إن العراق بلد نام نفطي يتميز باعتماده الكبير على القطاع الأولي النفطي في تكوين ناتجه المحلي الإجمالي، حيث كانت مساهمة القطاع النفطي في عام 1980 حوالي61.1 في المئة، في حين كانت مساهمة القطاع الزراعي 4.7 في المئة والقطاع الصناعي 4.5 في المئة، والقطاع الخدمي 10.2. وبعد مرور 8 سنوات على الحرب العراقية الإيرانية أي في عام 1988، انخفضت مساهمة القطاع النفطي إلى 31.1 في المئة، بينما ارتفعت مساهمة القطاع الزراعي إلى 14.6 في المئة، ومساهمة القطاع الصناعي إلى 13.5 في المئة، بينما انخفضت مساهمة القطاع الخدمي إلى 4.8 في المئة. وبعد فرض الحصار الاقتصادي على العراق عام1991، انخفضت مساهمة القطاع النفطي بدرجة كبيرة حيث وصلت إلى 0.06 في المئة، بينما ارتفعت مساهمة القطاع الزراعي إلى 32.3 في المئة. في عام 2002 قبل الاحتلال بلغت مساهمة القطاع النفطي ما يقارب 5 في المئة بعد مذكرة التفاهم بين الحكومة العراقيةوالأممالمتحدة النفط مقابل الغذاء والدواء، وكانت مساهمة القطاع الزراعي والصناعي على التوالي 27 و8.1 في المئة وارتفعت مساهمة القطاع الخدمي إلى 18 في المئة. وبعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على الاحتلال، أي هذا العام 2006، فإن مساهمة القطاعين الزراعي والصناعي بلغت 6.5 و1.5 في المئة وهي نسبة منخفضة جداً، في حين كانت مساهمة القطاع النفطي أكثر من 70 في المئة في الناتج المحلي الإجمالي. إن التغير في مساهمات هذه القطاعات لا يعكس التغير البنيوي في الاقتصاد العراقي، وإنما يعكس الظروف السياسية والاقتصادية التي مر بها هذا الاقتصاد. لقد أدى الحصار الاقتصادي الذي فرضته الأممالمتحدة على العراق بعد احتلاله للكويت عام 1990 إلى توقف تصدير النفط وتراجع الإنتاج الصناعي والزراعي وتدهور أداء القطاعات الإنتاجية والخدمية الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تدهور الناتج المحلي الإجمالي. ونتيجة لقرار الأممالمتحدة عام 1996، تم التوقيع على مذكرة"النفط مقابل الغذاء"التي سمح للعراق بموجبها بتصدير جزئي من النفط الخام حيث ارتفع الناتج المحلي الإجمالي عام 2002 إلى 24.5 بليون دولار أي بنسبة 59.2 في المئة، وبعد الاحتلال الأميركي للعراق تدهور الناتج المحلي الإجمالي بشكل كبير حيث وصل عام 2005 إلى 8.1 بليون دولار نتيجة تدمير البنية الأساسية للاقتصاد العراقي وتفكيك مؤسسات الدولة وخاصة الجيش والمؤسسات الأمنية والتي ادى حلها الى فراغ أمني مريع وفوضى عارمة. أما متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي فبلغ 4219 دولاراً عام 1979 وهو أعلى معدل يصله هذا المتغير في تاريخ العراق ويعتبر من المعدلات العالية نسبيا في الدول النامية، ثم تراجع بشكل كبير إلى 485 دولاراً عام 1993، فيما بلغ 700 دولار في السنة عام 2005. إن التطور الحاصل في القدرات المالية للعراق بعد رفع الحصار الاقتصادي عنه عام 2003 مع احتمالات زيادتها مستقبلاً مع زيادة أسعار النفط وزيادة الإنتاج والتصدير، جعل الجهات المانحة تتردد في المضي قدماً