رفض مديرو الشركات النفطية وخبراء الطاقة فكرة"الاستقلال في مجال الطاقة"باعتبارها هدفاً غير واقعي ومضللاً للسياسة الأميركية، وذلك خلال المؤتمر السنوي الخامس عشر لراسمي السياسة الأميركيين - العرب الذي عقد الأسبوع الماضي في واشنطن. وأشار بعض المتحدثين المشاركين في المؤتمر بأن الاتكال المتبادل على النفط الذي تنتجه السعودية وبلدان أخرى في الشرق الأوسط يمثل حقيقة لا جدال فيها في السوق العالمي للطاقة. وربما تركت هذه الرسالة صدىً لدى المستشارين المخضرمين المتخصصين في السياسة النفطية وخبراء القطاع وممثلي الحكومات الأجنبية المشاركين في المؤتمر، لكنها كانت عبارة عن هرطقة في نظر السياسيين الأميركيين العاملين بنشاط على إرضاء الناخبين قبل الانتخابات النصفية الأميركية المثيرة للانقسام اليوم. جعل الخطاب السياسي عن الاستقلال النفطي أمن الطاقة مسألة خطيرة من مسائل الانتخابات. فقد جرت العادة على أن تتركز الانتخابات النصفية لمجلسي الشيوخ والنواب الأميركيين على الأمور الداخلية. لكن هذه السنة، جعلت الحرب المرهقة والمكلفة في العراق والكلفة الاقتصادية المرتفعة لغلاء أسعار الطاقة الشعب الأميركي يركز على النتائج المترتبة على اعتماد البلاد على ما تتزود به من نفط أجنبي. لقد تبنى الديمقراطيون والجمهوريون معاً الاستقلال في مجال الطاقة، كمسألة أساسية في الحملة الانتخابية. بل اقترح الحزبان تحقيق أهداف متشابهة بصورة لافتة لكن غير ممكنة التحقيق. وتقوم هذه الأهداف على خفض حاد في اعتماد الولاياتالمتحدة على استيراد النفط من الشرق الأوسط بنسبة تزيد على 75 في المئة في الفترة المقبلة التي تتراوح بين 15 و20 سنة. وفيما يقترب موعد الانتخابات الرئاسية بعد سنتين، تبين الاستطلاعات أن الشعب المحبط وذات النزعة الانعزالية المتزايدة، قد يصوت لمصلحة كونغرس تسيطر عليه غالبية ديموقراطية، عقاباً لإدارة الرئيس بوش على الحرب العراقية وعلى السياسة الفاشلة لهذه الإدارة في الشرق الأوسط. سياسة نفطية ذات أبعاد أسطورية وفيما اثبت خفض الاعتماد على استيراد النفط الأجنبي أنه مسألة تهم الشعب في الحملة الانتخابية لهذه السنة، يعتبر خبراء القطاع أن الاستقلال النفطي أسطورة خطيرة تؤدي إلى استثمارات في الطاقة والى مبادرات لرسم سياسات مبنية على أسس خاطئة. وأبلغ نائب رئيس"أرامكو السعودية"للعلاقات القطاعية خالد الفالح المؤتمرين"أن أسواق النفط لها طابع عالمي، وأن النفط الخام سلعة قابلة للاستبدال. وتعني هاتان الحقيقتان أن الاستقلال في مجال الطاقة بالمعنى الحرفي للاكتفاء الذاتي قد يكون مجرد حلم فيما حاجة جميع الفرقاء لبعضهم البعض تعكس الواقع". إن تحريف الأهداف المتعلقة بالطاقة التي يمكن إنجازها وتشويه الحقائق قد يتركان انعكاسات سلبية طويلة الأمد على مستقبل الطاقة في أميركا، كما ورد على لسان المتحاورين خلال جلسة بعنوان"استشراف مستقبل الطاقة: الاستغناء عن الاعتماد المتبادل على