أثار اعتراف العالم الباكستاني عبدالقدير خان، الملقب ب"أبو القنبلة الذرية الاسلامية"، بتسريب اسرار نووية الى الصين وليبيا وكوريا الشمالية، ذعراً عالمياً من التوسع المستمر للتسلح النووي. والارجح ان القنبلة الذرية الاولى وتسرب اسرارها تشكل نموذجاً لا يغيب عن ذهن الغرب في العلاقة بين العلم والحروب. والعودة بالذاكرة الى الوراء، وتحديداً الى سنوات ما قبل الحرب العالمية الثانية. جو الحرب المقبلة يملأ الاجواء. وكالات الاستخبارات في دول عدة مشغولة بأشياء كثيرة. ولعل الاكثر سرية، ورعباً، في تلك الملفات هي تلك المتعلقة بالذرة واسرارها. ففي تلك الفترة، كان العلم في بداية تعرفه الى القوى المذهلة التي تكمن داخل المواد المشعة، خصوصاً اليورانيوم. وعلى صعيد العلم، كانت الصورة عجائبية تماماً. توافرت مجموعة محدودة جداً من العلماء المتألقين في مجال فيزياء الذرة. كانوا يعرفون بعضهم جيداً. تخرج معظمهم في الجامعات نفسها. مثلاً، تخرج نيلز بور 1885 - 1962، الذي سيكون محور اهتمام هذه القصة، في جامعة كوبنهاغن، حيث درس عالِم الفيزياء الفذ وارنر هايزنبرغ. كانا صديقين ايضاً، وبقيا على اتصال مع بعضهما بعضاً الى فترة ما قبل الحرب مباشرة. كانت شلتهما تضم ايضاً عالِم الفيزياء اللامع ايرفنغ شرودنغر. يعتبر هايزنبرغ وشرودنغر مؤسسين لنظرية جديدة في الفيزياء، هي الكمومية Quantum Physics. هل تجلس في غرفة فيها تلفزيون او جهاز كومبيوتر، او مشغل فيديو رقمي او جهاز يعمل على اللايزر او غير ذلك؟ اذا، تذكر ان كل هذه الاجهزة صنعت بفضل نظرية الكم في الفيزياء. وتدرس نظرية الكموم الذرة وطاقاتها وعلاقة الذرات ببعضها بعضاً وما الى ذلك. حاز بور جائزة نوبل للفيزياء عن ابحاثه عن انشطار الذرة وتفجيرها. ونال هايزنبرغ جائزة نوبل في الفيزياء عام 1932. ومنح شرودنغر الجائزة نفسها في العام التالي. وقبيل الحرب العالمية الثانية، عمل بور وشرودنغر وهايزنبرغ مع العالم الاشهر البرت اينشتاين في تطوير بعض نظرية الكموم بخصوص علاقة الذرات ببعضها. ونال اينشتاين نوبل عن اكتشافه الاثر الكهربائي الضوئي، وهو بحث له علاقة مع نظرية الكموم. كانت هذه الكوكبة المتألقة موزعة بين النمسا والدنمارك والسويد والمانيا، عندما صعد هتلر الى السلطة. اشتهر عن زعيم النازية رغبته في الحصول على اسلحة متقدمة علمياً، تؤمن له التفوق. سيطر الفوهرر على المانيا، وسرعان ما ضم النمسا، وتمتع النازيون بنفوذ قوي في الدنمارك، فباتت الدائرة الجغرافية التي تضم علوم الذرة في يد الفوهرر. ولم يكن غريباً ان تستشعر اجهزة الاستخبارات في دول مثل بريطانيا وروسيا واميركا وفرنسا خطورة الموقف. استطاعت الاستخبارات الاميركية والبريطانية ان تُهَرِّب اينشتاين من المانيا. وعُرِفَ عن بور مقته النازية وحزبها. فرَّ مبكراً من بلاده الى بريطانيا ثم الى اميركا. وسرعان ما صار شخصية محورية في المشروع السري الاميركي لانتاج القنبلة الذرية، والذي اشتهر باسمه الرمزي "مشروع مانهاتن". اعطى بور الاستخبارات الاميركية معلومات قيِّمة عن العلماء الذين يعرف انهم مُلمون بأسرار الذرة. ولم تجد هذه الاستخبارات صعوبة في اقناع هؤلاء بترك دائرة النفوذ الهتلري. والحال، ان قسماً كبيراً منهم كان يهودياً، ولم تكن كراهيتهم لهتلر بحاجة الى جهد. تدفق علماء الذرة على اميركا. ربما يصلح انريكو فيرمي نموذجاً منهم. حاز فيرمي جائزة الفيزياء عام 1938 عن نظرية مفادها ان قصف الذرة المواد المشعة بالبروتونات يؤدي الى خروج كميات كبيرة من الاشعة، اضافة الى خروج كميات كبيرة من الطاقة، كما كان بور بيَّن في العام 1922، حين منح جائزة نوبل. وأيضاً، عمل فيرمي لفترة غير طويلة مع هايزنبرغ. وعملت مجموعة من هؤلاء العلماء، تحت اشراف فيرمي، في مشروع "مانهاتن". في هذه الاجواء من التمازج المتوتر بين السياسة والعلم، صُنِعَت القنبلة الذرية الاميركية. لم يكن معظم من عملوا فيها موافقاً على استخدامها. لكن احتمال توَصُّل هتلر الى القنبلة قبل