منتصف الشهر الماضي، طلبت لجنة الخدمات المسلحة من مجلس الشيوخ الاميركي الاستماع الى شهادة الجنرالين جورج كايسي وجون أبي زيد بشأن الوضع الأمني المتدهور في العراق. وفوجئ أعضاء المجلس بلهجة التشاؤم التي رافقت تحليلهما للواقع المرير الذي تعانيه القوات الأميركية في بغداد وكركوك والموصل والرمادي وسائر المدن الأخرى. وقال قائد القوات الأميركية في العراق الجنرال أبي زيد ما خلاصته:"انه يتوجب علينا ان نباشر في سحب قواتنا تدريجياً من ذلك المستنقع". وأيده الجنرال كايسي في هذا الطلب مؤكداً لأعضاء اللجنة:"انه كلما تضاءل عدد جنودنا على أرض العراق، كلما خفت العمليات الموجهة ضدهم". الواضح ان جلسة الاستماع الى شهادة القائدين تمت بهدف مناقشة تقرير وضعه كبار الضباط بينهم قائد الاركان الجنرال بيتر شوميكر. ويحذر التقرير من مخاطر الانزلاق في معارك الاستنزاف، ومن ارتفاع عدد القتلى الاميركيين في العراق الذي بلغ 2750 في حينه. ويعزو التقرير اسباب تزايد الاصابات الى مواصلة اخضاع الجنود لمهمات قتالية شاقة ضمن فترات طويلة لا تعرف الراحة. وبسبب الضغط المتزايد على القوات البرية ومشاة البحرية، اضطر البنتاغون الى نقل آلاف العاملين في القوات الجوية والبحرية لتولي وظائف اضافية مثل قيادة الشاحنات وحراسة المعتقلين. ويعكس مضمون التقرير قلق كبار الضباط وشكوكهم في قدرة القوات المسلحة على الاستجابة لنداء الواجب في حال اندلاع معارك أخرى في مناطق ساخنة مثل ايران وكوريا الشمالية. ويضم الجيش الاميركي مليوناً وخمسين ألف جندي نظامي عامل، إضافة الى 830 الف جندي من الاحتياط يجري استدعاؤهم عند الحاجة. يوم الاربعاء الماضي استمع الكونغرس الى تقييم الجنرال أبي زيد للوضع الأمني في العراق. ونصح بضرورة زيادة عدد الجيش وعتاده، كما أشار كولن باول سابقاً. واعترض على فكرة تحديد جدول زمني للانسحاب لأن هذا الاقتراح، في رأيه، يشجع القوى المشاغبة على مضاعفة عملياتها، ويعزز دور الميليشيات التي تنتظر الظرف المناسب للانقضاض على مؤسسات الدولة. ورأى ان الحل العملي يكمن لدى رئيس الوزراء العراقي نوري المالكي، وفي قدرته على حل الميليشيات المسلحة باعتبارها تمثل قوة الارباك للدولة الفتية وللقوات الخارجية المساندة. وهذا ما زكاه الدكتور عدنان الباجه جي في محاضرته الأخيرة في جامعة اوكسفورد، عندما وصف العلاج السياسي لأزمة العراق، بضرورة حل الميليشيات. واعتبر الباجه جي ان هذه الطفيليات المسلحة تتغذى من قوة الدولة وتمتص نفوذها وهيبتها، وتمنعها من النمو والنجاح. الرئيس نوري المالكي ذهب في انتقاده لدور الميليشيات، الى أبعد مما ذهب اليه الباجه جي، بحيث انه اعتبرها اسوأ من التكفيريين. وكان ذلك عقب عملية الخطف الجماعي التي نفذت داخل مبنى وزارة التعليم العالي. ويتردد في بغداد ان هذه العملية فتحت باب الاستجواب والتحقيق مع خمسة ضباط في شرطة منطقة الكرادة. وقد تبين لوزير الداخلية جواد البولاني ان هناك"طابوراً خامساً"استطاع ان يخترق دوائر الشرطة ويلعب دوراً مزدوجاً. وربما يقود التحقيق في هذه المسألة الشائكة، الى ضرورة مراجعة كل سجل من سجلات المتطوعين للانخراط في الجيش أو الشرطة، والسبب ان قيادة الجيش