انسحبت اسرائيل في شكل كامل من قطاع غزة بالمعنى السياسي/ الجغرافي وليس بالمعنى الجيو - استراتيجي السيادة والحدود والأجواء والمياه الإقليمية. وكان اللافت في هذا الانسحاب بعد اخراج المستوطنين من القطاع تدمير مظاهر العمران كافة من بناء وتجهيزات، ما عدا الكُنُس جمع كنيس وهو مركز العبادة لدى اليهود. وقد انقسم الرأي العام، ودخل السلطة، حول موضوع تدمير الكنس قبل اخلاء القطاع. وفي آخر اجتماع عقدته الحكومة الإسرائيلية قبل الانسحاب اقرت مبدأ ابقاء الكنس، على عكس موقف وزير الدفاع شاؤول موفاز الداعي الى تدميرها. فما الذي حصل؟ وكيف نفسّر مبررات الهدم؟ من ثم مبررات عدم الهدم في الذهنية الإسرائيلية؟ اول المبررات لهدم الكنس هو انها جزء من منظومة العمران الإسرائيلي في القطاع. ولو كان الاتفاق قائماً على إبقاء العمران بعد الانسحاب لكان من الطبيعي ابقاء الكنس كجزء منها. اما وأن الرأي استقر على تدمير كل مظاهر العمران فليس من الطبيعي والمنطقي الإبقاء على اماكن العبادة وحدها. ثاني المبررات هو تفادي تعرّضها لاعتداءات من جانب الفلسطينيين بعد الانسحاب، وبالتالي من المفضّل تفادي هذا الاحتمال شبه المؤكد والمبادرة الى هدمها على أيدي الإسرائيليين انفسهم، وهو ما كان يقول به وزير الدفاع موفاز. إلا ان كل شيء تغيرّ في اللحظة الأخيرة. لماذا؟ وما هي الاعتبارات والحسابات الاستراتيجية التي جعلت اسرائيل تغيّر رأيها؟ لو كان لدى الفلسطينين الوقت الكافي والحد الأدنى من التفكّر والتبصّر لكانوا طرحوا على أنفسهم هذا السؤال: هل تضع لنا اسرائيل فخاً أم تجري لنا امتحاناً بإبقاء الكنس في القطاع وما هي أهدافها البعيدة في ذلك؟ والحقيقة ان اسرائيل المعروفة بإجراء الحسابات الدقيقة والبعيدة المدى والنظر وجدت أن من مصلحتها ابقاء الكنس كي يتم هدمها على أيدي الفلسطينيين وليس على أيدي الاسرائيليين. وفي اعتقادنا أن المؤسسات الاستراتيجية التي توجه عمل السلطات الحاكمة في تل أبيب نصحتها بإبقاء الكنس نظراً الى ما يمكن أن تجنيه اسرائيل من "فوائد" على المديين القريب والبعيد من جراء هدمها على أيدي الفلسطينيين وذلك لاعتبارات مهمة: 1 - في الاعتبارات اللاهوتية اليهودية ان اليهودي لا يمكن ولا ينبغي أن يهدم كنيساً يهودياً. فالكنيس الذي هو المعادل للكنيسة لدى المسيحيين والجامع لدى المسلمين هو بيت الاجتماع للقاء بين المؤمنين والله. اذن هو مكان مقدس. وصفته تلك تمنع على المؤمن اليهودي أن يهدمه. 2 - في الاعتبارات السوسيولوجية ان تدمير الكنيس على ايدي الفلسطينيين يشكل بالنسبة الى اليهود مظهراً من مظاهر معاداة السامية. وهي مسألة مثيرة للعواطف والمشاعر لدى العرب ولمصلحة اسرائيل. 3 - في الاعتبارات التاريخية، كما يقول حاخام اسرائيل ميتزغر الاشكناز "ان الحرب العالمية الثانية بدأت بإحراق الكنس ثم المحارق... ونخشى أن ينتشر ارهاب تدنيس الكنس الى مناطق أخرى في العالم... وان من يستهدف مكاناً مقدساً كالكنيس يمكن أن يستهدف الأماكن المقدسة الأخرى كالكنيسة والجامع". 