لم يستطع الفلسطينيون التوصل إلى حال من التوافق على إدارة كيانهم الناشئ، وإيجاد معادلة تتيح التعايش إن بين نظام الرئيسين السلطة والحكومة، أو بين الحركتين الكبيرتين "فتح" وپ"حماس"، اللتين باتتا تحتكران الحياة السياسية بما يهدد جدّياً بأفول حال التنوع والتعددية فيها. هكذا باتت الأزمة السياسية الفلسطينية عصية على الحل، فلا"فتح"راغبة في هضم تآكل مكانتها في القيادة والسلطة، ولا"حماس"تستطيع ممارسة السلطة، أو استيعاب معنى تحولها من مجرد حركة معارضة، أو حركة أيديولوجية، إلى قيادة حكومة منبثقة من عملية التسوية، ومن اتفاقات أوسلو، التي تناصبها العداء. والحال فإن رئيس السلطة محمود عباس لا يملك الأخذ بقرار حل الحكومة، وتشكيل حكومة طوارئ، لأنه لا يملك الصلاحية في ظل وجود مجلس تشريعي بغالبية"حماسية"، في حين أن"حماس"لا ترغب بالتضحية بحكومة سلطة لا تعترف بإطارها السياسي المنظمة واتفاقات أوسلو، في سبيل تمرير الأزمة، أو في سبيل رفع الحصار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، لا بالتخلي عن رئاستها الحكومة أو عن غالبيتها فيها، ولا بالتخلي عن بعض الوزارات السيادية أو قل سلطوية، في حكومة ليس لها سيادة على شيء كوزارتي الداخلية والمال. تحاول"حماس"في رفضها أي مخرج، أن تحيل الوضع المتأزم إلى نوع من مؤامرة عليها، وإلى حال من الانقلاب على الانتخابات، من جانب رئيس السلطة، وحركة"فتح"، في حين أنها تدرك أن الرئيس بالذات، وحركة"فتح"إياها، مهدا الطريق أمامها للانخراط في النظام السياسي، والمشاركة في الانتخابات، ونقل السلطة إليها. وهي تدرك أن الرئيس وپ"فتح"قاوما إملاءات إسرائيل، والإدارة الأميركية، المطالبة بالحؤول دون إدخالها في النظام الفلسطيني، وبالتالي الانتخابات، بسبب معارضتها اتفاقات أوسلو، التي انبثقت عنها الانتخابات والسلطة، وأن الرئيس وپ"فتح"قاوما أيضاً المطالبات بضرب بنيتها التحتية. إلى ذلك فإن اتهامات"حماس"ليس لها معنى، لأن الأزمة الفلسطينية الحاصلة، هي نتاج الحصار الإسرائيلي للشعب الفلسطيني، والعزل الدولي للحكومة، وامتناع الدول المانحة عن تقديم التزاماتها المادية، أكثر من كونها أزمة فلسطينية. والحاصل فإن المجتمع الدولي، الممثل بالدول المانحة، هو الذي يتحمّل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن معاقبة الشعب الفلسطيني على خياراته الديموقراطية، وعن تدهور أحواله المعيشية، وتسهيل استفراد إسرائيل به، ومن العبث توجيه اللوم إلى أطراف فلسطينية معينة بدعوى التواطؤ، أو السكوت عن هذا الواقع، فهذه الأطراف لا تتحمل مسؤولية ذلك، لأن احتضان المجتمع الدولي للكيان الفلسطيني، وتقديمات الدول المانحة المالية للسلطة الفلسطينية، تم ترتيبها وفق معايير سياسية معينة، وضمنها التزام عملية التسوية، مع إسرائيل، وليس أي عملية أخرى، وهذا ما يعرفه القاصي والداني. ثم من الذي قال إن هذه الدول معنية بدعم أو بتمويل وضع سياسي لا يتفق مع معاييرها؟ أليس في ذلك سذاجة أو خفة سياسية؟ ولعل مشكلة"حماس"تكمن في أنها وافقت على الانخراط في انتخابات، ومن ثم تشكيل حكومة لسلطة، لا تعترف بمرجعيتها، ولا بالشروط التي أوجدتها، سواء كانت منظمة التحرير أو اتفاقات أوسلو، أي من دون أن تستوعب، أو تدرس، التداعيات أو الاستحقاقات الناجمة عن كل ذلك. عموماً فإن الأزمة الحاصلة ليست فقط نتاج التعارض بين موقعي الرئاسة، أو نتاج الخلاف على المشروع السياسي بين"فتح"وپ"حماس"، ولا تتعلق بكيفية إدارة كل طرف للعبة السياسية، فحسب، على أهمية كل ما تقدم، فهذه الأزمة، هذه المرة، هي من النوع المعقّد والصعب والمتداخل، بسبب احتكامها للعوامل والمحددات التالية: أولاً، الأزمة الفلسطينية الراهنة هي بمثابة إرهاصات لانتهاء مرحلة قديمة، بما لها وما عليها، وولادة مرحلة جديدة، بكل معنى الكلمة. والمشكلة أن إرهاصات الموت والولادة، هذه، لا تقتصر، فقط، على أفول قيادة قديمة وولادة قيادة جديدة، وإنما هي تشمل، أيضاً، مجمل بني الساحة الفلسطينية، وشعاراتها، وأشكال عملها. والمشكلة، أيضاً، أن هذا الأمر يتم من دون توافقات فلسطينية داخلية، ويتم في ظل تنافسات وتصارعات بين القوى المعنية في هذه الساحة. ثانياً، كما قدمنا، فإن هذه الأزمة لا تطاول فقط الخلاف السياسي البرنامجي، ولا تقتصر على التحديات الجمّة والكبيرة التي تواجهها الساحة الفلسطينية، فحسب، وإنما تشمل الفاعلين السياسيين في هذه الساحة، خصوصاً حركتي"فتح"وپ"حماس". ولا نغالي كثيراً إذا جزمنا أن هذه الأزمة في الحقيقة ترتبط تماماً بأزمة هاتين الحركتين، اللتين باتتا تشكلان القطبين الرئيسيين في الساحة الفلسطينية. هكذا فإن مشكلة"فتح"، مثلاً، على رغم دورها الريادي في العمل الفلسطيني، أنها أخفقت في الخيارات السياسية التي اعتمدتها في قيادتها لهذا العمل، فهي لم تنجح في خيار التسوية، ولا في تجربة بناء الكيان، أخفقت في إدارة الانتفاضة، ولم تستطع التحكم بمسار المقاومة. وعموماً فإن"فتح"لم تستطع أن تستوعب المتغيرات الحاصلة في الساحة الفلسطينية، ولم تع أهمية إجراء مراجعة نقدية لبناها وشعاراتها وطرائق عملها، لإدخال التجديد عليها. ومن ناحية"حماس"، فإن هذه الحركة لم تستطع بعد فرض صدقيتها في إدارة الوضع الفلسطيني، فهي لم تستطع الخروج من عباءة المعارضة، ومن الروح الشعاراتية التي تتملكها. وهي شكلت حكومة السلطة، على رغم معارضتها اتفاقات أوسلو 1993، وقبلت بهذه المسؤولية على رغم ارتهان هذه الحكومة للمساعدات الخارجية. وكل ذلك وضع"حماس"في مأزق أيديولوجي وسياسي، تصر على تجاهله، بدعوى صدّ"التآمر"على مكانتها! ثالثاً، إن الأزمة الفلسطينية مرهونة هذه المرة، وأكثر من السابق، للعوامل الخارجية، بحكم الاتفاقات والالتزامات الإسرائيلية والدولية والإقليمية التي انبثقت منها السلطة، خصوصاً بحكم ارتهان حوالى 160 ألف موظف للدعم المادي الذي تقدمه الدول المانحة وضمنها أوروبا والولايات المتحدة واليابان وكندا..