في المئوية الرابعة لولادة الرسام الهولندي الكبير رامبرانت 1606 - 1669، تقيم"المكتبة الوطنية"باريس معرضاً مهماً له يهدف إلى إبراز موهبته النادرة في فني الرسم والحفر على النحاس، عبر الأعمال الكثيرة التي أنجزها في هذين المجالين، في حداثتها المذهلة. ولهذه الغاية، تكشف المكتبة عن مئة رسم ومحفورة تمنح الزائر فكرة مفصلة عن الأبحاث المثيرة والطليعية التي قادها هذا العملاق طوال حياته، وعلى رأسها محاولة تمثيل الحركة بوسائل تقترب بشكلٍ مذهل منٍ تقنيتي التصوير الفوتوغرافي والسينما. تتوزّع الأعمال وفق ترتيبٍ موضوعي - بورتريات ذاتية وللآخرين، مشاهد دينية، مناظر طبيعية، عُُري - يسمح لنا بمقاربة شخصية رامبرانت الفريدة وروحانيته وبملاحظة الأساليب المتعددة التي مارسها لمعالجة كل من هذه الموضوعات. ويركّز المعرض بشكل خاص على ولع الفنان بفن الحفر وبإمكانية تغيير معالم الصورة المحفورة من خلال العمل من جديد على قطعة النحاس الأصلية أو اللعب بكميات الحبر وبطريقة مسحه، أو عبر استعمال أنواعٍ مختلفة من الورق الأوروبي، الصيني، الياباني، الهندي أو المشمّع. وبالفعل، تتجلى في المحفورات المعروضة عبقرية رامبرانت في استخدام مختلف هذه التقنيات لترجمة حركة أسارير الوجه أو تطوّر حالةٍ أو حدثٍ ما، وبالتالي الإيحاء بالحياة ومرور الزمن، ولكن أيضاً للعبور من عالم الواقع إلى فضاءات رؤيوية يتجلى فيها لغز الكون. الصالة الأولى من المعرض تعجّ بالبورتريات الذاتية التي حققها الفنان رسماً أو حفراً طوال مساره، وتشكّل سيرة ذاتية حقيقية له. فمحاولاته الأولى التي نفّذها بالألوان المائية تتميز بأحجام صغيرة وبعفوية خطّها وحيويته. بعد ذلك حفر رامبرانت وجهه مرات عديدة كما تجلى له في المرآة، أي بأسلوبٍ واقعي موضوعي ثم بهدف ترجمة انفعالاتٍ ومشاعر مختلفة ناتجة عن صدمات نفسية أو جسدية، مثل الرعب والألم والغضب والسخرية. ويجب انتظار عام 1630 كي يحقق الفنان بورتريات ذاتية مثالية وبأحجامٍ كبيرة بغرض البيع. أما أفضل بورتريه له فهو بالتأكيد الأخير الذي حفره عام 1648 وقام فيه بعملية تحليل ذاتي مدهشة بعيداً عن أي مكر أو مواربة. ويتجلى في هذه الصالة أيضاً تطوّر أسلوب رامبرانت واكتفاؤه مع الوقت بانعكاس نورٍ على وجهه، أو بإسقاط ظلٍّ في الفضاء المحيط به، أو بالرسم بواسطة خطّ مرتج، للتعبير عن حركية تعابير وجهه، ومن ثم باللعب في تدرّج الضوء لتغيير هذه التعابير كما يشاء. ويتبيّن في الصالة الثانية من المعرض كم شكّلت التوراة بعهديها القديم والجديد مصدر وحي رئيسي لرامبرانت منذ عام 1626 مع لوحاته المائية الأولى، وحتى عام 1659. فأكثرية محفوراته رصدها لهذا الموضوع، وتظهر فيها فراءته الخاصة للتوراة من خلال تجديده صورية بعض فصولها ورسم بعض وجوهها. ويكفي غالباً تأمّل اختلافات الأنوار والظلال في النُسخ المطبوعة حول مشهدٍ واحد لاكتشاف تفسير رامبرانت الخاص لها. ومقابل هذه المحفورات الليلية التي تغوص بنا داخل عالم رؤيوي