من ضمن سلسلة كتب عن المدن الفلسطينية، صدر أخيراً كتاب"صفد في عهد الانتداب البريطاني 1917 - 1948 - دراسة اجتماعية وسياسية"للدكتور مصطفى العباسي عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية، والكتاب هو رسالة دكتوراه أُعدت في جامعة حيفا، في حوالى 400 صفحة. المعروف أن مدينة صفد مدينة قديمة ربما بنيت في زمن الكنعانيين، إذ تقوم أحياء من المدينة على جبل يُسمى جبل كنعان، وترتفع 835 متراً عن سطح البحر وهناك تفسيرات عدة لاسمها"صفد"أو"صفت"أو"صفاة"ويعني الصخر الصلد، وأحياناً الصخرة، أو"صفت"الوثاق والعطاء. وهي تقع في الجبال الشمالية الشرقية من فلسطين، - جبال الجليل - وهي آخر المدن الفلسطينية القريبة من الحدود الشمالية مع لبنان، إذ تبعد حوالى 29 كيلومتراً من تلك الحدود. وهي تشرف من موقعها على أهم مصادر المياه في فلسطين، بحيرة الحولة سابقاً، وبحيرة طبريا، ونهر الأردن الأعلى بفروعه وروافده، وكانت وما زالت المدينة الأهم في الشمال الأعلى الفلسطيني، إذ كانت عاصمة إدارية لهذه المنطقة في عهود عدة، ومن بينها عهد الانتداب البريطاني 1917 - 1948 الذي هو صلب هذه الدراسة. وقامت أهمية صفد من قبل لكونها مثلت حاضرة ومحطة من محطات القوافل التجارية بين دول وأقاليم الجنوب - كمصر الفرعونية وما تلاها من دول. والشمال - كدول الأموريين والآراميين والآشوريين والبابليين وغيرهم - في بلاد الشام والعراق. بلغت مساحتها في عام 1945 حوالى 5 آلاف دونم، كانت المساحة المزروعة منها 2025 دونماً. وبلغ عدد سكانها في ذلك العام إثني عشر ألف نسمة، كان عدد اليهود من بينهم حوالى 2400 نسمة يمثلون نحو 20.1 في المئة من مجموع السكان. ويبدو من خلال مصادر تاريخية عدة أن اليهود يعتبرون من المكونات الديموغرافية الملازمة لصفد منذ أوائل القرن الميلادي الأول، وان عددهم كان يشهد حِراكاً دائم التغيير في الزيادة أو النقصان. وإذا كان سكانها من اليهود في القرون الأولى الميلادية هم من سكان فلسطين، فإن سكانها اليهود في زمن المماليك والعثمانيين كانوا من المهاجرين اليها من أوروبا بعد سقوط الأندلس في نهاية القرن الخامس عشر. هذا وقد احتوى الفصل الأول من الكتاب على ما شهدته صفد من تحولات ادارية وسكانية في أواخر العهد العثماني. فهي كانت في المرحلة الأولى من الاحتلال العثماني لبلاد الشام مركز سنجق تابعاً لولاية دمشق، ثم اصبحت بعد عام 1660 مركز قضاء، واستمرت كذلك في عهد الانتداب البريطاني حتى عام 1948. أما تغييراتها السكانية فإنها خضعت الى مجموعة عوامل، وسكانها لم يتجاوزوا ال15 ألف نسمة في مراحل شتى ومنها مرحلة الاحتلال الاسرائيلي بعد عام 1948. تنظيمات وتغيرات يمكن الإشارة الى ان عهد التنظيمات 1839 - 1876 العثماني، شمل إعادة هيكلة في مؤسسات السلطنهة جميعها، ومن الطبيعي أن ينعكس ذلك في قضاء صفد وملحقاته، فتمت اعادة هيكلة للمؤسسات الإدارية، وسن قوانين عدة تتعلق بالأراضي، والقضاء والمحاكم والمجالس البلدية. وهذا ما عزز من مكانة طبقة الأعيان التقليديين وأضاف اليها أعياناً آخرين يمارسون أعمالاً مختلفة، كالوظائف في الدولة، والتجارة والمهن الحُرة وغيرها. من أبرز عائلات صفد ضمن التراتبية السابقة