تتوالى الإساءات الصادرة عن أوساط أوروبية صوب العالَمين العربي والإسلامي بصورة مثيرة. شمل هذا"التصدّي الأوروبي"مجالات سياسية واقتصادية لا تعتبر جديدة بالنظر إلى سوابق تاريخية عرفتها علاقات الجوار بين المسلمين والأوروبيين. أخطر ما في هذا"التصدّي"أنه أصبح يستهدف علانية جوانب ثقافية ودينية ورمزية لدى المسلمين وبوتيرة تصاعدية بدأت منذ عقدين من الزمن واستفحلت في السنوات الخمس الأخيرة. إضافة إلى هذا فإن ما يسترعي الاهتمام في هذه"الحملة"هو تأكيدها على أن الإسلام لا يمكن أن يكون إلاّ خطراً ماحقاً لأوروبا بعد إن غداً قابعاً داخلها يتربّص بها الدوائر. يتأكد هذا التوجّه بانخراط جهات معروفة بجديّتها وابتعادها عن التهافت العنصري لأقصى اليمين ضمن هذا الخطاب. حين تنشر مثلاً صحيفة فرنسية من مستوى"الفيغارو"وإثر الضجة التي أثارتها محاضرة البابا في أيلول سبتمبر الماضي مقالاً هجائياً للإسلام لا فكر فيه ولا عمق كتبه أستاذ مغمور، حين يحصل هذا باسم حريّة التعبير من قبل صحيفة عريقة فإنه لا مفرّ من التوقّف لتدبّر الأمر. ثمّ بعد أقل من شهر وعلى إثر إيقاف عدد من المسلمين العاملين في مطار"رواسي"بباريس باسم تحفظ أمني لا تعرف حقيقته، واصلت ذاتُ الصحيفة نفس النسق ناشرة حواراً ثالباً لفيليب دو فيليي فيه عبارات تحقيرية جارحة للمسلمين و فيه مطالبة المسؤولين بالحزم الكامل في خصوص النساء المحجّبات اللواتي ينبغي"إرغامهن على نزع الحجاب في الشارع والأماكن العامّة لأنه رمز لاستعباد المرأة وتقصيتها عن قيم الجمهورية". يضاف إلى هذا التصعيد صدور قانون للهجرة إلى فرنسا لا يبيحها إلا للمهاجرين"المتميّزين". لم يتردد واضعو القانون في الإعلان عن حاجتهم إلى الكفاءات المختارة الوافدة من"جنوب المتوسط"بينما تظلّ الأبواب موصدة في وجه أهاليهم ومن هم دونهم كفاءة. يبدو الأمر جللاً وكأنّ المهاجرين على وشك اكتساح الأراضي الفرنسية بخاصة والأوروبية بعامّة. هذا في حين تثبت الأرقام الرسمية أن نسبتهم لا تزيد على 6 في المئة من جملة عدد سكان فرنسا وأن السلطات الأوروبية رفضت منذ ثلاثة عقود 83 في المئة من مطالب اللجوء إلى الفضاء الأوروبي شانقان. ما يكشفه رصد الأحداث أن خطاب"التصدّي للغزو والإرهاب"الوافدين خصوصاً من العالَمين العربي والإسلامي ليس حكراً على اليمين. إذا نظرنا إلى جهة اليسار الفرنسي فإن الإساءات لا تقلّ ضراوة. زد ما قيل وكُتب في تعليل معارضة انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوروبي ففيه سُمّ ناقع وللنظر إلى دعم اليسار قانون تجريم منكري"إبادة الأتراك للشعب الأرمني"أوائل القرن العشرين. هذا القانون الجديد مذهل بكل المقاييس مع ذلك دافع عنه أقطاب من اليسار في المجلس النيابي على رغم موجة إنكار مفكرين ومؤرخين فرنسيين فضلاً عن الأتراك. مثار الرفض أنّ القانون يريد أن يحسم في شأن حادثة لا علاقة لفرنسا بها وفي اتجاه يعمِّق الفجوة بين شعبين لا يمتّان إلى فرنسا بصلة. أخيراً وليس آخراً، يأتي إسناد جائزة الكتاب السياسي لسنة 2006 إلى"كارولين فوراست"اليسارية النسوية عن كتابها"الإغواء الظلامي"La Tentation obscurantiste المُذكي مخاوف الأوروبيين من"الغزو الإسلامي"لبلادهم وتهديد قيمهم ونمط حياتهم. أما بريطانيا المعروفة بتسامحها مع المقيمين في أراضيها من العرب والمسلمين فقد انساقت في السبيل ذاته، سبيل التصدّي بالإساءة لخصوصيات ثقافية ورمزية بصورة فجّة وغير مسبوقة. كانت البداية مع مشاركة حكومتها في تأييد عنيد للولايات المتحّدة في الحرب على أفغانستان والعراق ثم انساقت الحكومة الآن ومعها قسم من الإعلام في إمكان مراجعة نظام حريّة الطوائف في خصوصياتها الثقافية والاجتماعية. ألمانيا والدنمارك وهولندا وبلجيكا بل إيطاليا وإسبانيا انضمّت جميعها بدرجات متفاوتة إلى سياسة حمائية متيحة المجال لخطاب تحريضي قائم على الإثارة والتخويف. لكن كل هذا لا يعدو أن يكون الوجه"الكريه"لأوروبا الذي لا ينبغي أن ينسينا وجهها الآخر ذاك الذي حرّك سواكن الطهطاوي وعبده وخير الدين. إنه الوجه ذاته المتألّق اليوم في نظر نخب العرب والمسلمين فضلاً عن