قبل ان تخفق الأفئدة والقلوب والعيون، والحواس والمشاعر كلها، وتستيقظ على انتخاب الفتى أو الفتاة غرض مودة خاصة ومربكة، كان يسبق صاحب أو صاحبة"الخافق المعذب"مثالُ حبه- أو هواه أو عشقه أو اضطرابه المفترض. ففي المجتمعات العربية عموماً، يتقدم مثال الهوى أو الحب موضوعه، وغرضه الباعثَ عليه. وتتناقل مجتمعاتنا هذا المثال في قصصها وحكاياتها وأخبارها. فتروى على مسمع الولد والبنت وهو يرضع ويحبو ويخطو خطواته الأولى، ويلثغ حروفه وكلماته"أشعار"قيس في ليلى أو قيس ليلى، وقيس الآخر ابن ذريح في لبنى، وعنترة في عبلة، وكثيّر في عزة، وجميل في بثينة. وإذا بدت الأشعار هذه، وأخبارها وقصصها التي تصحبها وتلازمها وتترجمها نثراً، إذا بدت فصيحة، وبدا فهمها صعباً، فالأقرب الى الفهم والسمع، وإلى المحكية، ما يروى في الزير بوليلى المهلهل وعنه، أو في أبو زيد الهلالي والجازية. ويصح في القصص والأخبار هذه ما يقوله أحد الكتاب في تعريف العمل الكلاسيكي: هو ذاك الذي يحسب الواحد انه يعرفه من غير ان يقرأه. فسمع واحدنا وقرأ أم لم يسمع قصة"عنتر عبلة"، أو قصة"قيس ليلى"، فهو لا شك"يعرف"هذه القصة. وما يعرفه هو ما ينبغي ان يعرفه، أي ان الحب الذي يجري من واحدنا مجرى النفس هو حب"بنت العم"، وبالأحرى حب"ابن العم". وهذا من قبل ان يولد ابن العم، ومن قبل ان تولد بنت العم. وإذا أصعد في النسب جاز للقائل ان يقول: من قبل ان يولد الأخوان"العمان"، والد الابن ووالد البنت،"ابني"العم. وإذا نزل في النسب، قال: ابن العم وبنت العم متحابان من غير ان يولدا فعلاً وحقيقة. فجائز من غير افتعال ألا يلد المرء، والد الابن وعم البنت المفترض، ولداً ذكراً، أو بنتاً أنثى. فعلى الولد الذكر أن يتزوج"أجنبية"، أو من ليست بنت عم، على قول فارس بني هلال، أبي زيد، فموضع الابن أو البنت قائم، وإذا تعذر ان يملأه صاحبه ملأه بديل أو عوض. ومثال الهوى هذا إنما تنصبه المجتمعات العربية مثالاً محضاً وخالصاً. وهي تعلم علم اليقين، شأن المجتمعات الأخرى، ان المثال لا يُبلغ. وهو لم ينصب إلا رقيباً على العمل، ومعياراً له، ومذكّراً بالسوية المنتهكة على الدوام. وأخبار العشق والهوى العربية تضطلع بهذه الأدوار جميعاً: الرقابة والمعيار والتذكير. وليس إجماع قصص العشق والهوى على رواية تعلق ابن العم الولد ببنت عمه الطفلة وهما صغيران وپ"خيمة"الأهل نظير الخيمة الأخرى، وپ"رعيهما"قطيع الأهل المشترك أو قطيعهما المفترقين، وتوقع الأهلَيْن انعطاف القلبين الخافقين واحدهما الى الآخر - ليس الإجماع هذا صدفة ولا اتفاقاً، بل هو علامة على ما تريده المجتمعات العربية من أهلها، راشدين وأولاداً. وقصص الهوى والعشق هذه إنما هي أمر في صيغة نهي: لا"تتعلق"لا تقع في هوى بغير بنت عمك أو ابن عمك، نظير البنت. ولكن القصص لا تأمر على شاكلة الوعاظ والخطباء والناصحين. فأوامر هؤلاء، او صيغتها الأمرية، تصدر عن آمر أو صاحب أمر. وهو غير المأمور، أو من يتوجه عليه الأمر، وأعلى رتبة. وعلى خلاف التمييز هذا، وعلى خلاف مراتبه، تزعم الأخبار والقصص ان عنترة وعبلة وقيس وليلى وأبا زيد والجازية، وغيرهم وغيرهن لم يميلوا واحدهم الى الواحدة، ولم"يعلق"الواحد بنتَ عمه، امتثالاً لأمر وطاعة. فالهوى"ينبع"من القلب من غير علة ولا"لماذا"، شأن وردة، الشاعر اللاتيني، وهو أخص الخاص، وحميم الحميم، وأعمق العمق. وإذا أصاب خلل هذا الموضع من الواحد وليس من الواحدة؟