ورد في الكتاب، عائلات: النحوي، المفتي، الحاج عيسى، السعدي، سعد الدين، القاضي، الأسدي، قدورة، صبح ومراد، ثم الخضراء وشمّا وعبدالرحيم وغيرها. وبرزت في الطائفة المسيحية القليلة العدد في صفد - إذ وصل عددها في عام 1945 الى 430 نسمة موزعين على الكاثوليك والارثوذكس والموارنة - عائلات: البشت والبواب، ثم خوري والصباغ وحداد وعيد وندّاف وغيرها. أما في الطائفة اليهودية - أشكناز وسفارد - فقد برزت منها عائلات: عبّو، عمار، أفندي فريدمان وشبيرا والأزجي وغيرها. أما في عهد الانتداب البريطاني، فإن السياسة التي اتبعت قضت بإضعاف نفوذ النخبة العربية في جميع المجالات وذلك من أجل إحكام قبضة السلطات البريطانية على الأمور، ونظراً لنشوء وظائف جديدة، فإن شاغلي هذه الوظائف اخذوا بالتكاثر ومثلوا طبقة أخذت تتحلل من تأثيرات طبقة الأعيان تدريجاً، يمكن تسميتها بالطبقة الوسطى، إلا أنها وبحسب ما جاء في الكتاب لم تكن قادرة على إثبات نفسها أو مهيأة لأداء دور قيادي. ويمكن الاشارة الى انه وعلى رغم بروز تحديات مهمة ومصيرية، كبروز الخطر الصهيوني القاضي بإنشاء دولة لليهود في فلسطين، وتوالي الاستعدادات، خصوصاً العسكرية منها لتحقيق هذا الغرض، وبروز ذلك واضحاً في صفد، كما ان السياسة البريطانية عملت بدأب ونشاط لمساعدة الصهاينة على تحقيق أغراضهم، واتبعت القمع والبطش والتنكيل والسجن والإبعاد بحق رجالات الحركة الوطنية، اضافة الى ممارساتها في مجال فرض الضرائب الجائرة ومصادرة الأراضي ومحاربة الفلاحين وتهجيرهم وإفقارهم، مع ذلك فإن التنافسات التقليدية بقيت مستمرة - بحسب ما جاء في الكتاب - بين زعامات المدينة وتياراتها المختلفة. خصوصاً بين آل النحوي وآل قدورة على مواضيع تتعلق بالأمور المحلية، أو بأمور تتعلق بالولاء للأحزاب والقيادات الفلسطينية التي شملت فلسطين كلها. كما ان الصراع على ملكية الأراضي، خصوصاً بعدما تم الانفكاك من التراتبية الاقطاعية التي كانت سائدة في مرحلة السلطنة العثمانية، وقيام سلطة جديدة شجعت أطرافاً للتمرد على أطراف أخرى، مما وتر أو على الأصح زاد من توتير العلاقة بين الاقطاعيين المتنافسين في المدينة والقرى المحيطة، أو بين الفلاحين والمالكين إن كانوا من الريف أو من المدينة. ان كل ذلك وغيره ساهم في ابقاء حالة من التنافس والترصد ثم الانقسام بين شرائح وقوى المجتمع ان كان في صفد كمدينة، أو في القرى التي كانت ملحقة بقضائها - وصل عدد القرى الملحقة ادارياً بقضاء صفد الى حوالى 90 قرية في بعض المراحل. أما على الصعيد الاقتصادي، فإن الدراسة تذكر بأن النشاط الاقتصادي تأثر سلباً ومال الى التدهور بعد فك عُرى العلاقة التي كانت قائمة مع بلاد الشام لبنان، سورية، الأردن بعد هزيمة السلطنة العثمانية في الحرب العالمية الأولى، وتقسيم ولاية الشام الى كيانات قطرية سيطر الانكليز على فلسطينوالأردن منها، في حين أن فرنسا سيطرت على سورية ولبنان. وقامت حدود وجمارك عطلت غالبية التجارات التي كانت قائمة من قبل، وأوقفت دور المراكز التجارية الوسيطة وأربكت حركة تجارها وتبادلاتهم، ومن بين تلك المراكز صفد بطبيعة الحال. إلا أن دور صفد الاقتصادي أخذ يتعافى تدريجاً، من خلال بناء علاقات