عامّتهم. هي أوروبا الشابّة - على رغم دعوى الصلف بأنها غدت عجوزاً خرفة، بفضل خصال أربع : 1- سيادة القانون، 2- حقّ التنظّم والتعبير، 3- حقّ اكتساب المعرفة، 4- حرية التفكير والاعتقاد والإبداع. من هذه الزاوية ليس من المبالغة القول إن معظم العرب والمسلمين اليوم مسكونون بقدر من الأقدار بالغرب الأوروبي في حداثته التي صاغ بها لنفسه موقعاً يتصدّر به التاريخ الإنساني الحديث والمعاصر. أمّا نحن فنظراً الى ما نتخبط فيه من عجز نكاد نردّد في قراراتنا صوب أوروبا:"يا ليتني كنت معهم فأفوز فوزاً عظيماً". إنّ إحباطنا يتزايد عندما نقف على الحراك المجتمعي وهو يواجه بمؤسساته المدنية والشبابية العولمةَ المكتسحة بل إن تقديرنا يتضاعف عندما نرى معارضة صريحة يعلنها مسؤولون وقادة أوروبيون لسياسة الهيمنة الأميركية وغزوها العالمين العربي والإسلامي. تلك بعض قسمات الوجه الذي نصبو إليه في الغرب الأوروبي. السؤال الذي يفرض نفسه حين نريد تجاوز الوقوع في معاطب التشهير السهل أو الانبهار المشبوه هو: ما هي طبيعة العلاقة التي يمكن أن تستقرّ بين الفضاءين الأوروبي من جهة والعربي الإسلامي من جهة أخرى إن أدركنا أنهما مهدّدان بالتخلّي نهائياً عن مركزهم التاريخي في العالم لمصلحة غيرهم؟ إنّ الإقرار بوجود زاويتي نظر إلى المواقف الأوروبية وسياساتها إزاء العالمين العربي والإسلامي يهدف إلى إبراز ثلاثة معطيات حيوية نحتاج إلى تمثلّها في مواجهة فكر إطلاقي تبسيطي يضع، ببلادة أو خبث، الشرقَ في مواجهة الغرب و المسلمين في تناقض جوهري ّ مع الأوروبيين. 1- ليست أوروبا كتلة صماء بل هي مجال حيّ تعتمل فيه حركية ذاتية بصدد التشكّل للمساهمة في صوغ مستقبل التاريخ العالمي. 2- ما يعدّ عائقاً رئيساً في حركية أوروبا الفكرية والثقافية هي اعتبارها نفسها عينَ الإنساني بإطلاقٍ فهي لا ترى في الآخر المجاور والمختلف إنسانيته و قدرته على الإضافة والإثراء. 3- تختزل ظاهرة"الإسلاموفوبيا الأوروبية"في عدائها العلني للمسلمين اختزالاً مشوّها للإسلام لكنها في العمق تخفي معضلتين معاصرتين: أيّ هويّة لأوروبا وأيّ توجّه اجتماعي - اقتصادي لها؟ ما نريد أن نقدّمه جواباً عن السؤال الاستراتيجي السابق المنطلق من التكامل التاريخي والمستقبلي بين المسلمين والأوروبيين هو أنّ التصدّي الأوروبي للمسلمين مرتبط برفض أوروبا مراجعة فكرها المركزيّ المغلق، إنه تعبير مخاتل عن أوروبا التي تضيق ذرعاً بنفسها لأنها تأبى أن تقوم بمراجعات جذرية. ما لقيه مثلاً"سلمان رشدي"من دعم مشطّ وغير محدود من أوروبا الرسمية وغير الرسمية يضيء إعاقةَ المركزية الأوروبية في نظرتها إلى نفسها وإلى الآخر. بذلك الدفاع عبّرت الذات الأوروبية عن رؤيتها للعالَم الإسلامي وكيفية إصلاحه، فهي ترى في صاحب"الآيات الشيطانية"أحد العظام المخلِّصين للإسلام والمسلمين لأنها لا تشاهده إلاّ من منظورها الثقافي الخاص. ما توالى بعد ذلك من أمثلة وما تنوّع من حالات كان كلّه يؤكّد على أنّ المركزية الأوروبية لا ترى خلاصاً ممكناً للعالم العربي الإسلامي إلا عبر المقاربات المحاذية لتجربتها المعلمنة والقائلة بأفول الدين وبأن التحديث يفضي ضرورة إلى إقصاء الدين عن الحياة العامة. الأدهى أن ظاهرة التمركز الثقافي ليست أقلّ حضوراً وفاعلية في فضاء العالمين العربي والإسلامي. هناك يقع الانسياق إلى اعتبار الهويّة الدينية حصن الخلاص وأن معناها قارّ ونهائي ومتعال عن التاريخ وأنها هي المرجعيّة الفاعلة والزاوية الوحيدة للنظر والحكم. لذلك فمن النادر أن يقال إنّ معتقداتنا الدينية تصلح أن تكون سبيلاً للوفاق كما يمكن أن تكون أداة للفرقة، وأن لمشاغل الواقع ودرجة الوعي أكبر الأثر في صوغ ثقافة دينية خاصة، كثيراً ما يقع الخلط بينها وبين الدين ذاته. لذلك يقع ادّعاءُ المطلَقِ متحققاً في الذات المسلمة المتمركزة والضائقة ذرعاً بواقعها ومتطلباته الموضوعية. هكذا يبدو مشهد العلاقات بين أوروبا والمسلمين، مشهدٌ واعد على رغم عقبات كأداء، إنّه واعد على رأي أوروبي من أصدقاء العرب قال: ليس التفاؤل ثقةً في السعادة إنما هو الثقة في المشاكل. * كاتب وجامعيّ من تونس