في مجموعته الشعرية الاخيرة"تفسير الرخام"، الصادرة عن المركز الثقافي العربي، في بيروت، للعام 2006 *، يستأنف الشاعر اللبناني بسام حجار تجربته الشعرية، بقدر من التمايز والعمق، على الصورة التي ألفناها لديه على مدار ربع القرن الذي شرع خلاله في نشر مجموعاته الشعرية، على التوالي. والحال ان قارئ الكتاب الاخير يحسب انه أبعد غوراً في مسألة الموت، وان تكن مسألة مطروحة على الدوام في مجموعاته الشعرية السالفة. وتتألف المجموعة الشعرية الاخيرة"تفسير الرخام"، من ثلاث قصائد طويلة، هي، على التوالي: لم يقل لي أحد ما معنى الأسى، ومزار بجنب الطريق، وتفسير الرخام. في القصيدة الطويلة الاولى، التي تنطوي على أناشيد عدة، كما بات معروفاً في أسلوب الشاعر المتأخر، وان تكن الأناشيد متداخلة ومتواشجة ومتكاملة. في هذه القصيدة يجهد الشاعر في إحكام الرابط بين الأسى، الناجم عن الموت - موت قريبته منار الشماع - وبين دواعيه ومضامينه الواقعية، من لحم ودم وآلام وتمزقات وغصص، لمن واراه الحجر، ومن آخى الموارى في حياته، وكان من صلبه او كان عرفه. غير ان الشعر، ههنا، الأبعد من توصيف موت الفقيدة، او سرد تفاصيل وفاتها، او رثائها، بخلاف ما تحسنه اللغة النثرية وتألفه، لا يني يسوق كلام القائل - الشاعر الى الجوهري، في مشاعر الأسى، بلوغاً الى مساءلة الكائنات الجامدة الحجر، التراب، الغبار، الحصى... عن معناه العميق والغائر، والمنطمس وراء ظاهرة الموت - ثم ان الشاعر، بسام حجار، في لعبة الغوص الاحادي القاع التي ينساق اليها بحكم الغنائية الانشادية التي اختارها اسلوباً تعبيرياً، تراه يعدد الاصوات في قصيدته الجنائزية الطويلة هذه، فتراه بمستهلها، يفرد حيزاً للميتة، يعيرها صوتاً، لتعبر عن ضيقها من المصير الحجري الذي آلت اليه، وتبرمها من ضآلة الكائنات الترابية وعدم يقينها من بلوغها ما بعد حالة فنائها، الى السماوات، وهي بحالة التآكل المزرية: "لا أدري أي المساوات قد تسعى اليها الكائنات الضئيلة التي تحفر/ وئيداً/ في عينيّ وسمعي" ولا يزال الشاعر معدداً الاصوات، حتى يتيح لكل من شخوص الميتة الكلام على الأسى وتفاسيره، بدءاً من ابنائها، وصولاً الى اختها، ثم زوجها، ومروراً بأبيها، وانتهاء بابنتها، وحارس التراب، وابن الشاعر، حفيد الميتة، وابنة الشاعر، وذات الاخير المتأسي. وبالانتقال الى القصيدة الثانية، من المجموعة الشعرية، وهي بعنوان"مزار بجنب الطريق"، يخرج صوت الشاعر مثقلاً بالأنين الجنائزي عينه، ليبتدع حواراً احادياً بين ذاته وذات اخرى، هي المزار، بل القبر الذي أضحى مزاراً. والواقع ان في هذه القصيدة الطويلة نوعاً من التمرين الذي يتجاوز الشعر Metapoesie، او يتعداه - من دون ان يفقد من شعريته - ما دام يكشف عن استراتيجية دلالية، اتبعها الشاعر، وتقوم على جعل الشعر اطاراً لتحول الهويات وتبادلها، وطرح تصورين متقابلين، يتناميان على مدار القصيدة، تناوباً او تقاطعاً او الاثنين معاً، حتى اذا بلغت المقارنة الشعرية، بل المشابهة، بين المنزل والمزار - القبر، ورُجحت السمة الحقيقية في الاخير أنت/ وحدك الحقيقي مضى الشاعر الى مرحلة تالية، يواصل فيها التوكيد على موضوعه، بشخصنته "إني أتحدث عند..."، ثم يعمد الى احياء رواد الكثر، من عالم طيفي "ندري ما الخيالات المترائية عند مفترق قريب"،"شخوص نابتة في الوعر كمخلوقات التوهم، ليست من الأنس/ وليست من الجن".