اقتصادية مع الداخل الفلسطيني، خصوصاً بعد شق طريق عكا - صفد في عام 1928، ونمو تجارات وعلاقات تجارية جديدة. فسمك بحيرتي الحولة وطبريا أخذ بعض تُجار صفد - آل خوري على سبيل المثال - يتاجرون به أو يبادلونه بسلع أخرى الى درجة أنه أصبح ينافس سوق السمك التقليدي البحري. أما على الصعيد السياسي، فإن زعماء فلسطينيين كثراً ومن بينهم زعماء من صفد كانوا من الداعين الى وحدة بلاد الشام بعد تفكك السلطنة العثمانية، وأيدوا الحكومة العربية التي قامت في دمشق بقيادة الأمير فيصل بن الحسين، بل وكان بعضهم من أركانها علي رضا النحوي، صبحي الخضراء، صلاح الدين قدورة، ومحيي الدين الحاج عيسى. حادثة البراق وعن المكان والمكانة ويذكر المؤلف في هذا المجال أن"الأعوام الأولى من الانتداب البريطاني حتى سنة 1923 شهدت حالة من الوحدة بين كل القوى في المدينة، من خلال عمل اللجنة العربية"، الا ان ذلك لم يستمر طويلاً، وعادت المنازعات والتنافسات بين زعامات المدينة الى البروز مع أن الأخطار أخذت تزداد، ومن بينها حادث البُراق الذي انعكست آثاره في صفد وأدى الى شرخ في علاقات سكان المدينة - بين العرب واليهود - والى شرخ آخر بين أهالٍ كثيرين وبين بعض القيادات الصفدية العربية. وتذكر الدراسة عن حادثة البُراق ان الإشاعات نقلتها مضخمة الى صفد، ومن بين ذلك ان اليهود احتلوا باحة المسجد الأقصى في القدس وارتكبوا المجازر بحق العرب في آب/ أغسطس من عام 1929! فقامت تظاهرات في المدن والحواضر الفلسطينية، ومن بينها صفد، التي هاجم بعض الناس فيها الحي اليهودي فقتلوا وجرحوا فيه العشرات من اليهود. والحقيقة ان صراعاً كان قائماً بين اليهود والعرب المسلمين على خلفية تبعية حائط البراق، فادعى الصهاينة انه من بقايا حائط الهيكل ويسمونه حائط المبكى، في حين ان العرب المسلمين يعتبرون حائط البراق جزءاً لا يتجزأ من الحرم القدسي، وعلى خلفية هذا الخلاف قامت تظاهرات ومناوشات واشتباكات عدة بين الطرفين -. وقد تعاملت السلطات البريطانية بقسوة وشدة مع العرب المشاركين في الحوادث فاعتقلت المئات، وأصدرت المحاكم أحكاماً قاسية قضت بإعدام العشرات، ومن بينهم أربعة عشر مواطناً من صفد، لم يُنفذ فعلياً الا في حق ثلاثة فقط من الفلسطينيين هم: فؤاد حجازي من صفد وعطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل. وعلى رغم قساوة ما عاشه الصفديون مع غيرهم من الفلسطينيين بعد حادثة البُراق. إلا أن روح النضال لم تخمد، إذ قامت حركة تمرد وعصيان ضد الانكليز واليهود الصهاينة في منطقة صفد عُرفت بتنظيم"الكف الأخضر، كما اشترك الصفديون أيضاً بالثورة التي عمت فلسطين عام 1936 واستمرت الى عام 1939. إلا أن قيام الحرب العالمية الثانية وقساوة القمع البريطاني ومصادرة أسلحة الثوار وإصدار أحكام تصل الى الإعدام بحق من يثبت أنه حاز سلاحاً واستعمله، ثم اعتقال وسجن ونفي بعض القيادات الفاعلة في الوسط العربي، كل ذلك وغيره أوهن قوة المقاومة وشتت المقاومين وصادر سلاحهم. وهذا ما ظهر جلياً في معارك عام 1948 عام النكبة. إذ كانت المنظمات الصهيونية في أفضل جاهزية قتالية وتموينية وتعبوية، في حين أن المقاومين الفلسطينيين وغيرهم من المتطوعين العرب كانوا