شهد العراق في الآونة الأخيرة تطوراً مفصلياً في سياق الاحداث التي يشهدها منذ احتلاله من قبل القوات الأميركية وحلفائها الغربيين. وتمثل هذا التطور في اقدام رئيس إقليم كردستان مسعود بارزني على رفع العلم الكردي فوق كل المؤسسات الرسمية في الاقليم بدلاً من العلم العراقي ما اعتبر بمثابة خطوة تكرس الانفصال عن الدولة المركزية وتفتح الطريق باتجاه استكمال الإعلان عن ولادة الدولة الكردية في شمال العراق بعد أن اكتملت جميع الخطوات على هذه الصعيد من بناء مؤسسات هذه الدولة من مجلس نواب وحكومة وجيش. غير أن هذا القرار الذي ينظر إليه البعض على أنه حق من حقوق الشعب الكردي يشكل في توقيته وطريقة الوصول إليه والوضع الذي يسود العراق حالياً حدثاً خطيراً في أبعاده بما يتجاوز الحقوق المشروعة للأكراد ويسيء إليها ما يجعل تحقيقها يمر بحقول من الألغام. وفي هذا السياق يطرح العديد من الأسئلة: في أي سياق يندرج الإعلان الكردي وأين تكمن خطورته؟ وهل بالامكان وصول الشعب الكردي إلى مطالبه المحقة والعادلة من خلال التعاون مع الاحتلال الأميركي والتصادم مع شعوب ودول المنطقة؟ وبالتالي ما هو المدخل الفعلي والطبيعي لتحقيق هذه المطالب المزمنة؟ أولاً: ان القرار الكردي يندرج في سياق خطة بدأت منذ سنوات وتستهدف الى تعزيز خط الاستقلال وصولا إلى الانفصال وإقامة دولة كردية في شمال العراق، لكن من ضمن المشروع الأميركي الهادف إلى جعل هذه الدولة مرتكزاً وقاعدة للقوات الأميركية يتوفر فيها الأمن لها والحماية من جهة، وتحويل الأكراد إلى ادوات في خدمة هذا المشروع عبر استخدامهم في اتجاهات عدة: لتعزيز وتشجيع خط التقسيم في العراق ودفع قوى عراقية اخرى تؤيد وتدعم مشروع الفيديرالية إلى المجاهرة بذلك واقتسام ثروات العراق، وبالتالي القضاء على إمكانية قيام دولة مركزية قوية، وخلق الأساس لاستمرار حالة التخاصم والتحارب بين فئات الشعب العراقي بما يؤدي إلى الهاء العراقيين في صراعات في ما بينهم تبعدهم عن مقاتلة الاحتلال، ما يشكل المناخ المواتي لادامة الاستعمار الأميركي للعراق. والاتجاه الثاني هو للعمل على تنظيم أعمال التخريب في كل من سورية والعراق والسعي إلى احداث قلاقل فيهما للضغط عليهما لتغيير سياساتهما والتسليم بالمطالب والاشتراطات الأميركية، وبالتالي عدم الوقوف عقبة أمام مشروع السيطرة الأميركية على المنطقة. وفي حال رفضهما ذلك، زيادة وتيرة التخريب وتغذية قوى موالية لواشنطن بغية محاولة تنظيم اضطرابات داخلية تمهد لتدخل دولي لاحداث تغيير سياسي يأتي بحكام مؤيدين للسياسة الأميركية. والاتجاه الثالث لاستخدام الدولة الكردية منطلقاً ليس لتقسيم العراق فقط بل وايضا لتقسيم دول المنطقة عبر اثارة النعرات والفتن وتنمية روح الانفصال والاستقلالية لدى العديد من الفئات الطائفية والمذهبية في اطار المخطط الأميركي لاعادة تشكيل المنطقة والتحكم بمقدراتها. ثانياً: ان الخطورة تكمن إذاً في أن الإدارة الأميركية تريد استغلال المطالب المحقة للشعب الكردي لكن في اطار استراتيجيتها لتقسيم وتفتيت المنطقة وبالتالي لا يهمها أن يصل الشعب الكردي إلى حقوقه العادلة بقدر ما تحاول جعل الدولة الكردية مرتكزاً لتنفيذ المخطط الأميركي الذي يواجه مأزقاً كبيراً بعد فشله في القضاء على المقاومة. ثالثاً: من هنا يأتي مصدر الخطيئة الكبرى التي ترتكبها الأحزاب الكردية التي تقف وراء هذه الخطوة بحماس كبير، فهي تكرر بذلك الاخطاء القاتلة التي ارتكبتها في الماضي وكانت نتيجتها ان دفع الشعب الكردي الثمن الكبير بفعل مراهناته الخاسرة على القوى والدول الاستعمارية، كما حصل سنة 1975 عندما تمت المراهنة على دعم شاه إيران والولايات المتحدة الأميركية ثم انقلبوا عليها واتفقوا مع صدام حسين في حينه، فاليوم عندما تقدم على هذه الخطوة الاستقلالية وترى ان الفرصة متاحة امامها لاعلان إقامة الدولة الكردية، في ظل حالة الانقسام القائمة في العراق وبالاستناد إلى دعم الاحتلال الأميركي، إنما تؤسس بذلك لصراعات لن تنطفئ لزمن طويل وستكون نتيجتها في غير صالح الشعب الكردي الذي لا يمكنه أن يعيش في محيط معاد له لكون الخطوة الاستقلالية تمت عن طريق المستعمر وليس في أجواء من الوئام والتوافق مع دول وشعوب المنطقة. صحيح أن الشعب الكردي له حقوق تاريخية لا يمكن انكارها، لكن الصحيح ايضا أن تحقيق هذه الحقوق أو استعادتها لا يتم عن طريق التعاون مع المستعمر والمحتل الأجنبي، المسبب الرئيسي لكل مآسي ومعاناة الشعب الكردي وشعوب المنطقة، لأن الاستقواء بالمستعمر سيؤدي إلى إثارة عداء دول وشعوب المنطقة كلها، وليس فقط الشعب العراقي، للاسباب التي ذكرت بداية، ما يعني أن أي دولة كردية تنشأ الآن في ظل هذا الواقع لن تكون لها قابلية الاستمرار والديمومة لانها استندت إلى دعم المحتل الطارئ على المنطقة والذي لن يستطيع البقاء إلى ما لا نهاية فيها. رابعاً: ان المدخل الصحيح والطبيعي لوصول الشعب الكردي إلى حقوقه يجب الا يكون من خلال الاعتماد على المستعمر، الذي كان السبب في معاناته واضطهاده التاريخي، إنما عبر النضال إلى جانب شعوب المنطقة ودولها ضد المحتل الأميركي من اجل التحرر منه ومن كل مخلفاته، بما يؤدي إلى تحرير العراق واحباط المشروع الأميركي لفرض السيطرة والهيمنة على المنطقة وشعوبها. وهذا المدخل هو السبيل الوحيد لتمكين الشعب الكردي من تعزيزعلاقاته مع دول وشعوب المنطقة التي يعيش في وسطها وبالتالي خلق البيئة المواتية لنيل حقوقه في اطار من الوئام والوفاق الدائم في ما بينها، ولهذا على القيادات الكردية الاتعاظ من الماضي والتنبه للمستقبل قبل فوات الأوان، وعدم السير في اغراء المحتل من اجل اقامة دولة كردية في ظروف تخدم الإدارة الاميركية أكثر مما تصب في صالح الشعب الكردي وقضيته العادلة * كاتب فلسطيني