"قررت المحكمة الشرعية في تنظيم القاعدة في بلاد الرافدين، تحويل المرتد سفير دولة مصر الموالية لليهود والنصارى الى المجاهدين كي ينفذوا حدّ الردة فيه"هذا نص البيان المنسوب لتنظيم القاعدة الموسوم بپ"الصارم البتار على سفير الكفار"! وبغض النظر عن إدانة هذا الفعل وعدمها، فإن اللجوء الى حد الردة في تصفية الديبلوماسيين العرب المسلمين في العراق لن يتوقف عند السفير المصري والديبلوماسيين الجزائريين، مما يدعو الى طرح قضية الردة من جديد، ولأنه حصل وطُرح النقاش في قضية الردة مرات عدة من قبل، خصوصاً عندما حكمت محكمة القاهرة بردة المفكر المصري نصر حامد أبو زيد، فقد أصبح في إمكاننا تحليل الجدل الفقهي الحديث حول عقوبة المرتد وكشف الاتجاهات العامة التي استقرّ عليها. إن تاريخ الجدل الحديث والمعاصر لقضية الردة لا يعود الى التأثير بإعلان حقوق الانسان عام 1948 الصادر عن الأممالمتحدة، وإنما يعود الى الاشكالات التي ثارت مع قيام الدولة الحديثة إبان انهيار الخلافة الاسلامية، ودخول أفكار الثورة الفرنسية في بداية القرن، إذ أحرز هذا الوضع الجديد بمؤثراته الثقافية المرافقة قضايا إشكالية عدة، كان أبرزها"العلمانية"و"حرية الفكر"، ولهذا السبب بدأ الجدل يدور في قضية الردة مع المدرسة الإصلاحية ولم يهدأ حتى أيامنا هذه، وطوال قرن كامل وقضية الردة لا تزال غير محسومة، وهي في وضع أخذ ورد، والواقع أن أفكار الثورة الفرنسية والتبدلات الحاصلة إبان انهيار الخلافة العثمانية لم يكن لها أن تصبح ملهمة لإعادة التفكير في"حد الردة"لولا أن النص الشرعي نفسه قابل للاجتهاد وإعادة النظر، ولولا أن آليات تفكير العقل الإسلامي تسمح لمثل تلك الاجتهادات بالمحاولة. لقد حاول بعض الدساتير والقوانين حسم هذه القضية، ولكن الحل الدستوري والقانوني في الواقع ليس حلاً للقضية، بقدر ما هو تأجيل غير مسمى لها - بحسب تعبير بعض الباحثين - لأن القانون الوضعي لا يمكن أن يحل مكان القناعات الدينية، ولا بد من القول هنا، أن البعض يرى في إثارة"قضية الردة"تآمراً على الدين ففي رأيه ان الردة"لم تكن تحمل في طيها أي شبهة ... الى أن عمد بعض المشتغلين بحرفة الافتئات على الاسلام والضلوع في العمالة للقوى الغربية ... فأثار من هذه المسألة مشكلة، واتخذت من حكم الردة شبهة"! وأكثر المشتغلين في الفقه التقليدي"يؤمنون"أن حكم الردة لا يحمل إشكالاً، ولكنهم عموماً مارسوا"عقلنة"الحكم تسويغاً وتأويلاً، وبذلك فإنهم كانوا يعترفون ضمناً بوجود هذا الإشكال. هذا في وقت كان آخرون يرون في حكم الردة إشكالاً حقيقياً، فذهبوا للتأويل للتخلص من حكم المرتد، فيما رفض بعضهم الآخر الحكم من أساسه لمناقضته لأصل التكليف القائم على الحرية. وعلى كل الأحوال فإن دراسة الجدل المعاصر حول الردة يضعنا أمام ثلاثة مواقف: 1 - التراث وتبريرات الموقف السلفي: على رغم ما يظهر في التراث وكأنه أيضاً موقف واحد في حكم المرتد فإن البحث سرعان ما ينفي ذلك، إذ سنجد"إمامين"بارزين كان لكل منهما مذهبه الخاص به، هما ابراهيم النخعي وسفيان الثوري، قد أدى بهما الاجتهاد الى القول بأن المرتد لا يقتل. وسنجد أيضاً أن بعض فقهاء الأندلس قالوا بمثل ذلك واشتهروا الى الدرجة التي جعلت ابن حزم الظاهري يكرس في"المحلّى"بحثه في حد الردة للرد عليهم، هذا فضلاً عن رأي الحنفية المعروف بأن المرأة المرتدة لا تقتل بحال لردتها. هذا التراث، وبهذه الصورة، كان الأرضية التي اشتغل عليها أصحاب