، فزوّج"العم"بنته الى غريب أجنبي، ورحلت البنت وشط بها المزار، تهدد"الجنون"ابن العم. فخالط الحيوان وأنس إليه وأشبهه، وترك سكنى الحي الى جنباته، وكّلم الأولاد، وقال الشعر"تداوياً"، على قول ابن الملوح أو مجنون بني عامر، وعلاجاً لنفسٍ"شعاعٍ"أو متفرقة، على قوله كذلك. وقد يكون"جنون"عنترة بن شداد من صنف آخر. فهو"كرّ"لقاء حريته. والحر يزوج الحرة. فألهمه حبُه بنت عمه الشجاعة وحسن البلاء والقتال. وهذه من مسالك الهوى أو بعضها. والدعوة القصصية الى هوى بنت العم، والاقتصار عليه، لا تتيح تصوير صدور الهوى هذا عن النفس والرغبة وحسب. فالصيغة القصصية تلم إلماماً مفصلاً بالمشاعر، والكلمات والحركات والسكنات، وتلم بالمواضع والأوقات. فهي تصف اثر الغياب والعودة والانفراد والجمع. وتقترح العبارات عن هذه بالكلمات، وبالجوارح. وتنتخب أوقاتاً للشوق واشتداده، وأخرى لبعض النسيان، تأسياً. وتدل الى مواضع دون أخرى، مثل البئر أو مورد القطيع، للتلاقي، وأخرى مثل أطراف الحي للرحيل. فلم يكن على أحمد شوقي، شاعر"أوبريت""قيس وليلى"، إلا الاحتكام الى ما تقترحه الأخبار وتنتخبه، والسير على هديها وإيحائها. والأشرطة السينمائية التي حذت حذو قيس أو عنترة أو أبي زيد اقتفت الأثر نفسه. والروايات الحديثة والأفلام، الى الأغاني التي لا تحصى، يسعها النسج على منوال قصصي يجمع الى ثبات المعاني الرحمية والجنينية تقلب التفاصيل والوقائع والأحوال العينية. وقد لا يعشق، اليوم، امرؤ او امرأة على المثال القيسي أو العنتري أو الهلالي. ولكن روايات العشق على هذا المثال لم تطو. وربما لم تطو، وهذا قد يكون أقرب الى الحقيقة والصدق، الرابطة الوثقى التي تقيمها الأخبار العربية والبدوية بين صلة الرحم، أو القرابة، وبين الحب والزواج الواحد. فالعشاق أولاد عمومة. وهواهم يتحدر إليهم من رابطة أهلهم، ومن حي الأهل، وسكنهم المشترك، ودفعهم الاختلاط والامتزاج والتمدين. والهوى هذا لا يختبر النفس ولا تختبره. فهو يحل فيها، وهي تستقبله. وهذا الهوى واحد، لا يحول ولا يزول. وإذا لم يفضِ الى الجنون، أفضى الى"قضاء الوطر"وشفاء"لبانات الفؤاد المعذب"الى آخر الدهر أو العمر، وإلى ابعد الأجلين. فلا يعقل ان"يعرف"، على قول سفر التكوين، رجل غير عنترة بنت عمه بعده. فالهوى يقف الواحدة على رجلها وصاحبها. ولعل"وظيفة"هوى مثل هذا، في المرتبة الأولى، هي تثبيت حد فاصل بين الأهل، أهل الربع والحي من بني العمومة، وبين"الأجانب". فيهوي الفؤاد، أو يقع ويضعف ويخفق، حيث تتناقل ذرية الأولاد والأحفاد، وأولادهم ما تملكه اليدان. وما يجمعه الهوى في واحد، ولو على"عذابات"وتبريح وشوق ولواعج تحاذي"ذهاب العقل"، ثم يجمعه الجماع او الزواج وثمرته، لا تفرقه"التجارة"، على معانيها الواسعة والضيقة كلها. فالتجارة تصل"غرباء"بعضهم ببعض، وتسوي فرقهم وتمهده في"عملة"مشتركة. ولذا كانت الرحلة، وكان الظعن، أقسى ما يصيب المحبين. فالفراق قرين الموت. وهو مثله يُنسب الى الخالق والباري، أو الى الأقدار. وهو مثل البحر لا يقدر مخلوق على موجه إذا جن وعلا وتلاطم. ونحن، المولودون على أنحاء مختلفة من الروايات والأخبار هذه، نشرّق ونغرّب ونقيم، ولا نخالط إلا"أجانب"، وقلما يصعد واحدنا في نسبه الى ابعد من جدين، وقلما يعود ما تملكه يداه الى"ميراث". ولكننا، وحالنا هذه، نأتم، عشقاً، بهؤلاء الذين رعوا"الشاة"معاً، وصارت خيامهم خطوة من خيامها، وتلفتت قلوبهم إذا غابت الطلول عنهم، وسبتهم عيون المها، واشتمل الليل عليهم، وترجحوا بين حنين وصبابة الى يوم الساعة.