رواية واسيني الأعرج"سيدة المقام"- أو"مرثيات اليوم الحزين"- واحدة من الروايات الجزائرية الجسورة التي واجهت التطرف الديني الذي انتشر إرهابه كالوباء في الجزائر التي عانت منه، كما عانى غيرها من الأقطار العربية. ولولا حفنة من الكُتَّاب والكاتبات الذين يتميزون بالشجاعة لمر طوفان الإرهاب من دون احتجاج وتعرية وإدانة. والمسافة بين رواية"الزلزال"التي أرهص بها الطاهر وطار بصعود التطرف الديني، في طبعتها الأولى التي صدرت عن"دار العلم للملايين"في بيروت سنة 1974، ورواية واسيني الأعرج"سيدة المقام"التي نشرتها"دار الجمل"في كولونيا - ألمانيا سنة 1995، هي المسافة التي قطعها صعود التطرف الديني الذي تولَّد - في الأصل - احتجاجاً على الفساد الحكومي، وبحثاً عن خلاص للمحرومين الذين تطلعوا إلى ما يملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً، وذلك بالعودة إلى منظومة من الأفكار الأصولية التي توهم دعاتها إمكان استعادة الفردوس الإسلامي المفقود، وما يقترن به من قضاء على الأزمات التي أحالت حياة البسطاء المحرومين إلى جحيم، ولكن بطرائق تخلو من سماحة الإسلام، وفي عنف يستبدل الذي هو أقمع بالذي هو أحسن، وذلك كله في نوع من الوثوقية واليقين التخييلي الذي يقيم اتحاداً وهمياً بين العقيدة وتأويل نصوصها، ومن ثم بين أمراء العنف القمعي والدين الإسلامي الحنيف الذي لا يعرف العنف ولا يقرُّه، ويدعو إلى المجادلة بالتي هي أحسن. وكانت النتيجة طوفان التعصب الذي انقلب إلى إرهاب مخيف، لم يبقِ على شيء، مصحوباً بخطاب تكفيري، مهمته الإدانة والاستئصال: إدانة المخالفين الذين أصبحوا موسومين بالكفر، واستئصالهم وأشباههم بعمليات إرهاب، لم يخل قمعها من القتل والاغتيال الذي لم يرحم حتى الأطفال، وذلك في مناخ جعل من تهمة التكفير سيفاً مشرعاً على رقاب المخالفين والمغايرين الذين كان لا بد من القضاء المبرم عليهم، تأكيداً لحضور العقيدة المؤوَّلة التي اختزلت في دعاتها، وبتراً لكل من تخيله الدعاة خارجاً على تأويلاتهم التي حلَّت محل الدين، وأصبحت تبريراً لقتل العلمانيين ودعاة التغريب والمبدعين وممارسي الفنون، وغيرهم من الذين كان ذنبهم أنهم قالوا: لا للإرهاب الديني. وظلوا على ممارساتهم الخلاَّقة لحرية التفكير والإبداع والتعبير. وليس من المصادفة أن تنشر رواية"الزلزال"خارج الجزائر، وأن تنشر رواية"سيدة المقام"خارج العالم العربي كله، وذلك لما تنطوى عليه الرواية الثانية من جسارة إبداعية وفكرية لا بد من تقديرها والإشادة بها، خصوصاً أنها لم تقع في شراك الخطابة المهتاجة، أو الدعائية الفجة، وظلت عملاً فنياً متفرداً، عملاً يحارب معركته الخطرة بوسائل الفن، ومن خلال تقنياته"الأمر الذي جعل من الرواية رؤية جذرية وموقفاً حَدِّياً ضد شروط الضرورة التي اقترنت بالتطرف الديني، وأدَّت إلى تصاعده وتحوله إلى إرهاب مدمِّر، سرعان ما تزايدت وطأته في السنوات التي أعقبت نشر الرواية، وطوال سنوات النصف الأول من التسعينات التي أغرقتها دماء الضحايا من الأبرياء، وعلى رأسهم المبدعون. وتؤكد الرواية موقفها الجذري من النقائض التي سعت إلى كشفها بتقنيات الفن وأدواته، إيماناً منها بأن القص لا يمكن أن ينجح في معركته إلا إذا كان قصاً بالدرجة الأولى، وإبداعاً متميزاً بالدرجة نفسها، بعيداً من مزالق تحول العمل إلى خطاب إيديولوجي مباشر، فالمقاومة بالكتابة الإبداعية، وبواسطة تقنياتها السردية هي الهدف الأول من الرواية التي تستحق الإشادة لتميزها، خصوصاً في قيمها الجمالية التي لا تنفصل عن قيمها الفكرية. وقد كانت الرواية موفقة عندما اختارت موضوع"الحب"تيمة أساسية لها، فالحب عاطفة مستراب بها عند مجموعات التطرف الديني التي لا ترى رجلاً وامرأة إلا والشيطان ثالثهما، ولا تعترف بالحب الذي يتكامل به كائنان في سعيهما إلى مجاوزة شروط الضرورة وتنسم آفاق الحرية? وتتأكد دلالة الاختيار عندما نلاحظ أن بطلي الرواية - الفتى والفتاة - ينتميان إلى فئة المثقفين المبدعين الذين توجهت إليهم مجموعات التطرف الديني بصفتهم هدفاً لا بد من القضاء عليه، فوجود هذه الفئة مناف لوجود