غيره، بدا مرعباً. كان لا بد من العمل من اجل التوازن على الاقل، اي لئلا يصبح الفوهرر المالك الوحيد للقنبلة في حال توصل علماء المانيا الى صنعها. لم يكن هذا الاحتمال وهمياً. يكفي ان نذكر ان هايزنبرغ بقي في المانيا وكان في الفريق الذي حاول صنع القنبلة الهتلرية! وانجلت الحرب الثانية عن نصر ممزوج بالرعب. لم يتوصل هتلر الى القنبلة. وفي المقابل، لم يتورع الرئيس هاري ترومان عن القاء القنبلة على هيروشيما وناكازاغي. ووصل العالم الى الرعب مجدداً. ثمة قوة كبرى في العالم تنفرد بأسرار الذرة. مثلاً، اعلن نيلز بور قناعته بضرورة تقاسم المعلومات الذرية بين الحلفاء. وعبر بوضوح عن هذه القناعة في "رسالة مفتوحة الى الاممالمتحدة" التي نشرت في 9 حزيران يونيو 1950. وربما من المفيد قراءة رسالة اخرى، من الاستخبارات السوفياتية هذه المرة. "سري للغاية... في 28/11/1945... الى الرفيق ستالين... عاد الفيزيائي نيلز بور الى الدنمارك، ليبدأ عمله في معهد الفيزياء النظرية الذي انشأه في كوبنهاغن. من المعروف عن بور ان له وجهات نظر تقدمية، كما انه من المؤيدين في شدة للتبادل الدولي. في ضوء ذلك، ارسلنا مجموعة الى الدنمارك لتسعى الى الاتصال معه، ومحاولة الحصول على معلومات عن القنبلة الذرية.... التوقيع أ. بيريا". والحال ان بيريا، الذي يكفي لفظ اسمه لبث الرعب في القلوب، هو رأس جهاز الاستخبارات السوفياتية "كي جي بي"، في ذلك الوقت. نشرت هذه الرسالة عام 1994، بعيد سقوط الاتحاد السوفياتي وانكشاف الكثير من الاسرار الاستخباراتية لفترة الحرب الباردة. في تلك السنة عينها، نشر الروسي سودبلاتوف، وهو مسؤول سابق في الشرطة السرية ابان حكم ستالين، مذكراته عن كيفية تسرب أسرار المعلومات الذرية الى السوفيات. يرد في كلا المصدرين السابقين، كما في مصادر اخرى، توثيق لاجتماع دار في بيت بور، في زمن قريب من زمن رسالة بيريا. حضر الاجتماع عن الجانب السوفياتي، عالم الفيزياء الشاب، والمتعاون مع "كي جي بي"، ترلتسكي. وتَوَسَّطَ نائب يساري في البرلمان الدنماركي، في اتمام هذا اللقاء. القى النائب الى بور ب"طعم" مناسب. إذ أسَرَّ له ان صديقه القديم، وأحد المع فيزيائيي جيله، ال بي كابيتزا كان معتقلاً بأمر من بيريا. الارجح ان دوافع بور كانت متمازجة. فقد عُرِفَ عنه ايضاً قوة علاقاته مع الاستخبارات الاميركية. كان الاميركيون تواقين لمعرفة ما يعرفه السوفيات فعلياً عن القنبلة. حدث اللقاء في غرفة في منزل بور. حضر عن الجانب السوفياتي، اضافة الى ترلتسكي، مترجم ومجموعة صغيرة من "كي جي بي". اصر بور على حضور ابنه الشاب. وليس من الواضح انه علم ان الابن سَلَّحَ نفسه بمسدس! الثابت ان كثيراً من المعلومات الحساسة عن القنبلة نوقشت في هذا الاجتماع. لم يكن بور مصدراً وحيداً لمعلومات ستالين عن "مشروع مانهاتن". إذ حققت الجاسوسية السوفياتية نجاحاً مذهلاً في العام 1941. واستطاع جواسيس "كي جي بي" في لندن الحصول على تقرير مرفوع الى الحكومة البريطانية يعرض باسهاب التفاصيل العلمية للابحاث التي اجراها عالمان بريطانيان عام 1940، واثبتا فيها امكان صنع قنبلة ذرية، والطرق المختلفة الممكن اتباعها في صنعها. لاحقاً، عملا في "مشروع مانهاتن". يتضمن التقرير حلولاً للكثير من المسائل العلمية التي كان العلماء يحاولون حلها للتوصل الى القنبلة. ولعب تسرُّب هذا التقرير الى السوفيات دوراً حاسماً في توصلهم الى صنع قنبلتهم الخاصة. والحال انه بعيد تفجير القنبلة الاميركية، ساد جو من الفوضى في اوساط العاملين في "مشروع مانهاتن". عاد الكثير من العلماء الى بلادهم، وقدموا تقارير مفصلة عن خبرتهم في القنبلة الاميركية. ولم يكن صعباً على جهاز استخبارات متمرس، مثل "كي جي بي" الوصول الى تلك التقارير. في هذه الاجواء، قَدَّم، عالم فيزياء بريطاني سيلاً من المعلومات الى السوفيات. ذلك كان ك فوكس: الشيوعي الذي هرب من المانيا وعمل في "مشروع مانهاتن" وقدم، طوعاً، مجموعة كبيرة من المعلومات عن القنبلة الذرية.