من المؤكد أن أحداً في حركة"حماس"لم يتوقع هذا الفوز الكبير الذي تحقق ووصل الى 60 في المئة من مقاعد المجلس التشريعي. حدث ذلك على رغم أن تاريخ الحركة منذ مطلع الثمانينات، يوم كانت تياراً إسلامياً قبل إعلانها نهاية عام 1987، ما زال يشير إلى حصولها على ما يقرب من نصف أصوات الفلسطينيين، كما كان يحدث في الجامعات وفي النقابات والأندية. ما توقعته"حماس"هو حدوث بعض التجاوزات من طرف سلطة تملك سيف المعز وذهبه، ويشكل رجالها وعائلاتهم ما بين عناصر أمن وموظفين وكوادر ما يقرب من ربع الكتلة الناخبة، وجاءت لعبة تصويت رجال الأمن قبل الناس وفي مراكز عملهم لتؤكد نيات التلاعب، الأمر الذي رجح حصول"فتح"مع بعض القوى اليسارية على ما يزيد على نصف المقاعد في مقابل كتلة ل"حماس"تراوح في حدود 40 في المئة. ثمة جملة من المعطيات لا شك أنها ساهمت في حصول"حماس"على قدر من المقاعد أكبر مما توقعته وتوقعه الآخرون، لعل أبرزها الحيادية النسبية للسلطة، وهي حيادية لم تكن لتتوافر لولا القناعة بضمان الفوز، لا سيما بعد توحيد قائمتي"فتح"بزعامة مروان البرغوثي. لكن ما جرى هو أن توحيد القائمتين، وبزعامة رموز عليهم الكثير من الملاحظات، لم يغيب خلافات الحركة وصراعاتها الداخلية، ما أثر في طبيعة المرشحين، فضلاً عن منافسة بعضهم بعضاً في أكثر من دائرة، الأمر الذي أفاد"حماس"التي فازت بنحو 70 في المئة من مقاعد الدوائر على رغم حصولها على 45 في المئة من القائمة النسبية، بفارق خمسة في المئة فقط عن"فتح". لا شك في أن ردة فعل الشارع الفلسطيني على أداء"فتح"السيئ طوال ما يزيد على 12 عاماً من نشوء السلطة ساهم في ما جرى. أما الأهم من ذلك فيتمثل في ردة فعل الشعب على إملاءات الخارج الأميركي والأوروبي والإسرائيلي الرافضة لمشاركة"حماس"أو فوزها، فهنا ثمة شعب يتميز برفض عارم للغطرسة الخارجية بكل أشكالها. انحاز الشعب إلى خيار المقاومة على رغم كل التحذيرات، والغريق لا يخشى البلل كما يقال، خصوصاً بعدما سار زمناً طويلاً خلف خيار التفاوض فلم يجن غير الموت والدمار وتجاهل الحقوق، بل إن عدوه لم يحتمل ياسر عرفات، فقتله كما قتل الشيخ أحمد ياسين وعبد العزيز الرنتيسي. لا شك في أن الأسئلة الأهم بالنسبة للكثيرين هي تلك المتعلقة بالكيفية التي ستتصرف بها"حماس"حيال هذا الفوز الكبير وغير المتوقع، خصوصاً في ظل استحالة تهربها من مسؤولياتها وتجاهلها لهذه الثقة التي أولاها لها الشعب الفلسطيني. على أن إجابة تلك الأسئلة لن تتم بمعزل عن رؤية مواقف الأطراف الأخرى، خصوصاً مواقف السلطة الفلسطينية وحركة"فتح"، إلى جانب المواقف العربية والدولية، فضلاً عن موقف الطرف الإسرائيلي. بالنسبة الى"فتح"يمكن القول إن ما رشح من مواقف لا يزال يشير إلى نيتها ترك"حماس"وحيدة في الميدان، لا سيما التفاوضي منه، وبالطبع ضمن روح من الشماتة وتمني السقوط، ما يعني أن دور"فتح"في المرحلة المقبلة سيركز على دفع"حماس"نحو الفشل بكل الوسائل. ولكن هل يعني ذلك تخلي فتح فعلياً عن السلطة؟ من المستبعد أن يحدث ذلك، إذ أننا إزاء سلطة تتحكم الحركة بكل مفاصلها، فالأجهزة الأمنية هي من"فتح"وكذلك حال المؤسسات الأخرى، واذا قامت"حماس"لاحقاً بفصل ضابط أو حتى مستشار ليس له عمل ستقوم الدنيا عليها ولن تقعد. أزمة"حماس"الحقيقية تكمن في أن السلطة القائمة ليست دولة في واقع الحال، بما في ذلك قطاع غزة الذي لا يشكل سوى واحد ونصف واحد في المئة من مساحة فلسطين التاريخية، بل إننا في واقع الحال إزاء سلطة أنشأها الاحتلال بهدف التخلص من عبء إدارة السكان الفلسطينيين، ومن ثم الحصول على وضع"احتلال ديلوكس"كما وصفه شلومو غازيت، قائد الاستخبارات في الجيش الإسرائيلي سابقاً في مقال له نشر اخيراً في صحيفة"معاريف". كان الوضع المتوقع بالنسبة الى"حماس"هو حصول"فتح"على غالبية ضئيلة تمكنها من تشكيل الحكومة وإدارة المفاوضات، في حين تحصل الحركة الاسلامية على نسبة كبيرة تمكنها من التأثير في القرار الداخلي والمسار السياسي بما يحول دون تغول السلطة وفسادها من جهة، ودون تقديم تنازلات غير مقبولة من جهة أخرى. أما التورط في العملية التفاوضية فلم يكن متوقعاً ولا مأمولاً بسبب المعطيات العربية والدولية المعروفة. الآن يبدو أن على"حماس"أن تفكر في طريقة تتجاوز بها هذا الوضع المعقد"هذا إذا لم يأت الحل من طرف السلطة وحركة"فتح"بقوة دفع دولية وعربية"أكان بصيغة الانقلاب الجزائري، أم بصيغة أكثر ذكاءً تقوم على الاحتجاج بصدام الصلاحيات بين مؤسسة الرئاسة ومؤسسة المجلس التشريعي، الأمر الذي يمنح الرئيس فرصة حل البرلمان والدعوة إلى انتخابات أخرى ترتب على نحو آخر، أو إعلان حالة طوارىء يجري تبريرها بحساسية الوضع الذي يعيشه الشعب الفلسطيني. من المؤكد أن موقفاً من هذا النوع سينطوي على فضيحة سياسية من العيار الثقيل، لكن منذ متى كانت الأحزاب الحاكمة في الوطن العربي تعبأ بذلك؟ فيما يستبعد أن تحتج على ذلك أطراف سبق أن رحبت بانقلاب العسكر الأتراك على الديموقراطية أكثر من مرة، كما رحبت بانقلاب العسكر الجزائريين عليها أيضاً. لن نتحدث هنا عن موقف"حماس"في حال وقوع انقلاب من هذا النوع، مع أننا نستبعد تكرارها لتجربة"جبهة الإنقاذ"، لكننا نتحدث عما قبل ذلك، وهنا يمكن للحركة أن تشكل حكومة تكنوقراط قوية بمشاركة رموز ذوي صدقية في الشعب الفلسطيني، وهي حكومة تكون مهمتها إدارة حياة هذا الشعب بطريقة نزيهة وشفافة، في حين تترك العملية التفاوضية للجنة وطنية منبثقة من المجلس التشريعي، وبمشاركة رموز فلسطينية من خارج الأراضي المحتلة، يكون سقفها الأدنى دحر الاحتلال عن قطاع غزة وكامل الضفة الغربية بما فيها القدس، والإفراج عن الأسرى وإعادة اللاجئين، فيما يمكن توكيل طرف عربي، مصر تحديداً، بهذه المهمة ضمن الثوابت ذاتها، فيما يواصل الفلسطينيون مقاومتهم ورفضهم للاحتلال. بهذه الطريقة يمكن إلقاء الكرة في مرمى الإسرائيليين والأميركيين والأوروبيين بدل أن تكون في مرمى الفلسطينيين، ولن يعود السؤال هو ما إذا كانت"حماس"ستعترف بحق الإسرائيليين في الوجود، بل ما إذا كانت إسرائيل ستعترف بحقوق