الخ. وبديهي أن تشترط هذه الدول التزام الفلسطينيين بعملية السلام، ونبذ العنف، في مقابل استئناف دعمها للسلطة، بما في ذلك تأمين موازناتها ورواتب موظفيها بغض النظر عن رأينا بذلك. رابعاً، تأتي هذه الأزمة في ظل انسداد الخيارات السياسية للفلسطينيين. ومثلاً، فإن خيار المضي بعملية التسوية بات صيغة لمضيعة الوقت، لا سيما في ظل التملصات والالتفافات والاملاءات الإسرائيلية. في حين أن الإبقاء على الوضع الراهن بات بمثابة فرصة مناسبة لإسرائيل لفرض الأمر الواقع، من خلال تشريع عمليات الاستيطان، واستكمال بناء الجدار الفاصل، والإمعان في تهويد القدس، وتصعيب الأوضاع الحياتية على الفلسطينيين، وتقويض الكيان الفلسطيني. أما التوجه لانتفاضة جديدة فبات جداً صعباً في ظل انهاك حال الفلسطينيين، طوال السنوات الماضية، نتيجة الممارسات الإسرائيلية، وأيضا نتيجة التصارعات الفلسطينية. في حين أن ولوج خيار المقاومة يبدو باهظاً جداً في ظل الأوضاع الدولية والإقليمية الحالية. وأخيراً فإن الأزمة الفلسطينية المستعصية اليوم باتت محكومة بالتطورات الدولية والإقليمية، خصوصاً بكيفية إنفاذ الإدارة الأميركية سياساتها في المنطقة، من العراق إلى لبنان، إلى إيران، كما بكيفية تعاطي القوى الإقليمية الفاعلة، من إيران إلى سورية إلى"حزب الله"مع هذا الأمر. وبمعنى آخر فإن هذه الأزمة باتت محكومة بالصراع في الشرق الأوسط، وبالصراع على الشرق الأوسط، بين القوى المعنية، بحيث انها باتت مرتبطة، بشكل ما، بما سيحصل في هذا الشرق الأوسط، خصوصاً في لبنان وفي العراق"ما يصعّب على القوى الفاعلة في الساحة الفلسطينية التحكم بهذه الأزمة، وإيجاد حلول مناسبة لها. هكذا يمكن إدراك كم هي الأزمة الفلسطينية الحالية صعبة جداً ومستعصية على الحل، خصوصاً أن محاولات الفلسطينيين لحل هذه الأزمة، أو السيطرة عليها، لم تبق بأيديهم بالذات. من كل ذلك يمكن الاستنتاج أن الأزمة الفلسطينية الراهنة لن تجد حلها بمجرد حوارات هنا أو هناك، على الأرجح، على أهمية ذلك، فهذه الأزمة تحتاج إلى علاجات ومعطيات نوعية مختلفة، من ضمنها: 1 - إيجاد حل للأزمة السياسية في بنى العمل الفلسطيني، خصوصاً في حركتي"فتح"وپ"حماس"، ما يتطلب تجديد بنية الحركة الوطنية الفلسطينية، وشعاراتها وأشكال عملها، بما يتلاءم والتطورات الحاصلة. 2 - توليد نظام فلسطيني جديد، يأخذ في الاعتبار المتغيرات التنظيمية والسياسية الحاصلة في الساحة الفلسطينية، وعلى صعيد الصراع ضد إسرائيل، وضمنها المتغيرات المتعلقة بقيام كيان فلسطيني، على خلفية عملية التسوية، ما بتطلب التوافق على استراتيجية سياسية، وعلى استراتيجية ميدانية تنسجم معها. 3 - إيجاد معادلة سياسية مناسبة، متوافق عليها بين القوى الفاعلية في الساحة الفلسطينية، للتعاطي مع التغيرات والتطورات الحاصلة أو المحتملة في الشرق الأوسط، تضع في أولوياتها الأجندة الوطنية الفلسطينية، من دون أن تفرط بتحالفاتها العربية والإقليمية، وعلاقاتها الدولية. * كاتب فلسطيني