في تنفيذ تعهداتها او الالتزام بتعهدات جديدة، ونتيجة لذلك لا يمكن أن يعول العراق على المعونات الخارجية في دفع عملية التنمية والإعمار. من ناحية أخرى لا يمكن تحقيق الإعمار والتنمية بمعزل عن توفير الاستقرار والأمن الداخلي، لاسيما أن اتساع عمليات تخريب المنشآت الاقتصادية شل الكثير من المرافق الحيوية في قطاعات النفط والكهرباء والخدمات الأخرى، وتسبب في إلحاق أضرار جسيمة بالاقتصاد، فضلاً عن الكلفة البشرية الناجمة عن ذلك. ومن المهم جداً تطوير قطاع النفط كما يتعين التفكير جديا بمراجعة الرؤية الاقتصادية السابقة وتحديثها بما يكفل الاعتماد على مواردنا الذاتية، وينبغي وقف الاندفاع نحو الاعتماد على الخارج والاستيراد لتلبية الحاجات المحلية، والحذر من الاعتماد على العائدات المالية وإهمال القطاعات الإنتاجية. لقد أصبح العراق اليوم، بحسب الدراسات التي صدرت عن المراكز الدولية المهمة، في نهاية قائمة الدول من حيث مستوى الحياة والتعليم والصحة بما في ذلك البلدان الأقل نمواً، حيث حجم البطالة يقترب من 30 في المئة من قوة العمل، إذ أن هناك مليوني عاطل من أصل سبعة ملايين هو حجم القوى العاملة في العراق، وإذا أضفنا البطالة المقنعة وهو 20 في المئة فيصبح مجموع النسبة 50 في المئة. إن ترتيب المتغيرات المتعلقة بمعدلات انتاج مختلف القطاعات لم يتغير خلال أكثر من خمس وثلاثين سنة، حيث لم يلعب التقدم التكنولوجي أو التصدير أو التصنيع أي دور في زيادة وتنوع الإنتاج المحلي، وفي عام 2004 تراجع الطلب الاستثماري أيضاً حيث بلغت نسبة الاستثمار الإجمالي إلى الناتج المحلي الإجمالي 7.7 في المئة. ومن أجل النهوض بواقع الاقتصاد العراقي وتنمية قدراته، تشكل تنمية القدرات الإنتاجية في القطاعات الزراعية والصناعية والخدمية وغيرها، العامل الأساسي لتحقيق النمو الاقتصادي، اذ بمقدوره تعبئة الموارد المحلية من أجل تمويل النشاط الاقتصادي وعدم الاعتماد على المعونات أو المساعدات الخارجية، والعمل على جذب الاستثمارات الأجنبية التي يمكن أن تدعم عملية التنمية. ومن خلال تنمية القدرات الإنتاجية، سوف يكون بمقدور العراق أن ينافس في الأسواق الدولية. إن تنمية القدرات الإنتاجية تتم من خلال ثلاث عمليات مترابطة ومتواصلة وهي تراكم رأس المال والتقدم التكنولوجي والتغير البنيوي. وتتمثل عملية تراكم رأس المال في الاحتفاظ بأرصدة من رأس المال الطبيعي والبشري والمادي وزيادتها. اما تحقيق التقدم التكنولوجي فيتمثل في استحداث سلع وخدمات جديدة واستخدام طرائق ومعدات أو مهارات جديدة أو محسنة من أجل إنتاج السلع والخدمات، واعتماد أشكال جديدة ومحسنة لتنظيم الإنتاج. والتغير الهيكلي يتمثل في التغير في تكوين الإنتاج ضمن القطاعات. وهذا التغير كثيرا ما يحدث من خلال الاستثمار والابتكار والتقدم التكنولوجي، ففي الاقتصاد العراقي تعتبر مساهمة القطاع النفطي هي الأكبر في الناتج المحلي الإجمالي، بينما مساهمة القطاعين الزراعي والصناعي منخفضة نسبياً عند مقارنتها بهذا القطاع، والتغير الهيكلي للاقتصاد العراقي