كان يخيّم على"مركز SD"الثقافي والفنّي في بيروت، أوّل من أمس، مناخ خاص يذكّر بمسارح ال fringe الشهيرة في العاصمة البريطانيّة، تلك الاختبارات التي تحتضن أغنى التجارب، وتشهد ولادة الحركات الطليعيّة. جمهور من الشبان والشابات احتشد طوال ثلاث أمسيات، لمشاهدة عرض خاص جدّاً لرائد ياسين، وهو فنّان لبناني يقف على حدة بين أبناء جيله في لبنان. تلك الفورة الحيويّة في"مركز SD"جاءت تؤكّد وجود هامش حقيقي للأعمال التجريبيّة التي تبزغ بغزارة منذ سنوات، في بيروت، وفي مدن عربيّة أخرى... أعمال وتجارب تكاد تكون بيان الجيل الجديد، واعلانه عن هويّة وخطاب وووجود، وتقف عند الحدود الفاصلة بين أنواع فنيّة وأشكال وقوالب مختلفة، لا تلتقي في ما ينها بالضرورة في الأعمال المكرّسة، والفنون المتعارف عليها والتي تملك صفة الشرعيّة والمرجعيّة. "بهار أسود"هو عرض راقص بتوقيع رائد ياسين، يشاركه موسيقي وعازف غيتار هو شريف صحناوي الذي يجلس إلى طرف الخشبة، يصدر من آلته الكربائية أصواتاً ونغمات ومؤثّرات تنتمي إلى"الموسيقى الملموسة". فموسيقى العرض لا تشبه الموسيقى المتعارف عليها، أو التي تألفها الأذن التقليديّة وتتوقّعها. وبأيّة حال فإن أيّاً من عناصر العمل الذي نحن بصدده لا يمتّ بصلة الى اللغة السائدة، بعناصرها ومفرداتها. والجمهور الذي أتى بكثافة، وانقسم بين حماسة وخيبة، يتوقّع تلك اللغة الأخرى، وتلك الطريقة"الخاصة"في التعاطي مع الجسد، والحركة، والفضاء، والايقاع، و"الشريط الصوتي"الحيّ. نحن في"بهار أسود"أمام تجربة مفردة أو بصيغة المفرد - أقرب إلى ال"برفورمانس" performance التي يتخذ فيها الفنّان من نفسه مادة وموضوعاً واداة تعبير... فكرة العرض، والكوريغرافيا، والاداء، ناهيك بالملابس وعناصر"الديكور"والاضاءة... كلّها تحمل توقيع رائد ياسين. يعمل هذا الأخير على رصد حالات تأمليّة، سابراً أغوار الزمن، انطلاقاً من ثنائيّة الحركة والجمود. يختبر الجاذبيّة واختلال التوازن، يلعب على الصمت والصخب. في اطار طقوسي يبدأ من جسد متجمّد، متلفّع بأطراف ثوب أسود - بطانته حمراء - كأنّه لكاهن وثني في بدايات هذا القرن.... ثم لا تلبس الحركات أن تتوالد حتّى الذروة. لكن أيّة ذروة، في أفق منغلق على الأعضاء والأصوات والصور؟ الاضاءة كناية عن مصابيح في سطول معدنية تزيد من مناخ الحيرة والغرابة والتجريد. والراقص المؤدي معصوب العينين في الجزء الأوّل من العرض. حين ينجح أخيراً في نزع العصابة السوداء، يتغيّر الايقاع. من فمه العاجز عن الصراخ الذي يكتفي بإيماء الصرخة، يسيل خيط من بهار أسود. قبلها يغوص رائد ياسين في تفكيك الوقت، يغرف من بطئه ايقاعاً يقطع مع الواقع الملموس... نحن في منطقة تأمّليّة تسائل الموت، والغياب، والعدم... إنّها تأثيرات ال"بوتو"دانس الياباني، يستوحيها الفنّان بتصرّف، يمزجها أحياناً بملامح من ال"بريك دانس"، وال"سورف"، إذ يؤدي راقصو الشوارع في هوامش المدن الكبرى وضواحيها، حركات بطيئة سلو موشن كأنّها على شاشة سينما. حين تنفلت حركة، من رائد ياسين، ذلك الشاهد المعصوب العينين، على ايقاع الأصوات الكهربائيّة المتواترة، يصلنا ذلك الاحساس بوجع غامض، بالتواصل الصعب، والكلام المستحيل. وحين تمتدّ الأطراف الى أعلى، يتلوّى الجسد، ينطوي على نفسه، يصلنا خطاب كامل لجيل يبحث عن مجال للوجود والتعبير... احتجاج أخرس على صروح مزيّفة تشيّد فوق أنقاض عالم ينهار. لكن رائد ياسين يطيل في رحلة بحثه، يردّد الجمل الحركيّة، يفلت منه الصمت، ويضيع الايقاع، ويبتعد المشاهد في الجزء الأخير... ننتقل من من ايقاع داخلي مضبوط، إلى اختبارات مجانيّة لا تفصح عن غائيّتها، ولا نعرف الى أين تريد أن تأخذنا. وهذا من المخاطر التي لا مفرّ منها حين يغامر الفنان في عرض متعدد اللغات، غير محدّد الملامح... كأن الوهن المفاجئ جزء من اختباريّة المشهد، ومنطقه وأهدافه المضمرة. عرض"بهار أسود"يسلّط الضوء على فنّان متعدد الاهتمامات والمشاغل وأشكال التعبير، ينحو إلى الفنّ الشامل، يجمع الاشكال الابداعية بمختلف لغاتها وأدواتها في كيان تعبيري واحد، أو منظومة واحدة. من الموسيقى الملموسة التي أصدر فيها تسجيلات، إلى الشعر الذي أراده"تجهيزاً"يتصل بالفن الادراكي... مروراً بمهرجانات موسيقى الارتجال الحرّ التي ينظّمها مع مازن كرباج وشربل هبر وشريف صحناوي جمعيّة MILL. ولا ينبغي طبعاً أن ننسى اسهاماته كراقص وممثل، إذ شاهده الجمهور مراراً، في أعمال عمر راجح التي جالت بين بيروت وتونس والقاهرة... وقد طرق رائد أيضاً باب الفنّ الانشائي، والفنون البصرية المرتبطة بالديزاين... وصولاً الى الفيديو : فهو يعمل حالياً على شريط يرصد الفضاءات الصوتية للحرب الأهليّة اللبنانّية! الحرب مرّة أخرى! يعود اليها هذا الجيل، جيل الزمن الصعب، بقلق ونهم وفضول، ودهشة ربّما، كأنّما ليصفي حسابات مؤجّلة. وعندها فقط، يصبح بوسعه أن يجد شرعيّته ويخرج إلى الوجود. إنّها إذاً، كما في"بهار أسود"... الولادة المؤجّلة.