تحتفي الأوساط الثقافية العربية وغير العربية طوال العام 2006 بمرور ستمئة عام على وفاة ابن خلدون 808 ه/ 1406م صاحب"كتاب العِبَر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ومَنْ عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر". وقد أراد المفكّر العلاّمة المعروف إبراهيم شبّوح، أن يشارك في هذا الاحتفاء والاحتفال بأسلوبٍ أكثر جدوى وأبقى، فأتحف محبي ابن خلدون ومقدّريه بنشرةٍ علميةٍ جديدةٍ لعبَر ابن خلدون، صدر جزؤها الأول في طبعة فاخرة تتضمن أكثر المقدمة*، وهو عازم على إصدار بقية الأجزاء قسّم ابن خلدون تاريخه في ثلاثة كتب خلال سنتين أو ثلاث. وقد عرف الدارسون المقدمة من قبل في ثلاث نشرات: نشرة كاترير، ونشرة بولاق، ونشرة علي عبدالواحد وافي. وهي النشرات التي استُنسخت وشُوّهت في عشرات الطبعات الأخرى خلال أكثر من قرن. والذي أراه ولستُ من المختصين بالمتن الخلدوني أنها المرة الأولى التي تتضح فيها العلائق بين المخطوطات الخلدونية، في عهدي ابن خلدون بتونس والقاهرة. كما انها المرة الأولى التي يُقرأ فيها النص الخلدوني قراءةً علميةً دقيقةً ينتفي فيها أو في معظمها الالتباس والخَطَلُ والتوهم والغموض، الذي طالما شكا الدارسون الكبار للرجل ونصه منه، ووقفوا أمامه حائرين. وكنتُ قد عرفت من أستاذنا الكبير الراحل الدكتور إحسان عباس، عام 1985 أن الأستاذ شبّوح منشغل بجمع مخطوطات ابن خلدون منذ عقود، وانه يملك رؤية مختلفة لنشوء التاريخ الخلدوني ومقدمته. وفي مطلع التسعينات من القرن الماضي شهدتُ الأستاذين عباس وشبوح بالأردن منكبَّين على قراءة المقدمة الخلدونية كلمةً كلمةً على كل المخطوطات التي توافرت لشبّوح، ثم ما جرت متابعة المشروع المشترك، بسبب مرض الأستاذ عباس ووفاته رحمه الله. وها هو إبراهيم شبوح يذكر اسم إحسان عباس مع اسمه على النص المحقق: قرأه وعارضه بأصول المؤلف، وأعد معاجمه وفهارسه إبراهيم شبوح وإحسان عباس، وفاءً واعترافاً بالجهد المبذول وبالميراث الكبير الذي تركه عباس في مجال تحقيق التراث العربي. يمهد شبوح لنشرته لكتاب العِبَر بذكر قصة تكوُّن نص العِبَر بين تونس ومصر، فقد كتب ابن خلدون النسخة الأولى المكتملة من الكتاب الذي سماه"ترجمان العِبَر"بين عامي 776 و782 ه. بين قلعة ابن سلامة ومدينة تونس. واعتمد في تركيب الكتاب أو قصد منه وقد أهداه لأبي العباس أحمد بن محمد الحفصي تتبُّعَ أخبار الجيلين اللذين عمرا المغرب حتى عصره وهما العرب والبربر. وعندما ترحل الى مصر عام 784ه واستقر فيها أضاف الى التاريخ ما نقصه"من أخبار ملوك العجم والترك وممالكهم، ومن عاصرهم من الأجيال من أمم النواحي". وقضى السنوات بين 799 و806 ه في الإضافة والمراجعة الشاملة والتهذيب. في العام 797 ه تكونت لدى ابن خلدون النسخة المصرية الأولى التي أهداها للملك الظاهر برقوق، وقد غيّر فيها الاسم او العنوان الى"كتاب الظاهري في العِبَر". والذي يظهر من النشرات الكثيرة للمقدمة أن الأصل التونسي صار نادراً أو ان الناس انصرفوا عنه أو عن انتساخه اطمئناناً الى الأصل المكتمل وإضافاته في العهد المصري. لكن بسبب انتشار المخطوطات والأجزاء المتناثرة بين مصر وتونسواسطنبول والمكتبات الأوروبية، فإن العلائق بين النسخ وتلك المستنسخة اضطربت، حتى لم يستطع دارسون كبار مثل الطنجي وروزنتال وعبدالرحمن بدوي الوصول الى رأي موثق في المتقدم والمتأخر منها، والعلاقات في ما بينها. وبسبب طول عهد الأستاذ شبوح بالعمل على النص الخلدوني المخطوط، ارتأى الاعتماد على خمس نسخ اعتبرها الأصول من العهد المصري، وهي جميعاً من خزائن اسطنبول، وأَولاها بالاعتبار من وجهة نظره مسوَّدة المؤلف الموجودة بمكتبة عاطف أفندي، تليها مخطوطة مكتبة أحمد الثالث، فمخطوط الظاهري النسخة المهداة للظاهر