يعني ارتفاع مساهمة القطاعات السلعية الزراعة والصناعة في الناتج المحلي الإجمالي وبالمقابل انخفاض مساهمة القطاع النفطي لصالح هذه القطاعات. كما يمثل الاندماج أو الانفتاح التجاري المدروس أحد أهم الاتجاهات غير المباشرة في تنمية القدرات الإنتاجية، إذ أن السلع والخدمات التي يمكن للعراق تصديرها على نحو تنافسي إلى الأسواق العالمية تتحدد بمقدار السلع والخدمات التي يستطيع إنتاجها ومدى كفاءة هذا الإنتاج. ومن الجدير بالإشارة أن هيكل الإنتاج يوجه نحو استغلال الموارد الطبيعية وبشكل خاص النفط، وعليه فإن هيكل الصادرات بالنتيجة موجه أيضا بهذه الطريقة. ان التحويل بعيداً عن السلع الأولية ونحو السلع المصنعة يحدث على نحو بطيء ومتقطع وأحياناً متوقف، فهو يتركز على إنتاج المنتجات المتدنية المهارات في أغلبها، والقائمة على الاستخدام الكثيف لليد العاملة، كما أن إنتاج المنتجات التصديرية ضعيف جداً في نظم الإنتاج المحلية، وحتى عندما توجد هذه المنتجات فإنها تكون معزولة ولا تربطها أية روابط إنتاج أمامية أو خلفية قوية ببقية الاقتصاد العراقي. إن القيود التي تحد من تنمية القدرات الإنتاجية للقطاعات السلعية والخدمية في العراق تتمثل في حالة البنى التحتية للاقتصاد وضعف المؤسسات والشركات وقيود الطلب، إذ أن البنى التحتية من أدنى وأسوأ نوعية في مجالات النقل والاتصالات والطاقة وبشكل خاص الكهرباء، على مستوى العالم. إن هذا المستوى المتدني للبنى التحتية هو انعكاس لسوء أحوال صيانة المرافق القائمة ولنقص الاستثمار في إنشاء مرافق جديدة، لا سيما بعد تدميرها بشكل كامل أو جزئي أثناء احتلال العراق، وهذا يعكس أيضاً حال الاستثمار العام. وثمة تشديد متزايد على أهمية المؤسسات في تحقيق النمو الاقتصادي وتعزيز القدرات الإنتاجية. والتركيز ينصب في هذا الجانب على قدرات الدولة العراقية حيث أن قدرات الدولة تتسم بأهمية حيوية بالنسبة للتنفيذ الفعال للسياسات العامة. ولا يفوتنا أن نذكر هنا، أن هناك حاجة مماثلة للتركيز على طبيعة القطاع الخاص والمؤسسات التي يتم في إطارها تنظيم المشاريع في هذا القطاع. ومن هذا المنظور، فإن العراق يعاني من ضعف مؤسسي خطير واضح، فلدى النظم المالية المحلية احتياطيات سائلة ضخمة، حيث يتوافر فائض مالي يزيد على 13 بليون دولار كرصيد نقدي لاحتياط البنك المركزي العراقي، ولكن مستوى الائتمانات المقدمة إلى القطاع الخاص وإلى المشاريع ضعيف جداً وغير قادر على تعزيز القدرات الإنتاجية للاقتصاد العراقي. وتتوقف أيضا تنمية القدرات الإنتاجية للقطاعات السلعية والخدمية على مدى قدرة الدولة العراقية على بناء مؤسسات قادرة على إنشاء مشاريع تميل بدرجة عالية نحو الاستثمار والتعلم والابتكار. ومن المؤكد أن للمشاريع الصغيرة والمتوسطة الحجم أهميتها لأنها تستخدم المداخيل المحلية وبالتالي فإنها تمثل الوسيط الذي يربط بين أنشطة القطاع الأولي والأنشطة الصناعية. كما أن المشاريع أو الشركات الكبيرة تعتبر مهيأة على نحو أفضل لتوفير الموارد اللازمة لتحقيق معدلات أعلى من تراكم