الآخر". كذلك فإن المشرعين الذين يركزون على الاستقلال في مجال الطاقة"يجازفون بإضعاف المسار المؤدي إلى التطور التكنولوجي الموعود"، على حد تعبير رئيس شركة"إكسون موبيل للتكرير والتوريد"ونائب رئيس شركة"إكسون موبيل"ستيفن برايور. وقال رئيس شركة"شل أويل"جون هوفمايستر إن مجرد ورود تعبير"الاستقلال في مجال الطاقة"بانتظام في المفردات التي يستعملها المشرعون وغيرهم من المشاركين في النقاش حول السياسة، يشكل"خللاً في الفهم". وكان مسؤولون في"شل"جالوا على 50 مدينة تحدثوا خلالها مع الشعب الأميركي عن الاعتماد المتبادل على الآخر في الطاقة. أما جيمس شليزينغر، الذي تولى رئاسة المناقشات إلى جانب كونه أول وزير للطاقة في تاريخ البلاد وذلك في عهد الرئيس كارتر عام 1977، فأضاف"أن الخلل في المفهوم ليس مصادفةً وهو نتيجة اعتبارات سياسية". أمر مألوف؟ وليس إدمان أميركا على استهلاك النفط أمراً جديداً. فقد استحضرت واشنطن سياسات استيراد النفط أثناء أزمات الطاقة الكثيرة التي حدثت خلال السنوات ال 30 السابقة. وجاءت المرة الأولى مباشرة بعد حظر النفط العربي عام 1973. ورداً على ذلك، أطلق الرئيس نيكسون"مشروع الاستقلال"بهدف التخلص من كل الواردات النفطية في فترة أقصاها عام 1980. وعام 1973 استوردت الولاياتالمتحدة 6.25 مليون برميل في اليوم، أي ما يعادل 35 في المئة من استهلاكها، وذلك بحسب وزارة الطاقة الأميركية. وفي الأشهر الثمانية الأولى من عام 2006، وصل استيراد النفط الخام والمنتجات النفطية المكررة إلى ما يزيد على ضعف المستوى الذي بلغه عام 1973، أي ما متوسطه 13.75 مليون برميل في اليوم، أو 60 في المئة من الطلب الأميركي. وثبت أن هدف نيكسون في التخلص نهائياً من استيراد النفط قبل عام 1980 كان متهوراً حينئذ، كما أن هدف الرئيس بوش خفض استيراد النفط بنسبة 75 في المئة في مدة أقصاها عام 2025 غير ممكن التحقيق الآن. وفيما استخف مديرو الشركات النفطية بمفهوم التخلص من الاعتماد على البلدان الأخرى للحصول على النفط، وافقوا على تطبيق إجراءات توفر في الطاقة، وعلى تطوير أنواع بديلة من الوقود وسيلة للتخفيف من الطلب المتزايد على النفط. إلا أن الأنواع البديلة من الوقود ستزيد الطلب العالمي على النفط ولن تكون بديلة عنه. وقال رئيس شركة"ماراثون بتروليوم"غاري هيمينغر للمندوبين المشاركين في المؤتمر:"إن مستقبلنا قائم على الهيدروكربون... وأقول ذلك بصفتنا أحد أهم البلدان المنتجة للإيثانول، ومصنعاً جديداً لمنتجات الطاقة المزدوجة المعروفة بالبيوفيول". كما انتقد الفالح الرأي القائل إن أنواع الطاقة البديلة قد تؤثر بصورة ملحوظة في استيراد الولاياتالمتحدة من النفط. وقال:"على رغم معدلات النمو الكبيرة فإن مصادر الطاقة التي يمكن تجديدها ستغطي فقط ستة في المئة من مجموع الطاقة التي يتزود بها العالم قبل نهاية عام 2030". ربط أمن الطاقة بالأمن القومي وتعرضت الخطب السياسية التي تنشر أسطورة