، ومن عالم واقعي، على حد سواء "أهل المزارات التي لا يقصدها إلا الغرباء"، الى ان يبلغ، في مسعاه التماثلي الآنف، حد اعتبارها أي المزارات"بيوتاً مرتجلة في العراء"، ومجرد علامات تحيل الى حياة الزوال الاكيدة والأرسخ حقيقة"، من أي مظهر في الوجود. على ان القصيدة الطويلة الاخيرة،"تفسير الرخام"، وان يكن الشاعر قد نسب عنوانها لمجموعته الشعرية كلها، فإنها بدت لنا اقل اندراجاً في حركية القصائد الطويلة الاخرى، في كتبه الاربعة الاخيرة بضعة اشياء، سوف تحيا من بعدي، حكاية الرجل الذي احب الكناري، ألبوم العائلة، ذلك ان الشاعر، بسام حجار، يستأنف فيها، مستعيناً بتقنيتي الغوص والتفصيل اللتين أثرتا عنه، توصيف"لا مبالاته"حيال كل ما قد تأتيه به الايام، وبعمره وبالموت الذي قد يفجؤه، هذه اللامبالاة التي قد تحيله حجراً رخامياً، أصم، لإمعان الميتات في سلبه زهو الحياة، ولإهدار اليأس والعدم شعوره بتمام الحياة والوعي. إن سؤالاً نقدياً يحسن بنا طرحه حول مجموعة الشاعر بسام حجار الجديدة، وما تطرحه، وهو: من أين تتأتى شعريته؟ وما مصادرها؟ وما حدودها؟ للإجابة نقول ان النبرة الجنائزية الغالبة تشكل مصدراً من مصادر شعرية نتاج بسام حجار الاخير. ذلك ان هذه الجنائزية، التي صفيت مما عداها، فباتت ادل على عري الكائن ذات الشاعر حيال الموت، وكأنه مصيره الاوحد، وموضوع انتصاره وتذكاره وتأمله في آن، هذه الجنائزية تمد الغنائية المسلوبة في شعره بالكثير من الامداء العاطفية، وتحفظ لهذه الامداء توترها وحرارتها المأونسين. حتى لكأن القصائد الطويلة، التي انتهت اليها لغة حجار الشعرية فسحات كلامية، متعالية، لا يقيم فيها الا بطل اوحد، هو الموت، وان تتعدد شخوصه وتحولاته وأجواقه. وعلى هذا، يصير الشعر، بالمحصلة الاخيرة ايقونة للحياة، تنسكب فيها آونات الشاعر وانتظاراته ولهثاته وتهويماته وتلاوين يأسه واقحائه في ازاء سلطان الموت الاعظم والفتان. ولربما اخذ البعض على قصائد بسام حجار الطويلة، والثلاث في المجموعة الاخيرة،"تفسير الرخام"، انصرافه الى موضوعة او ثيمة محورية وحيدة، عنيت بها ظاهرة الموت، وما قبلها وبعده، وتعمده الغوص المفصل على قضية ازلية، تعينه ثقافة صوفية وفلسفية نفاذه، وتمحضه تجربة ذاتية مريرة الصدقية والابداعية المستحسنتين، ولب هذا المأخذ جعل الشعر خادماً لقضية او موضوع، فيكون شعراً - موضوعاً، على غرار ما نزع اتجاه في الرواية الىجعلها رواية - موضوعاً Roman Thene واذا تأمل الناقد - بحسبهم - حدود القصيدة الطويلة وبنيتها ذات الاناشيد المتداخلة والمتشعبة، وحدها متجاوزة بنيان قصيدة النثر او بالنثر المكثف والمضغوط والمشع، ابعاداً ودلالات، على حد ما تواضع عليه منظرو قصيدة النثر سوزان برنار، ميكائيل ريفاتير، وميشال ساندراس، ورومان ياكوسون، وآخرون. ولئن بانت لنا، لدى قراءتنا القصائد الثلاثة الطويلة، مشاهد ومفاصل شعرية ذات طاقة غنائية اقل من مثيلاتها - ولا سيما في القصيدة الاخيرة - فإن مقدار التجديد، سواء في صيغة الالتفات الكبرى التحويل في ضمائر شخوص النص وهوياتهم، او في الصور الشعرية، او في رؤية المحاكاة Mimesis، أي جعل الكلام الشعري محاكياً، بتركيبه، بنية المحكي عنه في الواقع المرجعي، او في التناص الفكري الذي جعله الشاعر في صلب النص ومتنه، فإن هذه وغيرها الكثير مما تجدر دراسته - على حدة - كانت كفيلة بأن تصنع من لغة بسام حجار الشعرية أيقونة للحياة ومرآة للموت. ولا اظن قصيدة النثر العربية خاسرة بوجودهما. * بسام حجار - تفسير الرخام - المركز الثقافي العربي - بيروت