رأس المال والابتكار ووفورات الحجم وما يقترن بذلك من آثار على التعلم. وتتسم نظم المعرفة بنفس الأهمية التي تتسم بها النظم المالية في تنمية القدرات الإنتاجية، حيث أنها لا تقتصر على خلق المعارف التي يمكن أن تستخدم في الإنتاج مثل مراكز البحوث، بل إنها تنطوي أيضا على إنشاء مؤسسات لإقامة الجسور مع المستخدمين وتعزيز الروابط في ما بينهم. ويحتاج العراق في الوقت الحاضر إلى وضع استراتيجيات وطنية متماسكة ومتقنة التصميم للتعلم التكنولوجي من أجل زيادة إمكانية الحصول على التكنولوجيا وتحسين فعالية التكنولوجيا المستوردة، والاستفادة من إقامة الروابط بالمعارف العالمية. لا يمكن أيضا تطوير القدرات الإنتاجية للقطاعات الاقتصادية المكونة للاقتصاد العراقي من دون التصدي للقيود القائمة من جانب الطلب، على اعتبار أن الطلب مصدر مهم من مصادر النمو الاقتصادي، حيث أن الطلب المحلي القوي في الولاياتالمتحدة الأميركية واليابان والصين والهند، قد أسهم بشكل كبير في نموها الاقتصادي في عام 2005، وعليه فإن ضعف نمو الطلب المحلي يشكل قيداً رئيسياً يحد من القدرات الإنتاجية في العراق، كما أن الطلب المحلي البطيء والمصاحب بالبطالة والفقر يشكل أحد النواقص الرئيسية التي تشوب مناخ الاستثمار في العراق. من هنا يمكن الخلوص الى ما يلي: 1- ثمة مجال للأخذ بالأشكال الجديدة للسياسة الصناعية التي وضعت مؤخراً في الدول المتقدمة والدول النامية المتقدمة والتي تستند إلى نموذج مختلط قائم على السوق، حيث تعمل المشاريع الخاصة والحكومية معاً من أجل خلق نوع من التكامل بين القطاعين العام والخاص. 2- من الأهمية قيام البنك المركزي العراقي بتحويل جزء من احتياطاته النقدية إلى صناديق استثمار سيادية لإدارة الثروة الوطنية بنشاط أكبر وهو اتجاه قد يعزز أصول السوق في العراق على حساب الدولار. 3- العمل في إطار برنامج زمني محدد على استغلال الإيرادات النفطية لأغراض الاستثمار في الأنشطة التي تساهم مباشرة في التنويع الاقتصادي وتطوير الصادرات غير النفطية، وانتهاج سياسة انتقائية في دعم أو تحفيز الأنشطة التنموية وتوجيه الدعم والحوافز للأنشطة التي تساهم مباشرة في تحقيق هدف التنويع الاقتصادي. 4- إن وجود سوق محلية كبيرة في العراق تتكامل فيها المقومات والمعطيات الاقتصادية والبشرية تشكل ركيزة مهمة لنمو الأنشطة الإنتاجية والخدمية القادرة على المنافسة في الأسواق الخارجية. 5- التمسك في الوقت الحاضر وفي ظل الظروف الصعبة التي يمر بها العراق باستراتيجية دعم الأسعار والابتعاد عن استراتيجية دعم الدخول، وفي هذا الخصوص من الضروري الاستمرار في العمل بالبطاقة التموينية الى أن تتحسن ظروف العراق الاقتصادية والسياسية، حيث من الصعب الآن التمييز بشكل دقيق بين من يستحق البطاقة التموينية وبين من لا يستحقها لتعويضه ماليا ودعم دخله، حيث أن الدخول في هذا الموضوع في الوقت الحاضر سوف يضيف مشكلة أخرى إلى مشاكل العراق الكثيرة. * أستاذ الاقتصاد في جامعة بغداد ومدير إدارة العلاقات الاقتصادية في جامعة الدول العربية