برقوق، ولم يستطع ابن خلدون إيصالها اليه في حياته، فحالت أفندي ويني جامع. وقد وصف المحقق هذه المخطوطات الخمس بالتفصيل، وذكر التملكات على كل منها، واكتشف في مواطن عدة خط ابن خلدون نفسه المتراوح بين المشرق والمغرب، والخط المشرقي لابن الفخار تلميذ ابن خلدون والمعتمد لديه في الانتساخ. وللأستاذ شبوح رأي خاص في معنى العِبَر، ومعنى تسمية ابن خلدون لتاريخه بذلك، يشبه في جدته، ترتيبه الآخر المختلف للأصول المخطوطة. فقد لاحظ أن ابن خلدون يذكر مفردات كثيرة كلها بمعنى الاعتبار مثل المقارنة والموازنة والتقدير والالتماس والاتخاذ والاعتماد والمقايسة والبحث والنظر والفهم والتمثل والسبر والإدراك. واستناداً الى ذلك لا يرى المحقق أن المقصود بالاعتبار الاتعاظ، كما توهم تلميذه المقريزي عندما قلده وسمى كتابه المشهور:"المواعظ والاعتبار". فالمحقق يرى ان ابن خلدون متأثر في هذا العنوان بشيخه محمد بن ابراهيم الآبلي الذي كان يستعمل الاعتبار بالمعنى الذي استعمله به فخر الدين الرازي في كتابه"محصّل أفكار المتقدمين والمتأخرين"، والذي اختصره ابن خلدون في"لُباب المحصل". فالاعتبار عند الرازي مأخوذ من العبور والمجاوزة من شيء الى شيء، أي الوصول الى قانون أو قاعدة نتيجة الاستقراء، فقد قال المفسرون بحسب الرازي في تفسيره للقرآن إن"الاعتبار هو النظر في حقائق الأشياء وجهات دلالتها، ليُعرف بالنظر فيها شيءٌ آخرُ من جنسها". بيد ان هذا الاهتمام المنقطع النظير بالقياس والتقعيد في أمور العمران البشري وهو العلم أو الفن الذي يرى ابن خلدون انه هو الذي توصل اليه دونما سوابق كثيرة سرعان ما يضطرب فيه النظر لدى الأستاذ شبوح عندما يرى ان هذا العبقري العقلاني يعقد في مقدمته فصولاً متطاولة لعلوم السحر والطلسمات وأسرار الحروف والسيمياء... الخ، إذ ان ذلك ودائماً بحسب شبوح ينتقل بالقارئ من المعقول الى اللامعقول! وقد وعد الأستاذ المحقق أن يضع في نهاية نشرته للمقدمة والتاريخ كأنما ليتعقل شواذ ابن خلدون الظاهرة هذه - معجماً لغوياً واصطلاحياً مستوفياً. إن الذي يعرفه القارئون لمقدمة صاحب العِبَر منذ أكثر من مئة عام، أن نص المقدمة من أعسر نصوص العربية فهماً وتفهماً واستبطاناً، ولا علاقة لذلك بعُسْر لسان الفقهاء الذي كان أبو زيد منهم. ولذلك ليس من السهل الوصول الى أنه يتخطَّى المعقول الى اللامعقول. فقد يكون الأمر لا يتعدى خضوع صاحب المقدمة لمسائل تقسيم العلوم كما عرفها المسلمون، وكتبوا فيها الرسائل الكثيرة. ولست أزعم هنا أن في هذا التفسير للفصول اللامعقولة حلاً للإشكال، إنما ما أبتغي الذهاب اليه اننا وعلى الرغم من الدراسات الهائلة عن المقدمة والتاريخ، لا نزال بحاجة الى قراءة للمقدمة تعنى بثلاثة أمور: المصادر، والتركيب، والأهداف. ولست أعني بالمصادر الكتب والرسائل التي استعملها فقط، والتي يذكر بعضها ولا يذكر البعض الآخر جمعتُ من المقدمة أسماء واحد وعشرين كتاباً ورسالة، وستة وخمسين اقتباساً من كتب ورسائل لا تُذكر بالاسم أو العنوان، بل ما قصدته المصادر الفكرية والمصطلحية. فإبراهيم شبوح اهتدى مثلاً الى المصدر الفكري والمصطلحي لمفرد العِبَر المأخوذ من علم الأصولين أصول الفقه وأصول الدين عند الرازي والمتكلمين الأشاعرة، وهو يتصل بقياس الغائب على الشاهد المشهور في علم الكلام لديهم. وقد تنبّهت في دراستي المقارنة في كتابي: الجماعة والمجتمع والدولة لمصطلحي المدينة والدولة لدى الماوردي - 450 ه وابن خلدون، الى أن"أطوار الدولة"لديهما مأخوذة من الدثائر اليونانية التي عرفها المسلمون في عصر الترجمات في القرنين التاسع والعاشر للميلاد مسكويه والمبشر بن فاتك. ولذلك، فقد يكون في هذين الأمرين: أمر المصادر، وأمر تقسيم العلوم ومراتبها، مفتاح لفهم بعض الغوامض في المقدمة