الاستقلال النفطي للانتقاد الشديد من جانب مجلس العلاقات الخارجية الذي يحظى باحترام كبير، والمؤلف من الجمهوريين والديموقراطيين. وبرز هذا الانتقاد في تقرير جديد صادر في منتصف تشرين الأول أكتوبر الماضي بعنوان"النتائج المترتبة على الأمن القومي جراء اعتماد الولاياتالمتحدة على النفط". وأعد التقرير فريق خاص تابع لمجلس العلاقات الخارجية، مؤلف من شريحة واسعة من خبراء النفط العاملين في الحقول الأكاديمية والقطاعية والقانونية والاستثمارية وفي الأوساط العلمية. وأشار التقرير إلى أن"الأصوات التي تتبنى الاستقلال في مجال الطاقة تسيء إلى البلاد من خلال التركيز على هدف غير ممكن التحقيق في المستقبل المنظور ويشجع على اعتماد سياسات غير فاعلة وذات نتائج عكسية ... يبدو أن القادة في الحزبين، خصوصاً أثناء سعيهم إلى المناصب العامة، عاجزون عن مقاومة الإعلان عن أهداف غير واقعية في ما يبدو من جهود واضحة لكسب الشعبية، وذلك عوضاً عن إعلام الشعب بالتحديات التي يتوجب على الولاياتالمتحدة مواجهتها". ورفض تقرير مجلس العلاقات الخارجية الاقتراح القائل بنفاد احتياط النفط الخام وبلوغ الإنتاج ذروته. وسبق لرئيس جمعية كامبردج لبحوث الطاقة دانيال يرغين أن أبلغ المؤتمر أنه يُتوقع دخول 360 مشروعاً جديداً لإنتاج النفط حيز الإنتاج قبل عام 2010، مع تزايد المشاريع التي تنتج النفط بصورة غير تقليدية. لكن تقرير مجلس العلاقات الخارجية أشار إلى ازدياد الكلفة في إيجاد وتصنيع مزيد من المنتجات. وتبعاً لذلك توقع الفريق الخاص أيضاً أن تبقى أسعار النفط مرتفعة في المستقبل المنظور. كذلك تزيد بعض البلدان المنتجة والمستهلكة للنفط عرض عضلاتها، ما يلحق ضرراً بالولاياتالمتحدة. وأشار التقرير إلى أن"إيران وفنزويلا وروسيا تستخدم ثروتها المتعاظمة ونفوذها المتنامي كدول مصدرة للنفط في سعيها لتحقيق أهدافها الاستراتيجية المتعارضة مع مصالح الولاياتالمتحدة". وأضاف:"في احسن الأحوال ستشكل هذه الاتجاهات تحدياً للسياسة الخارجية الأميركية وفي أسوأ الأحوال ستؤدي إلى توتر كبير في العلاقات بين الولاياتالمتحدة وبين هذه البلدان". وختم التقرير بالتأكيد على"أن المهمة الأساسية في العقود المقبلة يجب أن تكون التعاطي مع نتائج الاعتماد على النفط وليس الادعاء بأن الولايات قادرة على التخلص منه". وكخطوة أولى"لا تحتاج الولاياتالمتحدة فقط إلى التنسيق بل إلى دمج مسائل الطاقة مع سياستها الخارجية". وأوصى الفريق الخاص التابع لمجلس العلاقات الخارجية بأن تقوم واشنطن بالخطوات التالية: - إنشاء مديرية لأمن الطاقة داخل مجلس الأمن القومي للتنسيق بين الوكالات المختلفة في رسم السياسات المتعلقة بمسائل أمن الطاقة. - إشراك وزير الطاقة في كل المشاورات الخاصة بالسياسة الخارجية والتي تتضمن مسائل الطاقة. - إدخال كل الاعتبارات المتعلقة بأمن الطاقة في كل الدراسات التخطيطية في مجلس الأمن القومي ووزارتي الدفاع والخارجية وفي