عندما يقرأ المرء المقابلات التي يتم التطرق فيها إلى الوضع العراقي يصاب بنوع من الغثيان سببه الأحكام المعلّبة والإسقاطات المذهبية. في الواقع إن هذه الطريقة في الكلام لا توضّح، لا من قريب ولا من بعيد، التعقيدات التي تكتنف"الحياة"السياسية في العراق المدمّر والمستباح، لا بل تزيد الأمور غشاوة جراء عبارات وصفات مكرّرة، منها"الصداميون"وپ"خوارج العصر"الذين يقف في وجههم نفر من"العقلاء" وپ"الحكماء"! ويجد هذا المرء نفسه أمام جماعتين متناحرتين كانتا قبل قدوم جحافل الاحتلال الأنكلوساكسوني في موقعين مغايرين. فالأولى كانت تعتبر نفسها العاقلة والحكيمة وترى في الثانية جمعاً من"الخوارج والمتآمرين على سلامة العراق". وبالطبع فإنّ هذه المعادلة انقلبت مع تغيّر المعطيات السياسية والعسكرية على الأرض. وفي السابق كما الآن، كانت هاتان المجموعتان تريان أنّهما الأدرى بمصالح الشعب العراقي الذي لم يُستشر ولم يُسأل يوماً عن طموحاته وتطلعاته، على رغم ادّعاءات النظام البائد وفتاوى خلفه السائد أيضاً بقوة الموت والدمار وبلغة الحديد والنار. إزاء ما يحصل يومياً وما يحاك انطلاقاً من العراق لا يمكن، تحت أيّ ذريعة، المفاضلة بين التجربة الآفلة، خصوصاً منذ حقبة الثمانينات من القرن الماضي، والتجربة الحالية المتعثرة بسبب المذهبية المقيتة التي يُراد منها تبرير السرقات الفاضحة التي تتم على الملأ. وإذا كان حكم الديكتاتور السابق مداناً سلفاً نتيجة أفعاله طوال نحو ثلاثة عقود من الزمن، فإنّ الحكم المذهبي -التقسيمي الذي يبنى حالياً بلبنات مجبولة بدماء آلاف الأبرياء يُدين نفسه بنفسه قبل أن يدان من الآخرين. لم يكن صدام حسين في يوم من الأيام عالماً من علماء المسلمين السنّة، ولا فقيهاً من فقهائهم، ولا تقيّاً من أتقيائهم. لقد نال الشعب العراقي بكل أطيافه وفئاته وطوائفه قسطه من التعذيب والتشريد والقمع الجسدي والنفسي. وعانى الجميع من حروب جرت الويلات على بلاد الرافدين، وهي حروب مهدت لها اتفاقات مجحفة فرضت في ظروف معينة وسلخت أراضي شاسعة وغنية، من أجل وقف تدخلات في أجزاء أخرى واسعة وغنية أيضاً. لا نبتغي هنا العودة إلى الحرب التي شنّت على إيران في سنة 1980، والتي صوّرت آنذاك بأنّها استعادة لمعارك بين"العرب والفرس"، وبأنّها خط الدفاع الأخير أمام"الهجمة الصفوية"، تماماً كما نقرأ حالياً في الجرائد نفسها التي كانت تهلل"لصدام القادسية"ثم راحت تسخر من سرواله الأبيض الذي ظهر فيه شبه عار في الإعلام العالمي. لكن فحوى الكلام أن المسؤولية تقع على أطراف كثر، داخل العراق وخارجه، ارتأت تأجيج الصراع والذي رأى آية الله منتظري بأنّه كان يجب أن يتوقف في سنة 1982، لكي يُفتح الباب أمام حوار بناء منعاً لتغلغل النفوذ الغربي. وهذا النفوذ صار في رأي"مثقفين"و"محللين"و"عقلاء"بمثابة الحل الأمثل لمعضلات شتى تواجه الأقطار العربية من العالم الإسلامي، وفي طليعتها العراق. والغوغائية التي كانت في الأمس الوسيلة المفضلة لتسويق مغامرات عسكرية مدمّرة، أضحت اليوم السلاح الأمضى لإسكات المعترضين على الاحتلال الأنكلوساكسوني من دون أن ننسى دولاً أخرى مشاركة بالإضافة إلى آلاف المرتزقة وإفرازاته العراقية من"عقائديين"وما شابه. أما الكلام عن التخلص من الطاغية وانتصار الحق على الباطل فليس إلا دعاية سمجة تأتي على هامش مسلسل أميركي ستكون نهايته، كما بدايته، مفجعة. والفاجعة أن التنكر لتاريخ العراق ولهويته وانتمائه توضع في خانة"الاختلاف في الرأي"وكذلك مسخ السلطة المركزية وجعل المحافظات بحكم دول شبه مستقلة. وللوقوف على هذه المسألة التي تستمد خطورتها من مشاعر مذهبية وعرقية فائضة يجدر الإطلاع النقدي على مسودة الدستور التي"استفتي"العراقيون عليها. والفاجعة أيضاً كيف أن العراق يدمر أكثر من أي وقت مضى بأسلحة فتاكة تحتوي على اليورانيوم المخفف، وتفرّغ متاحفه، وتدك ساحاته، وتحرق مكتباته، وتنهب ثرواته، وتفكك منشآته، وتقوّض جامعاته، ولا نجد أحداً من حكماء وعقلاء العصر الأميركي يعترض أو يندد. والفاجعة أخيراً أن أعداء الأمس الذين ساندوا وسلحوا آلة البطش"الصدامية"أضحوا حلفاء اليوم، هكذا ومن دون تفسيرات ومقدمات، واستحالوا مجرد موضع"اختلاف في الرأي"! في النهاية، لا يمكن أن يبنى العراق على قواعد مذهبية فجّة وانطلاقاً من نزاعات تقسيمية فاقعة تجعل من شعبه ألعوبة في يد الاحتلال من دواعي السخرية أن تكون واشنطن أكثر"حرصاً"على وحدة البلد الجغرافية ورموزه المحلية و"جيرانه"الذين يرون فيه شيطاناً أو شراً لا بد منه! نمر رمضان - بريد إلكتروني