بل وفي التاريخ. فالمصطلح الخلدوني شامل وواحد في سائر أجزاء عمله، حتى في مختصراته لرسائل وكتب فترة الشباب. لكن الأكثر أهميةً من وجهة نظري المسألة الأخرى: مسألة التركيب. فابن خلدون لا يخفي رجوعه إلى هذه الفكرة أو تلك، أو هذه العبارة أو تلك من الموروث الهيلليني والاسلامي. إنما لا يعتبر ذلك أمراً مهماً، بل المهم لديه التركيب أو التأليف. ذلك ان المعاني - كما ذكر الجاحظ والعسكري - مطروحة في الطريق، وإنما العبرة بالتراكيب المباني والأساليب. فكل السابقين تأملوا وحوّموا، ومن هؤلاء عند ابن خلدون، أرسطو وابن المقفع والفارابي والطرطوشي وسائر الكاتبين في الشأن المدني والعمراني والسياسي، أما هو فقد اكتشف التركيبة المؤلِّفة لتلك العناصر الفكرية والمصطلحية، والتي جعلت منها ومن خلال عمل دؤوب ومتنام ومستمر على مدى عشرين عاماً عملاقاً مشرئباً، هو علم العمران البشري وبنيته وأحواله وعوارضه، والذي انفرد أبو زيد بصناعته المؤتلفة. والتركيب هذا يمكن تأمله من جهات أخرى. إذ ان ذلك النموذج المبتكر هو علم جديد في نظر ابن خلدون، ولذلك فإن التركيب ليس شديد الاستقامة والاتقان، كما في كل جديد كبير وشاهق، بل إنه ليس من المنتظر أن يكون غير ذلك. ولهذا لا ينبغي الإسراف أيضاً في البحث عن السر في هذا الشذوذ الظاهر أو ذاك، لأنه قد يكون خللاً فعلياً، بسبب جدته بالذات. فقد رأى بعض الباحثين ومنهم الأستاذ شبوح- أن أبا زيد كتب المقدمة بعد التاريخ. ولست أقصد من وراء ذكر ذلك ما ذكره دارسون كثيرون أن ابن خلدون ما طبّق ما ورد من"قواعد"في المقدمة في تاريخه، بل ما أراه ان المقدمة كتبت في هيكلها العظمي لتوضح منهج ابن خلدون في قراءة"تاريخ الجيلين"اللذين ذكرهما. وهذا واضح في الفصول الأولى منها عن"فن التاريخ"، وعن"فضل ذلك العلم، وتحقيق مذاهبه، والإلماع بمغالط المؤرخين". وبذلك فقد كانت تمهيداً منهجياً مباشراً يوضح ما يقصده ابن خلدون من فهم لتاريخ الجيلين. لكنه أضاف بعد ذلك فيما يبدو الفصول في العمران، والتي ليست لها علاقةٌ مباشرة بالتاريخ بل بمورفولوجيا العمران، إضافةً الى فصول العلوم، وربما تلك الخاصة بالعصبية والدين، وبالخلافة والأحكام السلطانية والمؤسسات التاريخية للدولة الإسلامية، ثم أقسام العلوم. ولا شك في أن البنية اختلت نتيجة ذلك، وصار فهم سياقاتها عسراً. على أن هذا التخمين لا يثبت إن لم نعرف بالتحديد، كيف كانت المقدمة في صيغتها الأولى بتونس. وهذا الإشكال يسري أيضاً على الأهداف أو المقاصد والغايات. يذكر ابن خلدون تعريفاً للتاريخ هو انه"خبرٌ عن الاجتماع الإنساني الذي هو عمران العالم، وما يعرض لطبيعة ذلك العمران من الأحوال... وما ينتحله البشر بأعمالهم ومساعيهم من الكسب والمعاش والعلوم والصنائع، وسائر ما يحدث في ذلك العمران بطبيعته من الأحوال". وقد طبّق ذلك في المقدمة، أي انه درس عوارض العمران، لكن ذلك ليس داخلاً في"تاريخ الجيلين". وما خالف الرجل قواعده في التاريخ، لكنه في الاضافات على المقدمة، والتي كُتبت بعد التاريخ، صار همه ان يضع علم العمران، وليس التمهيد القصير لموضوع الكتابة التاريخية وعوارضها. ما قصدت في هذه السطور تقديم دراسة في معنى مقدمة ابن خلدون، بل الإعلان عن بدء ظهور هذه النشرة الرائعة للنص الخلدوني، وهي النشرة التي قال عنها المحقق بتواضع:"إن غاية ما صنعته أني قدمت بأمانةٍ وللمرة الأولى نصاً واضحاً مصححاً بقلم ابن خلدون وعلى أصوله نفسها...". وليس ذلك بالأمر الهيّن أو القليل أبداً. * أعاد الأستاذ إبراهيم شبوح أيضاً نشر السيرة الذاتية لابن خلدون بعنوان:"التعريف بابن خلدون ورحلته شرقاً وغرباً"والتي كان العلاّمة محمد بن تاويت الطنجي قد حققها وأصدرها عام 1951، وهي في الأصول المخطوطة ملحقة بآخر الكتاب الثالث من التاريخ.