4- هذا يفتح الباب أمام الاعتبارات الجيو- سياسية وهي من الخطورة بمكان. أليس هذا ما يعكسه كلام أحد المستوطنين في معاريف وفيه "اليوم أعطيت الشرعية لكل يهودي للمساس بالأماكن المقدسة لدى المسلمين بما فيها المسجد الاقصى". ونقلت الصحيفة عن ناشط يميني تهديده "بأن الانعكاسات الخطيرة لحرق الكنس ستظهر في المستقبل باعتداءات على المسجد الأقصى" "الحياة" 14/9/2005. ألا يفسّر هذا الكلام على سجيته وبساطته احد الاهداف الكبرى لابقاء الكنس في غزة كي يشرعن الاعتداء الفلسطيني عليها الاعتداء اليهودي على المسجد الاقصى في المستقبل؟ هل ورد مثل هذا الاحتمال في اذهان الفلسطينيين سلطة وشعباً؟! 5- في السياق ذاته تندرج ايضاً الاعتبارات الانتر- دينية، أي نوعية العلاقات بين الاديان الموحدة الثلاثة. وتود اسرائيل من "فخ الكنس" ان تؤكد للغرب المسيحي ان الاسلام ليس دين لقاء مع المسيحية واليهودية بل دين فراق وعلامته: تدمير الكنس كرمز للديانة اليهودية. هذه الظاهرة تطرح مقولة الالغاء الديني بديلاً للقاء الديني. 6- تبقى اخيراً الاعتبارات الحضارية/ الثقافية. فكل العالم معني هذه الايام بالحوار بين الاديان كمدخل الى السلام العالمي. وتود اسرائيل ان تظهر للغرب خصوصاً ان ما يحدث في قطاع غزة هو تعبير عن صراع الحضارات وليس تعبيراً عن حوار الحضارات. اذاً ما توقعته اسرائيل حصل بالفعل. وسارع الفلسطينيون الى تدمير الكنس: إحراقاً وتهديماً كأول "نشاط" قاموا به داخل الأرض المحررة. لكن هذا النشاط استتبع اموراً عدة معبّرة، منها: - ان صور تدمير الكنس كانت الأكثر بروزاً وابرازاً في وسائل الاعلام العالمية وهذا أمر له معناه ومغزاه. - ان هذا الموضوع احتل الصفحات الأولى من الصحف الاسرائيلية وحتى بعض الصحف الغربية. - انه استدعى ردود فعل لدى المسؤولين الاسرائيليين ولدى الغلاة أشرنا اليها. - واخيراً جعل هذا الأمر حاخامي اسرائيل الكبيرين شلومو عمار سفارديم ويوتا ميتزغر اشكناز يطلبان مقابلة البابا بنيدكتوس السادس عشر لإدانة تدمير الكنس والتنديد بمعاداة السامية. وقال شلومو عماربعد لقاء البابا 15/9/2005: "لقد مسّت مشاعرنا نتيجة الحرائق التي أضرمت في الكنس. على العالم ان يُسمع صوته ويسمع صوت البابا" بمعنى آخر: الحاخامات يدعوان البابا للانضمام اليهما في ادانة ما حصل في غزة. في عودة الى موضوع الكنس وقرار ابقائها في قطاع غزة يتبين بوضوح ان هذا القرار يخضع لاعتبارات استراتيجية بعيدة المدى لا تنحصر فقط برفض الحاخامين تدمير الكنس. انه جزء من خطة كبرى وشاملة لخلق فجوة بين الفلسطينيين والعرب والمسلمين من جانب وبين الغرب بآفاقه المسيحية من جانب آخر... فجوة هدفها التأكيد على ان التفاهم والتحاور والتعاون ليس سهلاًُ مع العالم الاسلامي كي لا يقال انه مستحيل. فمتى سيدرك الفلسطينيون ذلك ويتصرفون بوعي وحكمة لئلا يقعوا في الامتحان / الفخ الذي ينصبه لهم الاسرائيليون؟!