الاميركي بدأت تشكك في ولاء الكثيرين ممن تطوعوا للعمل في المؤسسة الأمنية، ثم تبين لها أنهم اختفوا من دون عذر أو تبليغ. وترى الحكومة العراقية ان هذه العناصر تطوعت بهدف استغلال مواقعها في الدولة من أجل خدمة أهداف الذين أرسلوها. وعليه اضطرت وزارة الداخلية الى مراجعة مئات السجلات الشخصية لعل ذلك يساعدها على اكتشاف العناصر المندسة واجراء عملية فرز شاملة. في حديثه الى قناة"اي بي سي"الاميركية، حذر جيمس بيكر من عواقب الانسحاب السريع من العراق، لاعتقاده بأن حرباً أهلية غير مسبوقة قد تمتد نيرانها الى ايران وتركيا وسورية ودول الخليج كافة. ولكنه بالمقابل، قدم خيارات بديلة تتعلق بمحاولة فتح حوار مع طهرانودمشق بغرض اشراكهما في حل المشكلة العراقية. والملفت ان رئيس وزراء بريطانيا توني بلير حبذ في خطابه الأخير توصية بيكر، وانما تجنب إطراء الدور السوري خوفاً من إفساد زيارة مستشاره نايجل شاينوولد. وعلى رغم تحفظه الهادف، فإن بلير أيد اقتراحات"لجنة بيكر"في الاتصال مع ايران وسورية من أجل تحقيق الاستقرار في العراق. كما طالب بتغيير الاستراتيجية في العراق، وبضرورة اعتماد سياسة واضحة لكل المنطقة، بدءاً بالقضية الفلسطينية - الاسرائيلية التي يعتبرها صلب الأزمة. وزيرة خارجية الولاياتالمتحدة كوندوليزا رايس، علقت على خطاب بلير واقتراح بيكر، بالقول ان العراق يخوض معركة خاصة به، وإنه من الخطأ الربط بين النزاع المذهبي في هذا البلد والنزاع التاريخي الفلسطيني - الإسرائيلي، ورفضت كل المحاولات الرامية الى فتح حوار أميركي مع إيران وسورية، بحجة أن احلال الاستقرار في العراق يتطلب مساهمة الشعب في تحمل مسؤولية مصيره، إضافة إلى المساعدة التي توفرها الجارات لتجاوز هذه المرحلة الانتقالية الصعبة. ويُستدل من مضمون جواب رايس أنها تحاول تسويق نظرية"الاستقرار بديل الديموقراطية"كجزء من الانقلاب في فكر الرئيس الذي تحرر من تسلط دونالد رامسفيلد. ولاحظ المراقبون في واشنطن أن المؤتمرات الصحافية التي عقدها بوش عقب الانتخابات الأخيرة، كانت خالية من اللازمة التي استخدمها سابقاً، أي لازمة"الديموقراطية"التي اعتبر أن ممارستها هي الحل الأمثل لضمان رفاهية الشعوب، وضمان أمن أميركا. والكل يذكر أن الرئيس بوش طرح شعار"الديموقراطية"في خطابه السنوي عن"حال الاتحاد"، مؤكداً أن بلاده تحقق تقدماً ملموساً على صعيد الحرب على الإرهاب ونشر"الديموقراطية"في العالم، واعتبر في خطابه"أن بلاده تكتب اليوم فصلاً جديداً في تاريخ التحول نحو الديموقراطية، وان المهمة في العراق ستتحقق خلال مدة لا تزيد على الثلاث سنوات". أول تعليق على شعار"الديموقراطية تمنع الإرهاب"كتبه ريتشار هاس، رئيس مجلس العلاقات الخارجية في صحيفة"نيويورك تايمز". وانتقد ما يُعرف ب"عقيدة بوش"التي وصفها بأنها مجموعة تكتيكات تعرقل السياسة الخارجية وتهدد حياة الملايين داخل دول تصنفها إدارة بوش"مارقة". وحذر هاس من أن السفينة الأميركية في العراق على وشك الغرق، وأن عملية الانقاذ تحتاج إلى مقاربة جديدة للشؤون الخارجية. زعماء الحزب الديموقراطي انتقدوا بشدة"عقيدة بوش"باعتبارها مستوحاة من"مبدأ ترومان"أثناء الحرب الباردة. وبدلاً من