ما اسم الفائز بجائزة نوبل للآداب في العام 1953؟ كثر لن يتمكنوا من الاجابة، بسرعة، خصوصاً اذا قلّبوا في اذهانهم وذاكرتهم اسماء عشرات الروائيين والشعراء والنقاد أو دارسي الادب في شكل عام. والسبب بسيط: لم يكن الفائز من بين هؤلاء. كان سياسياً محترفاً لا أكثر ولا أقل. بل من اكثر سياسيي القرن العشرين دهاء وتجريبية وبالتالي بعداً عن الادب ودروبه. وهو كان حين اعطاه محكمو استوكهولم، تلك الجائزة التي يتطلع الى الحصول عليها، مرة في العام، كل من على وجه البسيطة من اناس افنوا حياتهم يبتكرون المواضيع، ويستخدمون اللغة الأدبية، ويتجادلون في شأن هذا الجانب الابداعي أو ذاك، كان رئيساً لحكومة بلاده للمرة الثانية. طبعاً يمكنكم الآن ان تحزروا... فهو ونستون تشرشل. والحقيقة ان الذين قد يفاجئهم هذا"الخبر"محقون حين يتساءلون عما جاء داهية السياسة، ومخترع تعبير"الستار الحديدي"، يفعله بين المبدعي،ن ليستولى على جائزتهم الكبرى. غير ان الحق لا يبدل من واقع التاريخ. الذي يقول لنا إن أهل"نوبل"اختاروا في شهر تشرين الاول اكتوبر 1953، السير ونستون تشرشل ليعطوه جائزتهم. والادهى ان تلك الجائزة لم تأت لتتوج ابداعاً ادبياً خارقاً وضعه تشرشل، بل جملة من كتب سياسية تاريخية لم يتميز أي منها بكونه، حتى في مجاله، ينتمي الى الادب الحقيقي. - في ذلك الحين، أي في خريف العام 1953 كان ونستون تشرشل، رئيس حكومة صاحبة الجلالة - وكانت اليزابيت الثانية وصلت حديثاً الى العرش البريطاني -، انجز كتابة ونشر المجلدات الستة التي يتألف منها كتابه الاشهر"مذكرات حول الحرب العالمية الثانية". وكان كل مجلد يتألف من جزأين، ما يتيح لقارئنا هنا، بالطبع، ان يتخيل الحجم الاجمالي لذلك الكتاب. اذ كان يقع في ما لا يقل عن ستة آلاف صفحة. وكان تشرشل بدأ يخط تلك الصفحات في العام 1948، حين كان بعيداً من الحكم بين حقبتي توليه رئاسة الحكومة الحقبة الاولى بين 1940 و1945، والثانية بين 1951 و1955. وهو اضطر لاستكمال مشروعه، حتى بعد ان اختير في العام 1951، لتشكيل حكومة جديدة. واذا كان السؤال المنطقي هنا هو من أين جاء تشرشل؟ منذ 1951، بالوقت والطاقة الكافيين لكتابة الوف اضافية من الصفحات، فالجواب داخل الكتاب نفسه. اذ، وعلى رغم الجائزة السامية التي اعطيت للكاتب - وجزئياً لكتابه هذا - يرينا الكتاب عن كثب أنه في مجموعه ليس اكثر من تجميع ليوميات كتبت ميدانياً، منذ بداية الحرب، ولمذكرات واشارات وبرقيات متنوعة شاءها المؤلف سنداً لنصه، فإذا بالنصّ يصبح ثانوياً، من ناحية الحجم والاهمية، والوثائق تشغل معظم الصفحات. - تشرشل لا ينكر هذا، بل يبرره في معرض حديثه عن كتابه قائلاً، انه انما اختار في صياغته اسلوب سلفه الكاتب الكبير دانيال ديفو في كتابه"مذكرات فارس"، حيث يربط الكاتب بين ما يعرضه من موضوعه وبين مساجلاته في شأن الاحداث الكبرى، عسكرياً وسياسياً، وانما منظوراً اليها انطلاقاً من التجربة الشخصية للفرد. واذ يوضح تشرشل هذا يزيد:"ربما كنت انا الشخص الوحيد الذي عاش اكبر كارثتين بشريتين خلال النصف الاول من القرن العشرين وانا في موقع السلطة". ومن هذا الموقع - واذ يكرس صفحات كتابه لحديث الحرب - يفيدنا تشرشل باستمرار ان تلك الحرب كان يمكن تفاديها بسهولة متسائلاً:"ترى كيف حدث للشعوب الانغلو - ساكسونية، باهمالها، ان سمحت لقوى الشر في العالم بأن تعيد التسلّح من جديد". - لكن تشرشل لا يمضي كل وقته في الكتاب وهو ينحو باللائمة على الشعوب"المتحضرة"لكونها سمحت بالحرب، بل انه اذ يتجاوز هذا الامر يقسم كتابه الى محاور عدة هي: المجلد الاول العاصفة تقترب،"من حرب الى اخرى"1919 - 1939، و"الحرب