كانت مارلين مونرو على ترحال دائم من فندق الى فندق ومن شقة مفروشة الى شقة خاوية، وأقامت في سبعة وخمسين منزلاً خلال خمس وثلاثين سنة، وكذلك في زواجها وطلاقها، وفي علاقاتها. ولعلها تشبه في رواية "جلسات مارلين الأخيرة"، الرواية الصادرة حديثاً عن دار "غراسي" الفرنسية للكاتب ميشال شنايدر، همبرت همبرت،"بطل"رواية لوليتا لفلاديمير نابوكوف. فشأن همبرت همبرت، تعجز مارلين عن الاستقرار في منزل، وعن النزول في مكان، كما لو كانت تخفي سراً كبيراً. فالانتساب الى مكان، هو انتساب الى لون من ألوان الحياة والى ذوق شخصي، وهو إعلان عن وضع اجتماعي وأُسري، وهو بمثابة انتساب مارلين الى شيء غير صورتها. وصورتها لا تخفي أثر والدتها فيها، وهي نسبها الوحيد. وكانت مارلين قبلت أو طلبت؟ وصاية رالف غرينسون، المحلل النفسي، ورعايته شؤونها، وتوليه إدارة أعمالها وحياتها. لكنّ هذه الوصاية، وهي أقرب الى وصاية الراشد على القاصر، عززت أرقها، ولم تساهم في انتشالها من دوامة مخاوفها، ولا في تماسكها النفسي أو في قبولها ازدواج الهوية الذي تفترضه مهنة التمثيل أو مهنة"عارضة الجمال"، مثلما يقال عارضة أزياء، وحياة النجومية. فالممثل يؤدي دوراً على خشبة المسرح أو في الاستوديوات السينمائية. وغالباً ما يربط المشاهدون والجمهور الممثل بأدواره، ويحسبون أنه والشخصية التي يلعبها واحد أو أن هذه الشخصية هي مرآة شخص الممثل في الحياة الواقعية. ووجدت مارلين صعوبة في الفصل بين صورتها الباهرة التي تلتقطها عدسة المصور وصورتها عن نفسها، وبين هويتها السينمائية وهويتها الشخصية. وذات مرة جاءت خادمة الى منزل مارلين مونرو لعرض خدماتها، وعندما استقبلتها مارلين، قالت الخادمة:"أكاد لا أصدق أنك مارلين مونرو". فردت هذه بالقول:"أنا نفسي غير متأكدة من ذلك، لكنني أفترض أنني هي ما دام الجميع يجمع على ذلك". وفي الخانة المخصصة لتوقيع الاسم، ذيلت مارلين وصيتها بالكلمات الآتية:"مارلين مونرو - شقراء، 94-53-89 قياس الصدر، والخصر، والأرداف. وروى الكاتب ترومان كابوت أنه شاهد مارلين مسمرة أمام المرآة، فسألها ماذا تفعلين؟ فأجابت مارلين:"أنا أنظر إليها". وكأن إقبال مارلين على جلسات التحليل النفسي الفرويدي، ودوران الكلام على نفسها وذكرياتها ومشكلات حياتها اليومية وعلاقاتها الشخصية، وافتقارها الى المودة والحب انتهاكاً لحرمة رابطتها بوالدتها، وقطع انتسابها، تالياً، الى أمها. فوالدتها أطلقت عليها اسم نورما جاين مورتنسن تيمناً بالممثلة السينمائية جان هارلو صاحبة الطلّة البلاتينية الشعر الأشقر المائل الى لون البلاتين أو الذهب الأبيض عوض الذهب الأصفر. وحملت مارلين عند ولادتها اسم عائلة زوج أمها السابق. ولم تنسب والدة مارلين ابنتها الى نفسها أو الى والد، بل الى نجمة سينمائية، أي الى دور وصورة. فالكلام على تنازع النفس وتعدد اختباراتها وأوجهها وهوياتها يفترض أن مارلين، شأن عموم الناس، متعددة الأدوار، وهويتها مركبة، وأن هويتها لا تقتصر على كونها النجمة السينمائية"البلاتينية" الباهرة. كأن الكلام يُخرج مارلين من الهيئة التي رغبتها فيها والدتها، ومن انتسابها لوالدتها، ويتركها"مقطوعة من شجرة"، كما يقال في العامية اللبنانية عن يتيم لا أهل له ولا أقارب، ومعدومة النسب، وفي عزلة فظيعة. كأنها ولدت من عدم. وعلى رغم إقبالها على جلسات التحليل النفسي وعزوفها عن الصمت، وإسهابها في رواية ما هي عليه، لم تنجح مارلين في ردم الهوة بين جسدها وصورتها، وبين ذاتها وشخصها، ولا في قبول ما هي عليه. فبقي شكلها الخارجي منفصلاً عن شخصها الداخلي. وكأن هوية هذا الجسد والوجه مستقلة عن صاحبتهما، ومنقطعة عنهما، وممتنعة منهما. بل كأن جسد مارلين أو ما يرى منها إذا صح القول مجرد صورة تعرض على الآخرين ما تعرض الصور في المجلات والالبومات. يستهل ميشال شنايدر رواية"جلسات مارلين الأخيرة"بعرض مقتطف من نص غير كامل