يحقق الشاعر المغربي عبداللطيف اللعبي، في ديوانه الجديد، اكتمال دائرة العودة إلى"الحسية"و"الماضي"، كما ينجز عبر وسيلة تعبيرية مختلفة، جزءاً من القضايا التي انشغل بها في روايته السابقة"قاع الجرة"، من تركيز على طفولة الحواس، واحتفاء بالتكوين المبدئي للجسد والذاكرة، والاكتشاف الأول للعالم ومتعه الدنيوية الصغيرة. وفي"فواكه الجسد"يعود اللعبي - مرة أخرى - إلى مرتعه الجمالي المفضل، أي القصيدة المسائلة، المنطوية على التباسات الإدراك، والمتغلغلة في عمق الأشياء، في الذوات والأمكنة وتفاصيل العيش. فبعد ديوانَيْ"عهد البربرية"1980، و"قصة مصلوبي الأمل السبعة"1980، وسواهما من المجموعات الشعرية التي صدرت في الثمانينات من القرن الماضي، وغلب عليها النفس الإنساني بمزيج من الرؤية الرومانيسة، والمضمون السياسي، والاحتفاء بالوقائع الحية، ثم بعد إصداراته المتوالية في التسعينات التي حملت عناوين مثل:"الشمس تحتضر"1992، و"احتضان العالم"1993، و"شجون الدار البيضاء"1996، و"مقاطع من تكوين منسي"1998، التي أرهصت بتحول جذري في الرؤية والأداة الشعرييتن، نحو آفاق جمالية تعتني بالوجودي والذاتي، والكشف التأملي لوقائع الماضي... يتحقق في المجموعات الشعرية الجديدة، ومن ضمنها"فواكه الجسد"، ارتقاء لافت في سلّم الذاكرة الحسية، وتغلغل مدهش في مجاهل الرغبات النفسية الدفينة، وإضاءات ساحرة لأوهاد الفطرة الجسدية. والظاهر أن المجموعة الشعرية الراهنة التي اشتملت على ترجمة عربية مرافقة للمتن الفرنسي الأصل أنجزها الشاعر بنفسه، وأعقبت أعمالاً روائية ومسرحية وكتابات للأطفال، أخذت الحيز الأعظم من انشغالات اللعبي في السنوات الأخيرة، جاءت لتؤكد ما تضمنه كتاب اعترافي للعبي هو"الهوية: شاعر"من أن وجوده، واستمراره في العيش، والتعلق بالحياة، مستمدة من طاقة الكشف التي تمنحها له ملكة"الشاعر". وهو ما نستشفه بقوة، مرة أخرى، وفي صيغ مختلفة، عبر أسطر قصائد"فواكه الجسد"التي يتعمق فيها النفس التأملي حول: الرغبة، الحب، الجسد، الروح، الحياة، الموت، والواقع والحلم... وسواها من الأقانيم الموضوعية الكبرى التي تشغل بال الكائن الفطري الثاوي في عمق أي شاعر. يتألف الديوان من مقاطع شعرية، تمثل لقطات وصوراً متعددة الألوان والظلال، في صدد أفراح الجسد العابرة التي تبدو اعتيادية لتكرارها وبداهتها. بيد أن ما يمنح الإفضاء بها سمت الكشف السحري أنها تخترق لحاء الظاهر إلى العالم المخفي. وسرعان ما يتجلى الجسد الحسي بصفته لغزاً ملتبساً بين الخيال والواقع، مزاوجاً بين المحتمل والمدرك، لا نتعرف الى أسراره بوظائف اللمس والذوق والامتلاك الحسّي فقط، وإنما نحتاج دوماً إلى كفايات البصيرة لسبر أغواره المستترة. شيء شبيه بطبيعة"الفاكهة"ذاتها"إذ منها ما يُتذوق بالقضم المباشر، ومنها ما يحتاج إلى نزع القشور، ومنها ما يتطلب كسر القشرة الصلبة. والحق أن هذا التشبيه، ينفذ بنا إلى دلالات أكثر تعقيداً، فنحن ألفنا تشبيهات التفاح والرمان والموز والعنب، في الكثير من التخييلات الأدبية للجسد، بيد أننا