كان الكومبيوتر فرداً جديداً في عائلتها. طفل دخل راشداً الى المنزل واستحوذ على اهتمام الصغار والكبار معاً، مشكلاً محور اختلاف دائم بين الطرفين وحزازات تكاد لا تطاق بينهما، وماحياً كل المسافات الاجتماعية والعائلية التي كانت تضع الكبار في خانة الاهل الذين يملكون حقاً مكتسباً في الأولوية. اما الصغار ففي رتبة الاولاد الذين يُفرض عليهم احترام الوالدين بالفطرة. مداورة أمام الجهاز "بالدور أمام الكومبيوتر"، موقف لم تصدّق الوالدة، وهي جزء من الكبار في هذه اللعبة، انها قد تقفه يوماً ما داخل منزلها... وامام اولادها. فهي الراشدة التي من المفترض، مبدئياً، ان يطيعها الصغار إلى حدّ ما. وهي الام التي من المفترض ايضاً ان تبسط هيبتها واحترامها... و"تفرض"دورها في استعمال جهاز الكتروني، هي اشترته اصلاً... ولا تزال تدفع اقساطه للمصرف. صحيح انها والدة عصرية، مثقفة ومتفتحة الذهن، سيدة عاملة تحسن توزيع ساعات يومها الأربع والعشرين بين العائلة والعمل... لكنها باتت مجرد"مستهلكة"لهذا الجهاز الصغير، تتشوق بانتظار دورها، بفارغ الصبر، لتحتل الكرسي امام شاشته. فالكومبيوتر جرّدها من كل ميزاتها المكتسبة ومن كل هيبتها وقوتها. وأمامه، فقدت كل امتيازات كانت اكتسبتها بفضل عمرها ومكانتها العائلية: ما من"واسطة"معه، وما من إكرام أو تنازل عن حق مكتسب، وما من تهديد او ابتزاز ينفع. امام شاشته الجميع متساوون... وإن بشكل خادع. فهي تضطر الى تقديم مئة مبرر مقنع ليُسمح لها باكتساب دورها في استعماله، بينما حقهم مكتسب لأنهم"الشباب"العصريون وليسوا"متخلفين"مثلها، او دخلاء على جهاز ليس من حقها استعماله اساساً بفعل عمرها"الكبير"، بنظرهم. راقصة باليه الكترونية اين المنطق في تلك المعادلة؟ وحدهم الشباب يملكونه لأن ثقتهم في امتلاك كل مفاتيح استعمال الكومبيوتر تتخطى العقل الراشد. هم"يدخلون"من برنامج الى آخر مثل راقصة الباليه التي تتنقل برشاقة على خشبة المسرح. يعرفون كيف ينقلون تلك الصورة واين يحفظونها. يدركون،"فطرياً"، كيف يشغّل هذا البرنامج او ذاك... وهي لا تجرؤ على القيام بأي"حركة"او خطوة في البرامج من دون العودة الى الكتيّب الذي يرافقه عادة، خوفاً من ان"يطير"ويمحا كل ما حققته من قبل. اما هم فيجرؤون على اختبار قدرات هذا البرنامج او ذاك، غير آبهين باحتمال ضياع العمل المخزن في الجهاز. هم يرونه صديقاً يرافقهم ليلاً ونهاراً... وهي ترى فيه غريماً يجب ان تنتصر عليه لتتمكن من الافادة من خدماته. قد يبدو الامر مجرد صورة كاريكاتورية مضحكة، لكنه ترجمة فعلية لصراع اجيال طالما اعتقدت بأنها نجت منه في السابق. فهي تفاخر بأنها"اختصاصية"عصرية في استعمال الكومبيوتر. تخزّن عليه كل عملها ومعلوماتها. تنقلها معها على ال"فلاش ميموري"أداة تخزين كقلم حمرة في حقيبة يدها لأنها تشكل"ذاكرتها"، كما تحب ان تردد. لكنها في الحقيقة تجد نفسها كمن يطأ ارضاً غريبة للمرة الأولى. تبقى حذرة ومترددة في كل خطوة تخطوها... فتتنفس الصعداء لا شعورياً متى"مرّ القطوع على سلامة"، كما تتمتم وحدها. ومع الكومبيوتر، يكتسب الوقت ابعاداً اخرى. هي تنسى نفسها عندما تغوص في ابحاثها وتتنقل بين موقع وآخر، او عندما تقرأ الرسائل الالكترونية التي تصلها، والصور او النكات المرفقة بها. اما هم، فحدث ولا حرج: دقيقة ال"تشاتينغ"على الانترنت تمتد ساعتين، لأن الحديث لا يتم الا بالتزامن مع خمسة رفاق معاً. وعبارة:"انتهيت انني اقفل البرنامج"تعني اقفال برنامج واحد فقط، بينما ثلاثة برامج أخرى لا تزال "واعية". سيفه "فأرة" الصراع يبدو مستميتاً بين الطرفين، وكل فريق يتشبث بموقفه وكأنها مبارزة من العصور الوسطى، او ربما معركة بالفأرة الصغيرة ماوس المرتبطة به، التي تشكل سيف الكومبيوتر. الوالدة تؤكد ان عليها ان تتفقد عملها من ضمن رسائلها الالكترونية، والمراهق يقسم ان استاذه ارسل اليه فرضه في تلك المادة على الإنترنت. اما محاولة حجز الشاشة اولاً فتبوء دوماً بالفشل الذريع. إذا"تذاكت"الوالدة ووضعت كلمة سر للدخول الى الانترنت، يكون الاولاد اذكى منها ويعثرون على برنامج الكتروني"يفك"الرموز ليثبتوا لها بكل"وقاحة"انهم الاذكى الكترونياً... وانها المتخلفة عصرياً مهما فعلت ودرست وباتت up to date محدّثة. فالتخلف التكنولوجي العصري يبرز فوراً لديها في اقل"خطوة"قد لا تكون مبرمجة في السابق. كبسة صغيرة وتظهر نافذة غريبة عجيبة داخل الشاشة، جاعلة الهلع يدب في قلبها. وما من مجال ابداً لخوض اي تجربة جديدة في برنامج متطور مبتكر غريب عنها، من دون ان تبدو بمظهر كريستوف كولومبوس لما رأى اليابسة للمرة الأولى بعد اشهر من الابحار. والجديد هنا، يرادف حتماً الصعب والمعقد وغير المفهوم الا بعد جهد... على عكس الوضع بالنسبة الى اولادها الذين يستمتعون حقاً بالغوص في اي برنامج جديد وكأنهم سمكة في مائه، مهما كانت عكرة. فتطير اصابعهم اليافعة على لوحة المفاتيح من دون تردد ومن دون قراءة التعليمات، ويجدون الحل لأي معضلة فيه ب"بداهتهم"... اما هي فلا تكاد تبرع في برنامج ما حتى يظهر غيره اكثر تعقيداً، وكأن المنافسة بين"الكبار"و"الصغار"حقل مبارزة لا افق له ولا حدود، او كأن علمها ودرسها وذكاءها لم تفد كلها الا في ابراز ما تعتبره عاهة عصرية توصمها وتقفز الى العلن فوراً امام اي جهاز عصري او برنامج الكتروني جديد...