"الرغبة في الارتقاء، لاستعادة النفَس، للتنفّس أمام أفقٍ أكثر انفتاحاً وصفاءً، وتحاشي اليأس"، بهذه المقولات يفسّر الشاعر الفرنسي الكبير ليونيل راي ما يقوده إلى الشعر، في ديوانه الجديد "مادّة ليلية" دار "غاليمار". دافعٌ يتعذر كبحه، يحوّل صعوبة العيش حدّة مرغوباً فيها، وينقل الشاعر من واقعٍ كامِد ومخيّب للأمل إلى واقع خيالي أكثر صحّة من الواقع في نظر راي: "لا شيء موجوداً سوى / هوّة اللاشيء". هذه الصورة تسكنه، ونجدها في كل ما يكتبه، في تساؤلاته وفي إدانته للهوية الهشّة والحائرة. ولكن على أساس هذا الاستنتاج الذي لا يعتبره فشلاً أو خسارةً، يحاول راي التشييد من جديد. فقول الخسارة هو مسعاه ومبرّره ويقينه الوحيد الذي يُعيد للوجود الشخصي نوعاً من الاندفاع والطاقة والحيوية. وبعبارة أخرى، يجب الارتباط بما هو عابر وتمجيده. إنها مملكة راي، أي العالم المعروف في كل لحظة منه أو حدث، وحتى في أصغر الأفعال التي تشكّل نسيجه وحبكته. ولكنْ، ثمة شيء لا ينضب في هذا العالم ويشكّل أيضاً غاية الشاعر: الانفعال الذي يخلفه الشعور بالزوال فينا، والتعبير عنه. ولهذا تقع كتابة راي من دون أي تفسير، كما لو أنه يتوق بجهدٍ بارع إلى صوغ براءةٍ جديدة، أو إلى إدراك جديد لحال صرفة من البراءة. ويكمن راي أيضاً للزمن ويتصارع معه، كما تشهد عليه كتابته الشعرية التي تمكن قراءتها كبيان عن الزمن العابر: "في كل كلمة، في كل مقطعٍ لفظي، أفقد قليلاً مني ويتضاءل احتياط الكلمات حتى ذلك الفراغ أو العدم الذي يقترب منه حتماً كل واحد منا". وليس صدفة أن أحد دواوينه يحمل عنوان "مقاطع رملٍ". فالقصيدة بالنسبة إليه "ساعة رملية" وكل شيء حولنا معرّض للانهيار في هوّة الساعات. لكنها أيضاً موطنه وذاكرته، مع أن "لا نهاية لمداها، يتكئ الزمن على جدرانها الداخلية"، وتتألف من كلمات لها القدرة على الإعجاب والتردد ولها طريقتها في مقاربة الخفي والتفرّس فيه وإعطائه جسداً، ولو هشاً. ويعتقد راي بفضائل السرعة في الكتابة من دون أن يقصد بذلك الكتابة الآلية. فإن أوكِل الى الشعر وظيفة إقامة روابط ما، وتنسيق جوقة من العلاقات، فلقدرته على حرق المراحل وإدراكه الآني "لأي حقيقة متجلية، قبل أن ينطفئ نورها" باشو. ولكن "عند كل كلمة نلفظها، وداخل الصمت الذي يجري بين الكلمات، بين الجمل، ويقيم الروابط ويعمّقها، يبقى علينا إنجاز اللغة". من هنا أهمية قصيدة راي النشطة بفضل غريزة كلامية أو تيار يُبرمِج قراءتها في شكلٍ يجعل القارئ شاعراً بكل الطاقة الجارية فيها وفقاً لترتيب المعنى. وذلك ضمن غنائية مراقَبة ومسكوبة بتروٍ، تواكب فعل الكتابة وتشكّل عصبها بدلاً من أن تكون مجرّد هاجس جمالي ذي طابع شكلي. يد الحبيبة تبتكر وعد العتبات الكلمات من فصلٍ إلى آخر ها أنت شاردٌ بين الكلمات التي هي مجرّد كلمات لا قشرة لها لا هي سعيدة ولا بائسة وإنما محتومة مثل نكبة المحكوم عليهم. ولا شيء أبداً قادر على فكّها، إن انهارت مع الساعات، مع الرمل، إن خرست فجأة، ليست سوى كلمات من دون قبوٍ ولا سقف، لا تعرف أي سماء أي ملجأ أي منفى، مع أنها تبتعد على طرق فينا لا تقود أبداً إلى مكانٍ آخر، طرق تعبرنا ولا تصل... أبعد أنتم الذين تبحثون/ في الماء عن ذكريات بلا أثر، أبداً لن / تكونوا أسرع من الكلمات. يمكن/ الثمار أن تنضج قبل أوانها، دائماً حبّكم يذهب/ أبعد منكم. هنا النور يهز/ الشجرة. تحت القشرة داخل النفَس من غصنٍ إلى/ آخر ورقة بعد ورقة عالمٌ يبدأ. ولكن أنت، ماذا فعلتَ بكل هذا الوقت؟ ماذا فعلتَ قل/ كي تكون هنا؟ الليل منزلٌ مرتبط بطريقٍ مثلما بأعماق الينابيع. من الآن فصاعداً فارغٌ/ يجتاحه النقص بلا نبض وكأنه غير منجز. كان يجب المناداة بذلك الحلم الذي يدور تحت الجفون الرحيل أبعد من القلب الانحناء على وجوه. الآن الليل انغلق/ مُسرّحاً كل الأصوات. بابٌ موصد من دون أي صدى، الليل يُرهق حتى البرد. يكفي غبارٌ إلى الأبد، ولكن ماذا سيبقى من العاصفة؟ كل هذه الريح هذا الليل، هل سنقول إنه كان سعيداً وإن ذلك يكفي؟ تُغلِق النافذة وأنت بلا أفكار بلا نومٍ ولا كتابة: فقط الحياة فيك/ تجري وهذا/ يكفي. سهم تبحث عن مصدرك في الشعلة تدخل في ذاتك كما في جوف نجمةٍ/ كنتَ هنا منذ زمنٍ طويل مثل سؤال منزوع من الصمت مثل جواب يخفق له القلب مثل صدى هوّة/ وأحياناً تبحث عن الهدف سهماً/ في ثقب الزمن. وعد أي طريق/ يكمّلنا ويحفر في الأسود السرمدي؟ الكلمة عند خراب الوردة عند الصلصال المعتم عند الوجه المذهول. لكنّ يد الحبيبة تبتكر وعد العتبات مثل دفق عصافير عابرة. التقديم والترجمة: أنطوان جوكي