صدر عن دار زهراء الشرق في القاهرة كتاب "أسوار وقلعة صلاح الدين"، في هذا الكتاب يدشن الدكتور خالد عزب تجربته في العمل في مجال الحفر الأثري عن أسوار صلاح الدين بالقاهرة، والتي أقيمت الى جوارها حديقة الأزهر، فضلاً عن أطروحته لنيل درجة الدكتوراه التي درس فيها تطور عمارة مقر الحكم في مصر، وهو هنا يقدم لنا فضلاً عن الأسوار قلعة صلاح الدين الأيوبي التي تعد مع الأسوار خطاً دفاعياً حصيناً شيده صلاح الدين ليدافع عن العاصمة المصرية في وجه الهجمات الصليبية. المؤلف في مقدمة الكتاب يذكر انه يحاول من خلال كتابه تقديم صورة متكاملة للرؤية الاستراتيجية الحربية للسلطان صلاح الدين الأيوبي وهو مؤسس دولة كان عمرها الزمني قصيراً، لكن تأثيرها السياسي كبير، فعلى رغم المحاولات المستمرة لتشويه صورته أو الانتقاص من قدره، إلا أن جهوده ومآثره ظلت والى الآن دون العناية المرجوة، فصلاح الدين إنسان بشر يخطئ ويصيب، ومحاولة اصطياد الأخطاء للتقليل من شأنه، هي دون مستوى إصابة كبد الحقيقة، فالتقويم الموضوعي يجب أن يكون هو المجال الذي نسعى اليه لإبراز السلبيات والايجابيات لأي قيادة سياسية، على أن يتم ذلك وفق معطيات ومفاهيم عصره لا عصرنا. كان صلاح الدين الأيوبي رجل دولة، لذا جمع حوله شخصيات قوية، لها خبراتها أعانوه على الحكم، وناصروه في معاركه، فبهم حقق ما كان يصبو اليه. الفصل الأول من الكتاب يتضمن تحليلاً لعمارة أسوار القاهرة الأيوبية التي تعد أفضل أسوار المدن التي ما زالت باقية الى اليوم، وأكثرها طولاً بعد سور الصين العظيم، فبعد قيام الدولة الأيوبية في مصر على أنقاض الخلافة الفاطمية، وضع صلاح الدين مخططاً استراتيجياً قام على تحصين العاصمة المصرية من خلال إقامة سور يضم حواضرها: الفسطاط، القاهرة وما بينهما من عمران، مع إقامة قلعة تتوسط هذا السور العظيم. أما عن نقطة البداية في هذا المشروع، فهي على الأرجح من امتداد السور الشرقي عند لقائه بالسور الشمالي للقاهرة الفاطمية، يدلل على ذلك ما عثر عليه من أحجار ذات كتابات هيروغليفية في الجزء المكتشف من السور أمام مستشفى الحسين الجامعي حالياً، ويبدو أن قراقوش رأى في مرحلة مبكرة من المشروع أن جلب الأحجار من أهرامات الجيزة التي تعود الى عصر الدولة القديمة امر باهظ التكلفة، فرجع عنه. كما يعد السور الشمالي المرحلة الثانية في المشروع، أما المرحلة الثالثة فهي المرحلة التي تبدأ من القلعة لتضم الفسطاط التي بدئ فيها سنة 581 ه/ 1185م. أي بعد تسع سنوات من تاريخ البدء في بناء مشروع السور بصفة عامة، ولعل ذلك يرجع الى العناية بالسور الشرقي والشمالي إذ كانت غالباً الهجمات تنصب عليهما. خطط السور لكي ينتهي عند طرفيه الشمالي والجنوبي ببرجين كبيرين بمثابة قلاع صغيرة تشكل نقطتي ارتكاز لنهاية السور وبدايته، فضلاً عن نقطة الارتكاز الرئيسة الوسطى المتمثلة في قلعة صلاح الدين، يقوم هذان البرجان بعدد من الوظائف منها: أنهما مركزا قيادة وتحكم فرعيين - يقومان بالإشراف على الحراسة والمناوبة على طول السور - يتوليان الإشراف على أعمال مراقبة أي هجوم وصده وإعاقته. البرج الأول: برج المقس ويقع في نهاية السور الشمالي، وموقعه اليوم قرب جامع أولاد عنان. عرف هذا البرج بقلعة المقس أو قلعة قرقوش. ظل هذا البرج قائماً الى أن هدمه الوزير شمس الدين أبو الفرج عبدالله المقسي وزير الملك الأشرف شعبان بن حسين بن قلاوون، وذلك عند تجديده لجامع المقسي المذكور، وجعل في موضع البرج بستان، ويرجح أن هدمه ثم بين عامي 770 - 779 ه/ 1368 - 1377م. البرج الثاني: عرف هذا البرج بقلعة الكوم الأحمر كما عرف بقلعة يازكوج. هذا البرج المرجح انه كان يقع على شاطئ النيل عند التقاء السور الجنوبي بالغربي. أما عن سبب نسبته للأمير يازكوج فمن المرجح أن ذلك قد يعود لقيادته