة إلى الفضاء اللبناني الشامل. ولا شك أنه يحفز لجولة جديدة بالمعايير كافة على حلبة الداخل بعد انتفاء تماسه المادي مع العدو الإسرائيلي نتيجة لعودة الجيش إلى الجنوب وتمركز القوات الدولية وفق القرار 1701. يعي الحزب أنَّ فرصة سنحت له، على خلفية إشعاعه العربي المكتسب بفعل الصمود، يعوِّض ما"خسره"من إمكانية المواجهة والعمليات العسكرية، وأنَّ هذه الفرصة الذهبية قد لا تدوم. لذلك تعمل بطاريات هجومه بكل طاقاتها، مما استوجب نزع أقنعة الستر والتخلي عن صيغ المهادنة، والغوص في خضم خطاب سياسي متشنِّج تسوده اللاءات، قوامه الإملاء والتحذير، غابت عنه وعود النصر المبين والتغني بالدرع الواقي والبشائر، وحطَّ فيه وعيد النفق المظلم والتنديد بأنصاف الرجال. * كاتب لبناني