بقلم رالف غرينسون، المعالج النفسي الأخير لمارلين مونرو. ويبدي غرينسون في هذا النص إعجابه بالأفلام التي تبدأ بصوت رجل ميت يطل على المشاهدين من وراء القبر، أو بصورة جثة طافية على وجه الماء. ويقول انه يريد ان يروي قصة امرأة كانت أشبه بالأموات يوم قصدت عيادة طبيب الكلمات برفقة طفلة صغيرة حزينة. وعنوان نص غرينسون المعلق وغير المكتمل هو"ري وايند"rewind المستوحى من وظائف المسجل الصوتي الآلي، التي تسمح لمن يود الاستماع الى شريط تسجيلي إعادة الشريط الى الوراء والاستماع الى أجزائه المختارة مراراً وتكراراً. وتسمح كذلك، بمحو تسجيل سابق وإعادة التسجيل من جديد. ويستعيد شنايدر عنوان غرينسون"ري وايند"في بعض مقاطع روايته الفرعية. ولا تقتصر محاكاة شنايدر غرينسون على هذه العبارة، فعنوان رواية شنايدر"جلسات مارلين الاخيرة"يقتبس عنواناً اختاره غرينسون لآخر تسجيل صوتي تسلمه من مارلين قبل أيام من وفاتها أو انتحارها أو قتلها. فلغز موت مارلين لم يتضح الى الآن، ولم تكشفه تقارير المشرحة، الملتبسة والغامضة وخلاصاتها غير الحاسمة. ويبدو أن شنايدر يحقق رغبة غرينسون في رواية قصته مع مارلين مونرو. لكنّ القارئ لا يسعه أن يعلم علم اليقين إذا كان النص المنسوب الى غرينسون والتسجيل الصوتي المنسوب الى مارلين حقيقيين أم لا. فعلى رغم أن شنايدر خط الوقائع الحقيقية والاقتباسات والشهادات بأحرف أصغر من أحرف الرواية، لا يسع القارئ ان يتيقن من"أمانة"الكاتب، كما يقال في أدب غوستاف فلوبير. فشنايدر يزعم الأمر ونقيضه في آن واحد. فعلى سبيل المثال يروي شنايدر أن غرينسون كتب بخط يده عبارة"جلسات مارلين الاخيرة"في تسجيل صوتي، وان الصحافي جون مينر استمع، بعد ايام على وفاة مارلين، الى هذا الشريط، وأن صحيفة "لوس أنجيليس تايمز"نشرت ملاحظات مينر على هذا الشريط في 2005، وان زوجة غرينسون نفت وجود هذا الشريط. ويتبين للقارئ المتقصي عن الصحافي جون مينر وعن مقالته في الصحيفة المذكورة أنهما من بنات خيال شنايدر. فهذا الراوي يخلط بين الخيال والواقع، ويدّعي أن"الخيال هو السبيل الى معرفة الواقع". ويطلع صاحب"جلسات مارلين الأخيرة"القارئ في مستهل روايته على حرصه على الاستناد الى وثائق"حقيقية مثل تقارير طبية، وتسجيلات جلسات العلاج النفسي، ومقابلات منشورة مع أصدقاء مارلين وزملاء لها في العمل ونصوص لأصدقاء معالج مارلين النفسي، وعلى اقتباس أقوال كتاب ومصورين وممثلين. لكنه لا يلبث ان يقر بأنه"مُفبرك حوادث"، وانه لم يتوان عن نسب أقوال وآراء الى غير أصحابها، وأنه فبرك مذكرات لم يكتبها أصحابها المفترضون. وعليه، يصعب على القارئ التمييز بين حدود الرواية وما تفترضه من ابتعاد من الواقع ومحاكاة له في آن واحد، وحدود حياة مارلين مونرو الفعلية. ويقع القارئ في الشرك الذي نصبه له شنايدر. فخلال قراءة الرواية، يخال القارئ أن هذه الرواية لا صاحب لها، وأنها مستقلة عن ذاتية كاتبها، وأنها مرآة حياة مارلين مونرو الأمينة. والدليل على أمانة هذه الرواية هو تقصيها تفاصيل حياة مارلين ومعاناتها، واستنطاقها الوثائق واستنادها الى مقابلات مع أصدقاء النجمة الفاتنة. ومَثلُ هذه الرواية مثل الصور. فالناظر الى صورة ما يُغفل أن مصوراً التقطها، وأن"صانعها"حدد زاوية"الواقع الملتقط"والماثل في الصورة. فهذه الرواية تنتمي الى عالم صناعة الأفلام، وهي أقرب الى المونتاج وتوليف الصور والمشاهد منها الى الأدب القصصي الروائي. وحريّ بنا القول أن ميشال شنايدر هو مخرج رواية"جلسات مارلين الأخيرة"ومؤلفها، وليس كاتبها. فهذه الرواية هي أشبه بالأفلام التي تبدأ بتنبيه المشاهدين الى أن قصة هذا الفيلم"مأخوذة"مقتبسة من قصة حقيقية، وتنتهي بإعلام المشاهد بمصير أبطال القصة والفيلم في"الحياة الحقيقية". فتمسي الرواية والسينما ضلع الحياة المكمّل للواقع. ولعل الخيال الروائي والسينمائي هو شرط بلوغ الواقع حقيقته.