"يحميه الله كم هو نشيط !" عبارة تتردد من جميع من يراها مع طفلها للمرة الأولى، منذ بلوغه الشهر الثامن. فمن قبل أن تقوى ساقاه الصغيرتان لحمله على المشي، يتحرك حبيب كالمكوك: يحمل اللعب من حوله ويرميها أرضاً، يدور في الغرف من دون توقف، يمزق كتابه المضاد للتمزيق، يحطّم ألعابه البلاستيك التي تقاوم الكسر عادة... وكل يوم يمرّ، يشهد على زيادة نشاطه وحيويته، وكأن التعب لا يعرف طريقه إليه. ووالدته تقنع نفسها بأنه مثل"كل الأولاد"لكنه أكثر نشاطاً، مع تفاديها التفكير بصفة مفرط. وتخشى أن تعترف، لنفسها، بأن"ملاكها الصغير"الضاحك قد يكون مفرط الحيوية... مثل أبيه في صغره. الحضانة كاشفة الأسرار عززت فكرتها بأن حبيبها الصغير مجرد طفل نشيط وحيوي، رافضة أي إشارة إلى الإفراط في نشاطه، إلى أن أرسلته إلى الحضانة في عمر السنتين ونصف السنة، بعدما عادت إلى العمل بدوام كامل. وبنت آمالها على تجنّب الإشارات الموجودة في حكايات حماتها عن تصرفات زوجها صغيراً... وتفادي الدلائل في المقالات التي قرأتها حول موضوع نشاط الأطفال المفرط... وتشبثت بتكذيب ما تلمسه... إلى أن انهارت آمالها كلها دفعة واحدة، في اليوم الأول لطفلها في الحضانة. فبعد أقل من ساعتين على وصول حبيب إليها، رن الهاتف وصدح منه صوت المسؤولة قائلة:"غير معقول، انه لا يهدأ. لا ينام. لا يجلس مكانه. لا يلعب دقيقة واحدة متواصلة، الخ...". فور دخولها إلى الحضانة، انقشعت الحقيقة أمام عينيها. رأت الحاضنة أشبه بساحة حرب: الألعاب منثورة في الزوايا. الأثاث مرمي على الأرض. الأولاد الباقون في حال صدمة فيما ابنها يضحك ويقفز يميناً ويساراً وپ"يتمرغّ"على الأرض. انهارت سائلة نصح مسؤولة الحضانة التي هدّأت من روعها، ومهّدت أمامها الطريق الطويلة التي تنتظرها، مؤكدة لها أن الوضع لن يحسم نهائياً إلا على مقاعد الدراسة حيث يضطر الولد للخضوع لنظام صارم موحد. جهد لا يتوقف ابداً بدأت تسجيل تصرفات ابنها اليومية، واعدة نفسها بألاّ تكرر الأخطاء التي ذهب ضحيتها زوجها الذي ترك المدرسة باكراً لأن مفهوم"الإفراط في الحيوية"لم يكن بعد معمماً. لجأت إلى قراءة الكتب التي تحمل هذا العنوان. واقتنعت بأنه يمكنها مساعدة ابنها للسيطرة على نشاطه المفرط. عملت طويلاً مع اختصاصية في علم نفس الأطفال،"امتحنته"واستخلصت انه مفرط الحيوية لكنه غير مصاب بپ"فوضى الانتباه"attention deficit التي يعاني منها عادة مفرطو الحيوية، أي انه يستطيع أن يركز انتباهه على موضوع واحد طويلاً... شرط أن يتعلم كيفية القيام بهذا العمل. طمأنتها الى أنه يمكن تهذيب حيويته المفرطة، فيتمكن من السيطرة عليها والتحكم بها. ولكن الأمر يتطلب مجهوداً متواصلاً وطويلاً. وبدأت الأعمال الشاقة، علّها تؤتي ثماراً قبل دخوله إلى المدرسة... جلجلة المدرسة دخول حبيب إلى المدرسة تحوّل إلى موجة شكاوى يومية: ضرب رفيقه، أو ركل آخر، أو أوقعه أرضاً، لا يلتزم هدوء الصف، لا يترك أحداً يجيب عن سؤال... وتحوّل هاتفها الخاص إلى حامل خبر سيئ. وباتت عبارة"خير، إن شاء الله"، التعويذة الوحيدة في مواجهة رنينه. من جهة ثانية، يواجهها همٌّ من نوع آخر مع طفلها، الذي لا يدرك أن رفاقه يخافون منه ومن نشاطه المفرط. يبكي ويقول:"أنا اعرف الجواب، فلمَ غيري يجاوب؟". أو"ضربته لأنه لا يريد أن يركض معي". أو"ركلته لأنه رفض الدوران معي بسرعة". الأقساط الباهظة للمدارس المتخصصة بحال حبيب، والتي تناهز الپ13 مليون ليرة سنوياً، أي ما يعادل 8500 دولار أميركي، جعلت فكرة تسجيله في إحداها. لا سيما في ظلّ الكلفة المرتفعة التي تصرفها على استشارة الاختصاصية النفسية التي تحوّلت إلى جزء أساس في حلّ هذه المعضلة مستبعدة. مع الوقت استطاعت أن تصل إلى وضع برنامج يساهم في ضبط حاله. وأصبح يوم حبيب حافلاً بالنشاطات المتلاحقة، التي تمكنه من"صرف"نشاطه المفرط في قنوات محددة. وساعات القراءة باتت مخصصة لمواضيع تهمه، مثل كواكب النظام الشمسي أو أعضاء الجسم، أو حتى حياة الموسيقيين الكبار... وهو يصغي ويردد بالفرنسية:"إقرئي، ماما، إقرئي". ومن رياضة إلى أخرى: الپ"تيكواندو"، فپ"كرة القدم"، ومن ثم الى الحديقة العامة، الخ... ولجأت إلى اعتماد طريقة إعطائه أمراً واحداً فقط، وبتراتبية معينة لا تتبدل. مثلاً: رتب الكتب. وتضيف، بعد إنجازه المهمة الأولى: ضعها في الحقيبة. وأخيراً: ضع الحقيبة في الغرفة. ولا تجمع، مطلقاً، الأعمال الثلاثة في جملة واحدة. وبات مبدأ المقايضة، ضرورة في ضبط سلوك حبيب: إذا كنت هادئاً في المدرسة، يمكنك الذهاب إلى الملعب. مجهود مستمر، لا يمكن توقيفه، أو الاستهتار به، فأي تلكؤ منها يفسره حبيب تراجعاً في النظام المفروض. حبيب بدوره بات يدرك هذه القوة التي تجعله يتصرف من دون إدراك، ما يساعده على التحكم بها بنسبة كبيرة. حبيب، ابن السنوات السبع، تفوق معلوماته وثقافته تلك التي يملكها مراهق عصري، فيما تصرفاته الصبيانية تجعله أحياناً كثيرة أشبه بطفل لم يبلغ الثالثة من عمره. وحبيب يريد أن يتزوج رفيقته الصغيرة في المدرسة، لأنها الوحيدة التي تتفهم تلك القوة الكامنة في داخله.