الغريبة"1939 - 1940 - المجلد الثاني الساعة الفجائعية،"معركة فرنسا"و"انكلترا وحدها"- المجلد الثالث التحالف الكبير،"غزو روسيا"و"اميركا في الحرب"- المجلد الرابع انعطافة القدر،"الهجمة اليابانية"و"انقاذ افريقيا"- المجلد الخامس الكماشة تضيق،"ايطاليا تستسلم"و"من طهران الى روما"والمجلد السادس انتصار ومأساة،"الانتصار"و"الستار الحديدي". - منذ البداية يعرف ونستون تشرشل انه لا يكتب نصّه هنا بصفته عالماً موضوعياً محايداً يريد التأريخ لحرب ما، بل بصفته لاعباً في تلك الحرب، ورجل سياسة يدرك تماماً ان له دوراً في الشؤون العامة سيلعبه بالضرورة حين تدعو الحاجة. ومن هنا يأتي تعريفه للحرب تعريفاً تقنياً لا ايديولوجياً. في معنى انه لا يكتب عن الحرب ليرفضها أو ليبين كم انها تحتوي من مآس انسانية. مآسي الحرب بالنسبة اليه سياسية لا اكثر، ومنها مثلاً اضطرار الغرب الى التحالف مع السوفيات ما يعطي هؤلاء الحق في - والقدرة على - الحصول على اجزاء من"قطعة الغاتوه"السياسية والجغرافية التي سيتقاسمها المنتصرون. والحرب بالنسبة الى تشرشل تعرّف كالآتي:"في الحرب، الحزم يجب ان يسود، في الهزيمة، يجب ان يتم اللجوء الى شيء من العناد، وعند النصر يجب على المنتصر ان يتعلم كيف يكون جذاباً، اما في زمن السلم، فان المطلوب هو النية الصافية". ? بالنسبة الى كثر من المؤرخين والدراسين، من البديهي ان يكون المجلد السادس والاخير من كتاب تشرشل هو الاكثر اهمية، لأنه يتعامل مع مسألة السياسات التي تلت الحرب العالمية الثانية، والتي كان تشرشل نفسه قطباً اساسياً من اقطابها... ذلك ان هذا المجلد يروي"الاحداث الكبرى"التي عاشها"العالم المتحضر"بين انزال قوات الحلفاء القوات الاميركية خصوصاً في النورماندي، وبين استسلام المانيا نهائياً. ولعل مفتاح موقف تشرشل من كل هذه الاحداث يكمن في العبارة التالية التي ترد في آخر فصول المجلد."نرى كيف حدث للديموقراطيات الكبرى ان انتصرت، ثم وجدت نفسها - انطلاقاً من واقع الانتصار هذا - قادرة على استئناف ارتكابها الحماقات نفسها التي كادت من قبل ان تودي بها". وكان تشرشل يقصد بهذا انه صحيح ان ألمانيا النازية انتهت ولكن"ها هي روسيا تسللت الى قلب اوروبا الغربية"... خالقة ما سماه تشرشل"الستار الحديدي". - على رغم ان ونستون تشرشل 1874 - 1965 لم يكن اديباً حقيقياً، ولا رساماً مبدعاً حتى، وهو الذي مارس الرسم وثمة لوحات عدة تحمل توقيعه، فان"مذكرات حول الحرب العالمية الثانية"لم يكن اول كتبه... فهو، وحتى منذ ما قبل القرن العشرين، كان اعتاد كتابة مؤلفات تاريخية ونشرها - واحياناً عائلية - وكان واحد من اول كتبه، كتاباً عن"حكاية قوات مالاكاند الميدانية"1898 تلاه كتاب"حرب النهر"1899 ثم كتاب رحلات، مسيس حتى اعماقه هو اعماقه هو الآخر وعنوانه"من لندن الى ليدي سميت عن طريق بريتوريا"1900. ومن بين كتبه الاخرى"مسيرة ابان هاملتون"1900 ايضاً، و"لورد راندولف تشرشل"1906 - 1907 و"الليبرالية والمعضلة الاجتماعية"1909 و"ازمة العالم"في اربعة مجلدات، 1923 - 1929، اضافة الى كتب مذكرات عدة وتاريخ للشعوب الناطقة بالانكليزية. هذه الكتب وغيرها تفيد كم ان السياسي البريطاني المحنك كان غزير الكتابة. فما الذي كان يفعله حين لم يكن لديه ما يكتبه؟ كان يحكم، وزيراً اول الامر خلال الحرب العالمية الاولى، بعد ان خدم نائب وزير لشؤون المستعمرات في مصر وسري لانكا والهند والسودان، ليصل بعد ذلك الى وزارة العدل ثم رئاسة الحكومة وغير ذلك من مواقع قادته الى الإسهام في صنع عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية في"يالطا"و"طهران"و"بوتسدام"وغيرها.