له. أما العنصر الثاني في خطة بناء السور من حيث الأهمية الدفاعية، فهو الأبراج المفصلية، هذه الأبراج قد تقع عند التقاء مفصلية بالسور، على غرار برجي المقس والكوم الأحمر، ولكن الأبراج المفصلية ليست بمثابة قلاع صغيرة، ولكنها أبراج ضخمة، تبقى لنا نموذجان منهما هما: برج الظفر: يقع هذا البرج عند التقاء السور الشمالي الفاطمي بالسور الشرقي الأيوبي، وهو برج ضخم يتكون من ثلاثة طوابق، ما زال باقياً الى اليوم. وردت تسمية برج الظفر على خريطة الحملة الفرنسية للقاهرة. يتكون البرج من ثلاثة طوابق، الطابق الأرضي يفتح على الشارع الداخلي بالمدينة بعقد وينزل منه الى أرضية الطابق بدرج يغطي المنطقة الوسطى للبرج قبة ضحلة يوجد في مناطق التقائها بجدار الطابق مقرنص من حطة واحدة، ويفتح على الطابق ثماني فتحات من المزاغل موزعة على ثلاثة أرباع الدائرة، ومن الملاحظ أن القبة يفتح بها فتحات شبابيك مستطيلة من الطابق العلوي، وهو عبارة عن ممر مقبي حول القبة تفتح عليه 6 فتحات مزاغل عميقة، كل واحد منها عبارة عن قبو ينتهي بفتحة المزغل، أما الطابق الثالث فهو مندثر الآن، وكان عبارة عن طابق غير مسقوف به فتحات مزاغل. ويستمر المؤلف في تقديم صورة عامة لهذا المشروع ومكوناته المعمارية من أبواب أشهرها الباب المحروق الذي ما زال باقياً الى اليوم، وقد كشف خالد عزب أثناء حفائره بالباب أنه استخدم في العصر العثماني كفرن لصناعة الخزف. كما يقدم لنا وصفاً للأبراج نصف الدائرية التي تتخلل السور وتبرز عنه، وحجرات الرماية التي توجد في بطن السور ثم الساتر الحجري على شكل شرافات نصف دائرية تعلوه. أما الفصل الثاني من الكتاب فيقدم لنا المؤلف وللمرة الأولى رؤية شاملة لقلعة صلاح الدين الأيوبي مصححاً بها عدداً كبيراً من الأخطاء الشائعة، حول هذه القلعة، وقد أعد هذا الفصل ليكون مرشداً للباحثين والدارسين وزوار القلعة إليها، إذ يشتمل على وصف مبسط للمنشآت الباقية في القلعة من أسوار وأبواب، فضلاً عن سعي المؤلف الى الكشف عن التطور العمراني للقلعة في العصور المختلفة منذ انشائها وحتى نهاية عصر أسرة محمد علي. قلعة صلاح الدين التأسيس والتكوين مرت قلعة الجبل في مرحلتين أساسيتين، الأولى هي مرحلة التأسيس التي بدأت على يد صلاح الدين وانتهت بانتقال الكامل بن العادل الأيوبي الى القلعة ليتخذها مقراً لحكمه عام 604 ه/ 1207م. في هذه المرحلة باتت القلعة تستكمل مقوماتها كحصن حربي ومقر للحكم. والمرحلة الثانية تبدأ من عصر الكامل الى نهاية عصر الناصر محمد بن قلاوون، ونستطيع ان نعتبرها فترة تكوين مقومات القلعة كمقر للحكم، وبعد حكم الناصر لم تضف الى القلعة منشآت جديدة تدل على تحولات مثيرة، سوى بعض الإضافات والتعديلات والتجديدات خصوصاً في العصر العثماني، يبقى عصر محمد علي فترة حاسمة في تاريخ القلعة، إذ حدث فيه تغير في التعبير المعماري كان انعكاساً للوضع السياسي الجديد، وهو ما سيأتي الكلام عنه في حينه. طور التأسيس بنيت القلعة على نتوء صخري ارتفاعه 75م، يمتد غرباً من جبل المقطم وهو في منتصف الطريق بين القاهرة والفسطاط. وطبقاً لرواية المقريزي اختار صلاح الدين موقع القلعة بنفسه بواسطة تعليق ثلاث قطع من اللحم في ثلاثة مواقع، كان موقع الرصد هو أكثر هذه المواقع التي بقي فيها اللحم أطول فترة ممكنة من دون أن يفسد، وهو ما يوضح لنا أهمية المميزات البيئية والصحية في اختيار الموقع. وعلى رغم ذلك وقع اختيار صلاح الدين على موقع القلعة الحالي لأسباب استراتيجية، فهذا الموقع يطل ويهيمن على مدينة القاهرة في الشمال الغربي ومدينة الفسطاط في الجنوب. والمسافة النادرة السكان بينهما، والممر او الطريق الشمالي الجنوبي بينهما، فضلاً عن انه قريب منهما بوضع يكفل للقلعة الإمدادات في حال الحصار، وموقعها معزول عما حولها