الموقف التراثي"السلفي"بألوانه المتعددة وحقيقته الواحدة، فكان هذا الموقف امتداداً طبيعياً للتراث لأنه قائم على التقليد، ولكنه في الواقع لم يكن يأخذ بكل التراث، بقدر ما كان يأخذ برأي الجمهور منه، وهو الرأي السائد الذي يندرج في رأي المدرسة الحنفية بغض النظر عن الفروقات الطفيفة. ان تسميتنا له بپ"السلفي"ليس أكثر من تأكيد على هذا الاتجاه يمثل امتداد التراث في أساسه، فإذا كانت النزعة السلفية هي السائدة في معظم تيارات الفكر الإسلامي، فلنا أن نتصور إذاً انه الرأي الذي يتبناه معظم الدارسين الإسلاميين التقليديين، وهو ما يعبر مرة أخرى عن استفحال عقلية التقليد الموروثة. وطبقاً لذلك التوجه السلفي واعتماداً على"ظواهر"النصوص الشرعية بالمعنى الأصولي يرى أصحاب هذا الموقف في الردة"جريمة"عقوبتها القتل"حداً"وليس ثمة مشكلة بعد ذلك حول تكييف هذه العقوبة، هل هي ذات منحى سياسي أم جنائي؟ وهكذا ستعلل الردة هنا بپ"مجرد الكفر"عند الجمهور، وبپ"الحربية"من الحرب وليس الحرابة عند الحنفية. ولنا هنا أن نلاحظ كيف أخذت"عقلنة"العقوبة تفرض نفسها على أصحاب الموقف السلفي المعاصرين مع تزايد ضغط أفكار العالم المعاصر في ما يتعلق بحقوق الانسان، وعلى رأسها حرية الفكر بحيث أخذت تفرض نفسها كتبرير للحكم وليس كتعليل له، فالفارق بين الأمرين كبير، إذ التعليل - وفقاً لعلم أصول الفقه - يبحث عن سبب يدور معه الحكم وجوداً ثبوتاً وعدماً، في حين يبحث"التبرير"عن فلسفة للحكم بعد التسليم بإثباته! وعند تدقيق هذا التبرير نرى اختلافاً جديداً، اذ يأخذ بعضهم اتجاهاً"يفترض"فيه"مساواة"الردة بپ"الحرابة"بمعنى ان"من استعلن بردته عن الاسلام، ونافح عن أفكاره المناهضة له، وأصرّ على ذلك، فعزم الحرابة في نفسه واضح الى درجة القطع واليقين، وهو الكيد للاسلام والمسلمين، من طريق بث عوامل الزيغ والتشكيك بعقائد الناس، ومبادئهم الاسلامية"، هذه المساواة التي اتكأت على تعليلات بعض متأخري الحنفية، تبدو هشة وواضحة التناقض، فهي تضعنا أمام تساؤل عن مدى انسجامها مع اجماع المسلمين على اباحة إعلان أهل الذمة دينهم المناقض للاسلام، فلماذا إذاً لا تعبر إعلانهم الكفر بالإسلام حرابة؟! وبينما أخذ هذا الاتجاه شخصيات مرموقة كالطاهر بن عاشور وعبدالقادر عودة ومحمد سعيد رمضان البوطي، وغيرهم أخذ البعض الآخر منهم سيد قطب، والشيخ محمد الغزالي تبريراً افترضوا فيه ان الردة تتجاوز مسألة الحرابة، لتدخل في حكم"الخروج على الدولة الاسلامية"والتمرد عليها وبالتالي فهي بمنزلة"خيانة عظمى للأمة"من خلال"الطعن في النظام الاجتماعي والسياسي للدولة، والقائمين على الاسلام"، وعلى أساس ان الردة مؤداها"تبديل الولاء والانتماء من الإسلام الى العدو"! ومن الواضح ان ثمة تماه غير مبرر قامت على أساسه هذه المقاربة، أدى الى خليط بين"الخروج من الاسلام"وپ"الخروج على الاسلام"، فالأول ذو طبيعة فكرية، والثاني ذو طبيعة مادية عسكرية وسياسية! هذا فضلاً عن أسئلة لا بد وستلاحق أصحاب هذا الافتراض في ما يتعلق بمصير الأقليات الدينية، من قبيل السؤال عن ولاء الذميين لأهل ديانتهم خارج الدولة المسلمة، هل يعتبر خيانة؟ الولاء هنا مصطلح اجتماعي وليس سياسياً، وبالتالي فهل ولاء المسلم في أقليته في بلاد غير المسلمين لأبناء دينه خارج تلك البلاد هو خيانة عظمة؟! لا شك في أن الاجابة على درجة بالغة من الخطورة، ومجازفة لا يقبل بها منطق العقل. ضمن هذا التيار السلفي نفسه خرج بعضهم بفلسفة، دعنا نسميها"تأويل التأويل"إذ انه يجري تأويل أول للنصوص يخرج عقوبة الردة من باب الحدود التي لا يجوز لأحد اسقاطها ليدخله في تأويل آخر، يدرج الحكم من خلاله تحت ما يسمى بپ"التعزيز"، أي"السياسة الشرعية"، بحسب الاصطلاح الفقهي، بحيث يتحول القتل من واجب شرعي الى ضرورة سياسية! يعتمد"تأويل التأويل"هذا على إحدى وجهات النظر الأصولية من أصول الفقه التي ترى ان الحدود لا تثبت بالنصوص"الظنية الثبوت"، وقد"ثبت"حد الردة بأحاديث الآحاد في السنّة النبوية. هذا الاجتهاد يبدو لنا أنه حاول الهروب الى الأمام، إذ لا بد من أن يعود الى النص الخام، وهو الحديث المنسوب للنبي صلى الله عليه وسلم:"من بدل دينه فاقتلوه"، وهو حديث متفق على صحته ويشكل نقطة الاستناد الرئيسة لهذه القضية ككل، وبدل ذلك يقرر الذهاب بعيداً في التأويل للتخلص من العقوبة التي يحددها النص ودلائلها الفقهية، انطلاقاً من تطوير رأي الحنفية في إدخال حكم المرتد تحت"باب الجهاد"وليس"باب الحدود"، الأمر الذي منح الحنفية الحق سابقاً ليقولوا بحرمة قتل المرأة المرتدة بپ"المحاربة"من الحربية، لأن بنيتها غير صالحة للقتال. والخلاصة: ان اصحاب الموقف السلفي بدأوا يفقدون توازنهم عندما أخذوا يغادرون تعليلات"السلف"لحكم الردة، وعندما استجابوا لضغوط مفاهيم حقوق الإنسان، أخذوا يجترحون فرضياتهم التي عادت عليهم بتناقض أشد مما كان من قبل، بل أحدثت تحولاً خطيراً عندما أبقت على العقوبة كمسلمة لا تقبل الجدل، وذهبت تغيّر في توصيف الجريمة من جرم جنائي الى جرم سياسي، مما يشكل نقطة تحول مثيرة لتوظيفها سياسياً. 2 - الموقف "الاصلاحي" وسطوة العصر ولعبة التأويل: الى هنا وتبدأ مسالة التأويل تتخذ منحى آخر، ففي الحين الذي كان التوجه منصباً على الحكم ذاته في الموقف السلفي نجد هنا التأويل يتجه الى النص ثانية، ولكن هذه المرة ليس لتأويل"العقوبة"، بل لتأويل"وصف الارتداد"، كأنما وجدوا في إعادة قراءة"النص"مخرجاً جديداً من الحكم. وهكذا ذهب محمد عبده - الذي بدأت معه تحديداً إعادة طرح مسألة الردة في العصر الحديث - الى أن النص المثبت لحكم العقوبة ليس قاطعاً في الدلالة على قتل المرتد الخارج من الدين فقط، بناء على أن كلمة"الدين"جاءت في شكلها العمومي الذي يعني - بحسب عبده - الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح. إذاً يمارس الشيخ عبده هنا نوعاً من"التمطيط"لمصطلح"الدين"حتى تصبح الردة عنه ردة عن العناصر الثلاثة السابقة الإيمان بالله، وباليوم الآخر، والعمل الصالح مجتمعة، ولكنه في سبيل"لتخلٌّص"من الحكم، يرتكب تعسفات لا تتحملها سياقات النصوص اللغوية، ولا يتضح لنا ما إذا كان محمد عبده يشترط في حصول تلك الردة ان سبق إسلام أم لا؟ من جبّة الشيخ محمد عبده نفسها خرج عبدالعزيز الجاويش الذي لاحظ ما وقع فيه أستاذه من تعسف في إهمال السياق فذهب الى ان الارتداد عن الدين يعني الارتداد عن"نصرة الإسلام والمسلمين"وعن"منازلة الأعداء"أي"التخلف عن الجهاد"، مندفعاً للحفاظ على السياق نفسه! وكما هو واضح، فإن ما قام به الشيخ الجاويش هو قلب لطريقة عبده الذي سبق أن ضحى بالسياق في سبيل تصنيع مفهوم للدين! ولا يلبث جاويش طويلاً في تأويله هذا، إذ سرعان ما شعر بالموقف الذي وضع نفسه فيه، فذهب يبحث عن تأويل آخر للمسألة، علَّه يجدها في القراءة التاريخية التاريخانية بربط ظهور النص بظرفه التاريخي، مخرجاً إياه من إطلاقيته ليضعه