مصطلح"الدول الحرة مقابل الدول الديكتاتورية"، وضع بوش بالمواجهة"الديموقراطية مقابل الإرهاب". وبحسب هذا المبدأ حاولت واشنطن فرض"الدمقرطة"على العراق، فإذا بها تحصد العنف والإرهاب المنظم. وفي ظل هذه العقيدة فازت"حماس"بدل السلطة الفلسطينية. وبعد الإصغاء الى نصح القادة مثل توني بلير وجاك شيراك وفلاديمير بوتين والجنرال برويز مشرّف، اقتنع جورج بوش باستبدال شعار"الديموقراطية"بشعار"السيادة الوطنية". كذلك ساهمت المعارك الفاشلة في أفغانستانوالعراق، في اقناعه بأن انشاء سلطة مركزية مستقرة هي المعيار الصحيح الذي يساعد على بناء الديموقراطية. وفي ظل أجواء الفوضى، تنمو"القاعدة"وسائر الايديولوجيات الرامية الى تقويض دعائم الدولة المستقرة. ويقال في هذا السياق ان قناعة بوش ازدادت رسوخاً عندما قرأ لصموئيل هانتنغتون، صاحب نظرية"صراع الحضارات"، مقالة جاء في ملخصها:"انه بالمستطاع انشاء دولة من دون ديموقراطية، ولكن من المستحيل اقامة ديموقراطية من دون دولة". وهذا ما ينطبق على العراق الذي تعرضت دولته لتدمير كامل في مؤسسات السلطة! بقي السؤال المتعلق بموقف الرئيس بوش من النصائح التي قدمها صديقه توني بلير بشأن إقامة حوار مع إيران وسورية. قالت الوزيرة الأميركية رايس للصحافيين الذين رافقوها الى هانوي، انها على استعداد لفتح حوار مع أعداء أميركا. وأعلنت عن استعدادها للتحدث إلى أي كان في أي زمان ومكان، شرط نضوج الظروف المناسبة لإحراز تقدم. وذكرت أن الإدارة أجرت محادثات مع دمشق، وأرسلت موفدين للتحدث إلى المسؤولين، ولكن هذه الاتصالات لم تبدل في سلوك سورية. ذلك أنها بقيت منحازة لقوى التطرف، وتسببت في إثارة مشاكل داخل لبنان، وقوضت سلطة الرئيس محمود عباس، وأهانت مصر والسعودية... واستدلت رايس من كل هذا أن سورية لا تريد أن تكون قوة لفرض الاستقرار في المنطقة. حديث رايس عن إيران كان مقتضباً وسلبياً، ولكنه لم يغلق الباب أمام حوار سري ربما يفتتحه الرئيس الروسي بوتين، كما وعد بوش. وفي رأي واشنطن فإن المصالحة مع طهران ستقود حتماً الى المصالحة مع دمشق، ولكن العكس غير صحيح. وترى فرنسا أن موقف إيران المتشدد من اسرائيل لا تفرضه مشاعر الايديولوجيا الإسلامية بقدر ما تمليه الحاجة إلى المماطلة والتسويف بهدف التوصل الى انتاج وقود نووي. ومعنى هذا أن الحوار مع طهران سيظل مقطوعاً ما دام الرئيس نجاد يواصل تهديداته بإزالة إسرائيل من الوجود. ومعنى هذا أن انفتاح طهران على الولاياتالمتحدة ليس من مصلحة نظام الملالي حالياً. علماً بأن إيران كانت قد قبلت خطة السلام العربية التي تقترح مقايضة الانسحاب الإسرائيلي بسلام عربي. يقول المحللون في واشنطن ان بوش يحاول شراء الوقت بواسطة بوتين كي يعطي اسرائيل الفرصة التي تحتاجها قبل شن حرب وقائية. وان نجاد يشتري الوقت بانتظار الاعلان عن صنع القنبلة النووية... وان ايهود اولمرت يتهيأ لحرب انتقامية يعدها مع وزير الشؤون الاستراتيجية افيغدور ليبرمان، وقائد سلاح الجو اليعازر شكيدي... كما يشاع ايضاً ان التنافس بين الحروب الاهلية والحروب النظامية قطع شوطاً كبيراً، وان حرب لبنان لم تكن حرب 1973 التي فتحت الباب لاتفاق السلام المنفرد! * كاتب وصحافي لبناني