مؤثّر، حقق الفنان محفورات نيّرة ومعالجة بأسلوبٍ حرّ حول طفولة المسيح. وتبدو تعابير ووضعيات وحركات الشخصيات الماثلة في جميع هذه المشاهد جدّ بشرية. فقط الملابس والحلي تعود بنا إلى زمنٍ وجغرافيا محددين. أما الخارق فيتجلى في طريقة إخراج الأنوار والظلال فحسب: ومضات خفيفة، إضاءة عنيفة أو عتمة كالحة. فالمرئي في هذه الأعمال لا غاية منه إلا بلوغ المحجوب. الصالة الثالثة من المعرض مخصصة للأعمال التي حققها رامبرانت خلال نزهاته في أرجاء الطبيعة التي تحيط بمدينة أمستردام بين عامَي 1640 و1645، ثم بين عامَي 1650 و1652. وتتميّز هذه الأعمال بعفوية كبيرة في التنفيذ وببنيات شفافة وبمعنى عميق للنور والفضاء فيها. وقد خصص الفنان للإنسان موقعاً متواضعاً داخلها مقارنة بالفضاء المخصص للسماء والذي يحتل غالباً الجزء الأكبر من المنظر. وبالفعل، يوحي الحجم الكبير والعريض لهذه الأعمال بالمساحات الشاسعة وبتمدد السهول، كما يتجلى البعيدُ بعمقه بواسطة التصاميم المتعاقبة في كل منها. وسعى رامبرانت قبل أي شيء إلى إثارة انطباعٍ أو إحساسٍ، وإلى تجسيد خصوصيات لحظةٍ ما أو تحوّلات الطبيعة أو تحرّك الأنوار والظلال ودوران الشمس. باختصار، حاول ترجمة كل ما لا يمكن تصويره. في الصالة الرابعة من المعرض، يمكننا مشاهدة المحفورات العشر التي خصصها الفنان لموضوع العري والتي يتبيّن فيها ثلاث مقاربات مختلفة: عريٌ يخالف الأعراف الأكاديمية ويصدم بواقعيته، عريٌ غريبٌ يتّسم بالكآبة والعياء داخل جو مثقّل بالتساؤلات، ربما يعكس وضع المرأة آنذاك، وعريٌ مثاليٌ وفق الأعراف عند نهاية حياته. وبالفعل، مارس رامبرانتت السخرية في محفوراته الأولى. فبدلاً من إتّباع النموذج اليوناني للعري، تعمّد رسم نساءٍ من الطبقات الكادحة بدون أي تلطيفٍ أو تجميلٍ لتفاصيل أجسادهن. ولكن مع مرور الزمن، عرف كيف يستحضر كامل الطاقات الإيحائية لجسد المرأة وتمكّن من اكتشاف جميع مصادر جمالياته، كما تشهد عليه محفورات"امرأة تتوضأ"وپ"المرأة والسهم"وپ"الإفريقية الممدة"التي تتجلى داخلها أجسادٌ جميلة ونيّرة تنبثق من العتمة كمنحوتاتٍ من نورٍ، بدون أي نطاقٍ محددٍ لها. وتختتم المعرض سلسلة بورتريات حفرها رامبرانت لأعيانٍ ورجال دين وأصدقاء من المحيطين الفني والأدبي. وتظهر هذه الشخصيات بنصفها الأعلى، وحيدة أو برفقة كتابٍ أو تحفة فنية أو غرضٍ معيّن يستحضر نشاط كل منها. كما تحمل الوضعية أو الحركة أو التفاصيل المتعلقة بالهندام معنىً رمزياً أكيداً. وفي كل من هذه البورتريات، حاول الفنان ثبر أعماق موديله بحسٍّ سيكولوجي مرهف وترجمة طبيعته الداخلية بواسطة تعابير الوجه أو العينين أو التجاعيد، وبواسطة كمية الضوء الذي يلفح الوجه. وقد سمحت تقنية الحفر له بتغيير التعابير وبإحياء الوجوه والنظرات عبر نسخ كل محفورة مرات عديدة ولكن بشروط مختلفة. أما الحضور الفريد لموديلاته داخل هذه المحفورات فيعكس الطابع الحميم لعلاقات رامبرانت بهم ونظرته الإنسانية لكل واحدٍ منها.