لم نعهد تشبيهاً له بثمار كالجوز أو الفستق، في حين توحي قصائد اللعبي بمثل هذا المعنى. فنحن لا نعرف كنه جسم الآخر المنغلق على أسراره الدفينة إلا ككتلة برّانية، ولهذا تنطوي كشوفنا لأعضائه على نفحة المقامرة، وتبدو عملية التعرية أشبه ما تكون بتكسير ثمار الفستق، فقد تسفر عن لبّ ناضج ولذيذ، وقد تثوي الفراغ الصادم، يقول الشاعر: "أيها الحب/ اهدنا سبيل النبع/ حيث الأجساد/ تحظى/ بجمال الروح الفذ/ مدّنا بقوة لئلا نحتقر ضعفنا"ص105. في هذا المقطع يتبدى الجدل الملغز بين مظهرية الجسد الفاتنة وتجرده الشفيف، ونستشف نزوع الشاعر إلى تبديد هالة الحسية الطاغية عن معناه العام، على نحو يذكرنا بمنزع صوفي قديم إلى وسم الروح ب"الجسد اللطيف"، ومن هنا كانت الملائكة"أجساداً لطيفة"، ممتنعة على الأعين، ترى بالبصائر والضمائر فقط. في مقاطع لاحقة ترتقي روحانية البدن مدارج أخرى، في الآن ذاته الذي يحتفظ بحسيته واعتياديته، حيث يُضحي الإنسان مختزلاً في رغائب الجسد، ونزوعاته الفطرية، موجهاً دونما إدراك بتفاصيل لوعة الحب، والحنين إلى الوصل، ومعانقة شقه الآخر الذي فصل عنه في الأزل، كما توحي الرؤية الأفلاطونية للكون، التي استوحاها اللعبي ببراعة شعرية نافذة في مقطع من مقاطع"فواكه الجسد"، حيث يقول:"فرقوا ما بيننا/ في حياة سالفة/ هذا ما حصل/ ولو يصعب علينا الآن/ أن نصدق ذلك/ الساطور/ الذي قطعنا نصفين"ص 100. ويلزم عن هذا الفهم الشعري لوحدة الجسد، الذي تداولته التخاييل الفلسفية والصوفية والجمالية عبر قرون طويلة، أن الإيحاءات الشبقية: الحسية والعاطفية ليست في عمقها إلا خضوعاً لجبلة أصلية كان فيها الذكر والأنثى كياناً ملتحماً ببعضه بعضاً، ولو أن هذا الفهم يبدو الآن مجرد بلاغة دنيوية تسعى إلى تقريب معنى التجاذب بين الجنسين عبر ابتداع أسطورة وحدة"العلة"، التي اختزلت التعدد في الكيان البشري، ثم آلت به إلى ثنائية. في مقاطع لاحقة يجول بنا عبداللطيف اللعبي في ملكوت الرغبة، وما يقترن بها من أحاسيس، وما تفضي إليه من اقتحامات عاطفية وأخلاقية، ويمعن في تعرية أوجه التجاذب اللاإرادي للأجساد، وتوقها للانغمار بعضها في بعض، حيث يصير ذلك الحبل السري الرابط بين الجسدين المتنائيين هو الحقيقة الوحيدة الخالدة، أما ما يتخللها من تفاصيل ثقافية واجتماعية فلا تعدو أن تكون تلفيقات متبدلة، وبلاغة لا تنفذ إلى صلب الكائن:"عندما تغلي الرغبة إلى حد الإيلام/ في حضرة مختارة الفؤاد/ لا يبقى مجال للتحية والإكبار/ أقولها من دون التواء/ وحدها الوقاحة/ تكون جديرة بالمقام"ص 95. كتب اللعبي"فواكه الجسد"منشورات مرسم، الرباط، 2006 برغبة الإفضاء الشعري بأحاسيس أزلية، كما كتب قصائده، ذات النفحة الإروسية المحببة، بفطرة الشاعر الدنيوي المقبل على الحياة، بيد أنه كتبها أيضاً كسعي إلى تكريم كيان"الجسد"الحسي الذي غالباً ما أحيط بهالة من الاتهام والخوف والحجب والنسيان"فكان أن حوّل ما اعتُبر - لزمن طويل - مداراً فضائحياً، إلى مصدر للتأمل، والتأويل، وإجلاء لمكامن المفارقات الإنسانية.