مما يجعلها ملجأ آمناً للحاكم في حالات الاضطرابات السياسية. فضلاً عن تأثر صلاح الدين بنمط القلاع الجبلية في الشام والعراق. لم يكن صلاح الدين ورجاله أول من التفت الى أهمية موقع القلعة، فقد كان متنزهاً، إذ شيد فيه حاتم بن أبي هرثمة قبة الهواء وذلك في ما بين عامي 194 - 195ه/ 809 - 811م. واستعملت من جانب الولاة العباسيين وأقام بها الخليفة المأمون عند زيارته لمصر، ودارت فيها الكثير من الأحداث السياسية الى ان دمرت مع تدمير الجيش العباسي للقصر والميدان الطولوني اللذين كانا يقعان أسفلها وكان ابن طولون ومن خلفه قد اعتنوا بها لذا عدها العباسيون جزءاً من رموز السلطة الطولونية المستقلة عن دولة الخلافة، يرى كازانوفا أن مكان قبة الهواء كان يقع في المكان المعروف حالياً بمتحف الشرطة والقاعة الأشرفية المكتشفة حديثاً. إذا أردنا أن نحلل التطور الطوبوغرافي للقلعة طبقاً للتحولات السياسية المختلفة التي طرأت عليها فلا بد من أننا سنتعامل مع مشيدها، وكذلك من أدخلوا تعديلات جوهرية عليها. عهد صلاح الدين الأيوبي الى بهاء الدين قراقوش تشييد قلعة الجبل استخدم بهاء الدين قراقوش الأسرى الصليبيين في بناء القلعة. وهو ما وفر عليه الكثير من الأموال والوقت اللازم لتدبير العمالة اللازمة لأعمال قطع الأحجار في منطقة الخندق المتاخم للقلعة والتي تفصل القلعة عن جبل المقطم. وتوحي ملحوظة ابن جبير حول قطع الأحجار بأن هذه الأحجار كانت تستخدم في بناء أبراج وأسوار القلعة، وهو ما يوفر المال والوقت والجهد. واعتمد بعض الباحثين على ما ذكره ابن جبير في دحض ما فهم خطأ من رواية عبداللطيف البغدادي عن استخدامه أحجار الأهرامات الصغيرة في الجيزة في بناء القلعة، غير أن رواية البغدادي تفيد بأنه استخدم هذه الأحجار في بناء جسر بين الجيزة والفسطاط، يتكون من أربعين عقداً. غير انه اكتُشفت أثناء أعمال الكشف عن أسوار صلاح الدين الشرقية في عام 1998، نصوص هيروغليفية بالسور تعود لعصر الدولة القديمة تثبت استخدام قراقوش أحجاراً من منطقة أهرامات الجيزة غير انه يبدو انه قد تراجع عن ذلك لعدم جدوى نقل الأحجار من الجيزة الى موقع السور وبالتالي القلعة. يعد الفصيل الذي زاد فيه قراقوش ليفصل بين موقع القلعة وجبل المقطم والذي جعل منه خندقاً عميقاً من أكبر أعمال تأمين القلعة، ويعتقد بعض الباحثين بأن قلعة قراقوش هي القسم الشمالي من القلعة، فقط من القلعة الحالية، ومن هؤلاء كازانوفا. بينما يرجح البعض أن يكون قراقوش شيد أجزاء من القسم الجنوبي ومنهم كريزويل، وتعطي المعطيات التاريخية والتحليلية أن قراقوش شيد القسمين معاً ولكن حدود القسم الجنوبي تعرضت للتغيير نتيجة لكثافة العمران وتتابعه في هذا القسم. إن ما يمكن استنتاجه من هذا الفصل ما يأتي: - إن قلعة صلاح الدين شيدت لتكون هي نقطة التقاء أسوار القاهرة، ومقراً لقيادة الجيش الأيوبي في مصر، كما أن هناك نقطة متقدمة منها هي القسم الشمالي بأبراجه للدفاع عن العاصمة المصرية. - شيد القسم الجنوبي منها ليكون مقراً للحكم في مصر وبالتالي ضم المسجد الجامع وهو جامع السلطان الناصر محمد بن قلاوون، والذي أراد محمد علي ببنائه جامعه أن يعلن رسمياً انتهاء سيطرة المماليك على مصر وبزوغ دولته كدولة قوية. - ان منطقة باب العزب جزء أصيل من القلعة ويعود للعصر الأيوبي، وقد شهد تطورات مثيرة عمرانية، لكن منشآته الأثرية تكشف عن استمرار وظيفته كإسطبل للخيول ثم معسكر لطائفة عزبان ثم منطقة للصناعات العسكرية. - ان ميدان القلعة جزء أصيل من القلعة كان له سور ما زالت بقاياه موجودة، وقد استخدم في استعراض الجند، وفي الاحتفالات، وصلاة العيدين. - إن المنطقة الفاصلة بين قلعة صلاح الدين وجبل المقطم هي فصيل صناعي أحدثه بهاء الدين قراقوش ليفصل بين القلعة وجبل المقطم بخندق صناعي.