في بيئته التي ولد فيها،"فهناك أحكام رافقت بدء ظهور الإسلام، وهي أحكام خاصة بتلك الظروف، ذلك ان المرتدين عن الإسلام يوم بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم الدعوة الى التوحيد كانوا يعودون الى ما كانوا عليه من اليهودية أو النصرانية أو الوثنية، وكانوا إذ ذاك يلحقون بأقوامهم، ويحاربون المسلمين في صفوفهم أو يظهرونهم على عوراتهم". تبدو هنا إرادة التخلص من حكم قتل المرتد جلية، بحيث لا يمكن تفسير هذا الاضطراب بين تأويلين سوى بإرادة التخلص من الحكم! إلا أنها لا تحمل في طياتها من الأدلة ما يدعم حجتها. وعلى رغم أن هذه القراءة تبدو مغرية للبعض، لا سيما أن هناك قراءات عدة مماثلة لاحقة حاولت بالطريقة التاريخية نفسها ان تدفع ما لا يقنعها من الأحكام والمفاهيم الفقهية الى التاريخ وحسب، إلا انها توقع نفسها في"مطب"بحيث تنسى أو تتناسى ان الاسلام يقوم على مبدأ اطلاقية الأحكام، بمعنى انها تستوعب التاريخ المستمر، هذا فضلا عن ان هذه القراءة خصوصاً تصطدم بحقيقة ان النصوص الواردة بعقوبة المرتد مجردة من أسباب وردود! 3 ? القراءة الأصولية النصية الجديدة: إلا ان من حصيلة الجدل السابق تشدنا قراءة اخرى للنصوص، تحاول هذه القراءة الجديدة ألا تدخل في مأزق التأويل الآنف، أو تهبط الى تبرير، أو تلعب في مساحة"الجرح والتعديل"للرواة لرد الأحاديث المثبتة للعقوبة، فهي عوضاً عن ذلك كله تحاول التحليق برؤية كلية للشريعة عبر علم المقاصد لترى بمنظاره أن الحكم نفسه قتل المرتد يصطدم مع تلك المقاصد الشرعية، فهناك تعارض بين أمر الاستخلاف للانسان وهو أمرٌ يعتبر العقل البشري مركزه وبين فعل تعطيل هذا العقل وإقالته من التفكير! إذ كيف يكون العقل مناط التكليف والاستخلاف في الخطاب الإلهي، ثم يجيء الخطاب الشرعي نفسه ليعزله؟! وبما أن النص النبوي المثبت للحكم يصطدم مع هذا في شكل أو بآخر، فقد تم تجاهله هنا، وتم اعتماد القرآن مرجعية وحيدة في هذا الحكم لدى أصحاب هذه القراءة/ الموقف مثل: توفيق صدقي وجودت سعيد...، ولكن هذا التجاهل والتجاوز للنص النبوي الذي يمثل مصدراً تشريعياً ثابتاً كما هو معروف في أصول الفقه هو مأزق جديد، يضعف من إمكان تقبل مثل هذا الاجتهاد. بما أن المسألة كانت تتنازعها رغبة محمومة في التبرير والدفاع، أو التخلص من الحكم، فقد بقيت تلك المواقف غير قادرة على الحسم، وكان من الطبيعي ان يتجدد طرحها من دون توقف بين الفينة والأخرى... وهكذا جعل بعضهم يحاول تجاوز المأزق السابق إهدار السنّة، فيتأولها مع النص القرآني، لينتهي طبقاً لقواعد التأويل الأصولي من أصول الفقه الى أن أحدهما مخصص للآخر، إذ التعارض جزئي وليس كلياً، إلا أن الجمع التقليدي السابق بپالتخصيص يفترض فيه ألا يُلجأ اليه إلا في حال استنفاد الاحتمالات الممكنة في التأويل المستند الى دليل يحتج به من النقل، وهو ما راهنت عليه المحاولات السابقة جميعاً، لكنها فشلت في ذلك. أو ينتهي طبقاً لقواعد أصول الفقه الشافعية الى ان النصوص القرآنية المثبتة لحرية الاعتقاد هي من قبيل النص"القطعي"، أي من النصوص التي لا تحتمل إلا معنى واحداً، وليست من قبيل الظاهر حتى تحتمل التخصيص، وهكذا يرى أصحاب هذا الموقف ان تأويل النص النبوي المثبت للعقوبة بات ضرورياً وممكناً في آن معاً، فهو نص تعتريه"الظنية"مرتين على الأقل، مرة من جهة الدلالة باعتباره مؤوَّلاً أصلاً وباتفاق العلماء، ومرة أخرى من جهة ثبوته. * كاتب سوري.