الفلسطينيين كما نصت عليها قرارات ما يسمى الشرعية الدولية، أم ستواصل سياستها القديمة. ينبغي أن ترفض"حماس"منذ اللحظة الأولى وحتى النهاية الإجابة عما إذا كانت ستعترف بحق إسرائيل في الوجود، لأن المحتل هو الذي يجب أن ينهي احتلاله، لا أن يطلب اعتراف الشعب المظلوم بحقه في الوجود، وحين يفعل ذلك سيكون لكل حادث حديث. لقد أخرج"حزب الله"الإسرائيليين من جنوبلبنان من دون قيد أو شرط، ومن دون أن يعترف بحق دولتهم في الوجود. صحيح أن لبنان يعترف لهم بذلك، لكن منظمة التحرير ومصر تعترفان أيضاً، وعموماً فإن الفلسطينيين ليسوا أقل من اللبنانيين كي يحققوا انسحاباً مماثلاً. نعم، يجب أن ترفض"حماس"الانجرار خلف لعبة الأسئلة الافتراضية، لأن القضية ليست قضية اعتراف طرف ضعيف ومظلوم بطرف قوي وظالم، بل قضية احتلال يجب أن يزول بصرف النظر عن المواقف الأيديولوجية، ولطالما شاركت في حكومات الاحتلال أحزاب لا تعترف بحقيقة وجود شعب فلسطيني. في هذه الحال سيكون من المتوقع، بل ربما المؤكد، أن يلجأ الإسرائيليون إلى خيار شارون الذي ورثه خلفه ايهود أولمرت وأعلن التزامه، أعني الانسحاب أحادي الجانب من الضفة الغربية كما حصل في قطاع غزة، وهنا تحديداً سيكون على"حماس"أن ترفض تنسيق ذلك الانسحاب أو الاعتراف به كما وقع في تجربة قطاع غزة الذي تركت معابره وأجواؤه ومياهه الإقليمية رهن الإرادة الإسرائيلية، مع تأكيد، بل وممارسة الحق في مقاومته سلمياً ومن خلال المقاومة المسلحة أيضاً، حتى لو أدى ذلك إلى إعادة الاحتلال العسكري المباشر للضفة الغربية وإنهاء معادلة"الاحتلال الديلوكس"، لأن وضعاً سياسياً لا يؤدي إلى التحرر بل يعيقه لا يستحق الحرص عليه. من الضروري أن يتذكر قادة"حماس"أن الأمة تراقبهم بعناية، وأن جماهيرها التي منحتهم المحبة والثقة لن تقبل منهم أي سلوك يصطدم مع وعيها. عليهم أن يتذكروا أن هناك خمسة ملايين فلسطيني في الخارج هم أكثر انحيازاً لخيار المقاومة وحماس من فلسطينيي الداخل، ومن ورائهم يقف مئات الملايين من المسلمين الذين لا يجمعون على حركة إسلامية كما يجمعون على"حماس". وإذا كان في وسع المطحونين بفساد السلطة والقمع الإسرائيلي أن يتسامحوا مع هذا التصريح أو ذاك أو هذه الخطوة أو تلك فإن جماهير الأمة ليست كذلك. هي تجربة فريدة لا يمكننا التنبؤ بمآلها، وفيما يراهن الكثيرون على إفشالها، أكان انحيازاً للدولة العبرية أم فئوية أم كرهاً للبرنامج الإسلامي، فإن المحبين والمخلصين يراهنون على مسار آخر لا يبدو مستحيلاً، وإن كان صعباً إلى حد كبير. هناك اليوم من يراهنون على توسيخ"حماس"وحرمانها من براءتها، وبالتالي من صدقيتها، وهم ذاتهم الذين راهنوا على ذلك منذ ثمانية عشر عاماً، ولا ينبغي من أجل سلطة هزيلة أو حكومة بائسة أن تمنحهم الحركة فرصة الاستمتاع بنجاح رهانهم. هناك فرصة لا بأس بها للخروج من المأزق بقدر من الأرباح، أو من دون خسائر في أقل تقدير، ولن يحدث ذلك من دون الإمساك بالثوابت الأصلية بصرف النظر عن ردة فعل الأطراف الأخرى. پ * كاتب أردني