الاستخبارات. بين الماضي والمستقبل يظهر قصر النظر لدى واشنطن في تركيزها على سياسات الطاقة المحلية انه مفهوم خاطئ لدى مقابلته مع مبادرات اكثر خطورة في السياسة الخارجية تهدف إلى تعزيز أمن الطاقة في كل أنحاء العالم. ولطالما اعتبر مديرو الشركات النفطية والمحللون المخضرمون المتخصصون في المسائل النفطية بأن حل الأزمة الإسرائيلية - الفلسطينية سيقلل كثيراً أخطار السياسية في المنطقة والقلق المترافق مع أمن الطاقة. ووجه السفير السعودي في الولاياتالمتحدة الأمير تركي الفيصل لوماً شديد اللهجة إلى فشل إدارة بوش في إيجاد خطة للسلام في الشرق الأوسط. وفي حوار تلا خطابه الرسمي الرئيسي، حض السفير واشنطن على إحياء عملية السلام المتوقفة، مشيراً إلى توافر عدد كبير من الاقتراحات والعروض والمبادرات المتعلقة بالسلام خلال السنوات الخمسين السابقة، ابتداءً من خطة روجرز مروراً بمحادثات كيسنجر، واتفاقات كامب دايفد برعاية كارتر، ومؤتمر مدريد الذي عُقد بحضور الرئيس بوش الأب، واتفاق أوسلو برعاية كلينتون، وصولاً إلى خريطة الطريق التي تقدم بها الرئيس بوش الابن. وقال إن كل جانب من جوانب المشكلة الفلسطينية - الإسرائيلية خضع للتشريح. وأوضح أن خريطة الطريق الأخيرة تؤمن سبيلاً لتحقيق السلام ولإيجاد حل قائم على دولتين، إلى جانب مبادرة السلام التي تقدم بها خادم الحرمين الشريفين الملك عبدالله بن عبدالعزيز عام 2002. وأضاف:"إن المشهد الأخير لهذه العملية هو قيام دولتين بالاستناد إلى حدود 1967 مع انسحاب إسرائيلي من كل الأراضي العربية، بما فيها القدس مقابل اعتراف كل البلدان العربية بإسرائيل وتطبيع العلاقات بين الجانبين". وأكد الأمير تركي الفيصل على أن"الولاياتالمتحدة أوجدت خريطة الطريق ويجب عليها أن تنفذها". وأشار الى أن أميركا هي"البلد الوحيد القادر على القيام بالعمل المناسب للجميع في الشرق الأوسط، ليس فقط بفضل الحجم والقوة اللذين تتمتع بهما، بل أيضاً لأنها شريكة وضعنا السياسي وواقعة في شركه منذ حوالى 50 سنة، سواء أرادت ذلك أم لا". وقال إن المصالح الأساسية لكل الأطراف المعنية تتلخص في"تعميم السلام في منطقتنا كي نتمكن من الانتقال إلى محاولات مثمرة والتزامات اكثر إسهاماً في الجهود المشتركة". وأضاف الأمير تركي في محاضرته التي حملت عنوان"نظرة إلى مستقبل العلاقات الأميركية - السعودية":"ليس سراً أن وضع الولاياتالمتحدة في الشرق الأوسط سيئ أكثر من أي وقت مضى. فالمسألة لا تتعلق بالقوة العسكرية أو بتغيير في الخطاب السياسي بل تتعلق بالفهم الأساسي لحاجات الشعوب المتأثرة بالقرارات السياسية للولايات المتحدة. وإذا أرادت الأخيرة مساعدة نفسها يجب أن تغير سياستها في الشرق الأوسط". وفي النهاية، قد تلخص مقولة"بين الماضي والحاضر"بشكل مناسب معادلة الطاقة في عنوان المؤتمر لهذه السنة:"تقويم العلاقات السعودية - الأميركية: بحثٌ في انعكاسات السياسة المتبعة". باحثة اقتصادية أميركية