في حالة تنافسية وتشتت وضآلة في السلاح والخبرات القتالية والعتاد والتموين. كما أن الحشد القتالي الصهيوني المدعوم بريطانياً كان متفوقاً بصورة واضحة على الحشد العربي، فسقطت صفد وأكملت القوات الصهيونية مساء يوم 11 أيار مايو عام 1948"تمشيط"أحياء صفد جميعها، فقتلت من قتلت، وأجبرت من بقي من العُجّز والمرضى وكبار السن على الرحيل مرغمين. وبذلك خلت صفد كلياً من أهلها العرب الذين شكلوا آنذاك 84 في المئة من السكان. وتحولت المدينة بعد ذلك بموقعها الجميل ومناخها المعتدل الى مدينة للفن والفنانين، كما أن بعض مبانيها بما فيها المساجد والكنائس والزوايا والتكايا وبعض المباني التجارية أو الحكومية من سرايا وقلاع وغيرها إما نُسفت أو تحولت الى كُنس أو الى أماكن للعرض أو لخدمة أغراض أخرى. فأين ما تركه مكان ومكانة المدينة من تأثيرات وخصوصاً السلبي منها، وهل جار موقع المدينة والمكانة التي حظيت بها على السكان والمباني والنشاط الإنساني فيها؟ من مراجعة محتويات الكتاب ومن غيره من مصادر، فإن موقع صفد يبدو أنه تركز على فالق صخري تكثر فيها الزلازل، كما أن المنطقة جميعها تقع ضمن تكوينات جيولوجية تكثر فيها الزلازل والهزات. وفعلاً فإن المصادر التاريخية تذكر زلازل حدثت في المدينة في أوائل القرن الثالث عشر، كما أن آخر زلزالين حدثا في الأعوام 1759 و 1837 هدما بيوتاً كثيرة فيها وأوديا بحياة آلاف السكان، ولاقى في الزلزال الأخير نحو 2000 نسمة من السكان حتفهم. أي أن حوالى ربع سكان المدينة قد قضى نحبه، هذا عدا عن آلاف المباني التي تم تدميرها، وآلاف آخرين تشردوا من سكانها. أما من ناحية المكانة فإن المدينة تعتبر من المدن المقدسة لدى بعض اليهود، كونه يعتقد أن المسيح المنتظر سيأتي اليها أولاً، ومنها سيبدأ رحلة الخلاص. من هنا القول ان المدينة - صفد - كانت وما زالت تجذب سكاناً من اليهود منذ قديم الزمان للسكن فيها نظراً لاعتقاد التقديس هذا. وهذا الأمر كان يرتب ويؤدي اذا ما ساءت الأمور بين اليهود والمسلمين - على سبيل المثال - في مكان معين، أو أن خلافاً حصل بين يهودي ومسلم، أو يهودي ومسيحي في المدينة الى حصول مشاكل ومناوشات وربما الى اشتباكات، كما حصل في زمن ابراهيم ابن محمد علي باشا، أو بسبب حادثة البُراق كما ذكرنا. وهذا لا يعني انه كانت لا تقوم علاقات عادية أو شبه عادية في المراحل التي سبقت الاشتباكات أو لحقتها. ويمكن الاشارة الى أن الكتاب تم تقسيمه الى أحد عشر فصلاً مع ملاحق ووثائق وصور عدة، كما أن مادة الكتاب الأساسية التي بذل الكاتب جهداً مضنياً وكبيراً في سبيل الحصول وحيازة مستنداتها كالأراشيف وملفات ومواد كثيرة، من بينها: أرشيف دولة اسرائيل والدوائر والمؤسسات التي كانت سابقة في وجودها على وجود الدولة، وأرشيف مؤسسات ودوائر الحكم البريطاني، وشهادات ومقابلات شخصية وعائلية ومذكرات وصحف ومجلات صادرة في تلك المرحلة وغيرها من مذكرات ومراسيم"وفرمانات"وغيرها. وهذا الأمر جعل من مادة الكتاب وثيقة مهمة من وثائق دراسة المرحلة الأخيرة من حياة السلطنة العثمانية في فلسطين، ومرحلة الانتداب البريطاني وصولاً الى النكبة الفلسطينية في عام 1948 والإرهاصات التي مهدت لها قبل ذلك.