الإرهاب الذي يتحول إليه التطرف، ومضاد له، وذلك بحكم طبيعة الإبداع التي لا تتأصل إلا بالحرية، ولا تزدهر إلا بانطوائها على القيم الإنسانية التي لا تعرف معنى التمييز العرقي، أو الديني، أو حتى الوطني في أضيق معانيه، ولا تتأسس إلا بالتمرد على شروط الضرورة، واضعة كل شيء موضع المساءلة، مؤكدة القدرة الإبداعية الخلاَّقة للإنسان الذي يصنع مصيره على عينه، ولا يقبل أن يسجن فكره أو وجدانه، حياته أو مصيره، في مدار مغلق أو أُطر جامدة، ناقضاً بتحرره الداخلي كل وصاية مفروضة من الخارج، أو كل محاولة لخنق قدراته الإبداعية باسم الدولة التي يفترض أن تقوم على العدل، أو باسم الدين الذي يفترض أن يقوم على التسامح والمحبة. هكذا، نرى بطل رواية"سيدة المقام"أستاذاً جامعياً شاباً، درس الفنون الكلاسيكية في روما، ونال منها شهادة الدكتوراه، وفرح بما حصّله من علم وثقافة في عالم متقدم، وقاوم إغراءات البقاء خارج الوطن الذي ينام تحت جلده، فعاد إلى بلده متحملاً كل المصاعب، ابتداءً من مصلحة الجوازات، وليس انتهاء بالأزمات الاقتصادية التي نتجت من الفساد والرشوة والمحسوبية، وفوقها الاستبداد الذي هو علامة الدولة التسلطية، ودافعها الراسخ في قمع إمكانات التنوع السياسي، أو الثقافي. ولا غرابة، والأمر كذلك، أن نعرف - من خلال معارف البطل - المثقفين الذين غيبتهم السجون، والذين أصبحوا موضعاً للريبة وهدفاً مطارداً من أجهزة الدولة القمعية. ولكن ذلك كله لا يدفع البطل إلى الهجرة كما فعل غيره، أو الانتحار كما انتحرت الشاعرة صفية كتو عندما لم تتحمل حجم التشوه والعنف الذي أصاب بلدها الحبيب. ويلوذ البطل في توحده، محتمياً بعشقه للموسيقى والباليه والفنون، التي تخصص فيها، فلا يتركها إلا إلى محاولات الكتابة بوجه عام، والكتابة الروائية بوجه خاص. ونعرف أنه قطع شوطاً كبيراً في كتابة رواية، واقترب من النهاية التي ظل عاجزاً عن كتابتها بالقلم، فكتبها بالجسد الذي انفجر به الحزن واليأس من أعلى الجسر الذي انتحرت منه صفية كتو، تاركاً وراءه الفنون التي يقوم بتدريسها والتي لم يعد لها معنى وسط دوامات التطرف الديني والإرهاب? وإذا كانت الفنون التي كان يقوم بتدريسها هي التي أتاحت له لقاء مريم التي أحبها بجنون، وأعادت التوازن إلى عالمه المختل، فإن هذه الفنون لم تستطع أن تبقي على هذا الحب، ولم تحفظ استمراره في سياقات كل ما فيها يعمل ضد الفن والحب والحياة. ولذلك يغدو عمر قصة الحب قصيراً، عاصفاً، ثرياً بالدلالة على طرفيه الضحيتين. أعني البطل ومريم التي تعرف عليها عندما جاءت لتحضر دروسه عن الفن، ضمن برامج الاستماع الحر، فاقترب منها كما يقترب الشبيه من شبيهه"فقد كانت مثله مهوّسة بالفن، متمردة على شروطها الاجتماعية، مقاومة للقمع الواقع عليها من حيث هي امرأة - عورة - إثم متحرك، غواية تستحق البتر أو الإخفاء. ومريم - إلى جانب ذلك كله - باليرينا، عشقت رقص الباليه، وتخصصت فيه، بعد أن اكتشفتها عاشقة روسية لهذا الفن الذي سعت إلى ترسيخه في الجزائر التي اتخذتها موطناً تحبه، وترعى مواهبه الوليدة، فتدفع تلميذتها النجيبة - مريم - إلى الالتحاق بالدروس الحرة للفنون في الجامعة، كي تزداد معارفها، ويتسع أفقها الثقافي بما ينعكس على وعيها الجمالي وإدراكها لحرفتها. ويكون ذلك بداية اللقاء الذي يجمع بين البطل أستاذ الفنون وعاشقها ومريم عاشقة الرقص المتمردة التي لا تخلو من ملامح المشابهة التي تشدها إلى البطل المتمرد مثلها، والمجنون مثلها بالفنون، خصوصاً تلك التي تستبدل - في أفقها الإبداعي - مبدأ الرغبة بمبدأ الواقع. ولذلك تندفع مريم إلى أفق الرقص، متقمصة الشخصيات النسائية المتفجرة بالغضب والحيوية في الباليهات العالمية، أو البالية المأخوذ من البيئة. وتتوهج العلاقة بين الاثنين اللذين يعانيان الاغتراب في مجتمع يزحف نحو الانقراض والجحيم، مجتمع يعادي الأشواق والفرح، خصوصاً عندما تأتي اندفاعات الفرحة والشوق والحياة من المرأة، المرأة التي تظل - في المجتمعات الاستبدادية والتقليدية - جارية، لا حول لها ولا قوة. وهو وضع رفضته مريم سيدة الفرحة والدهشة، تفاحة المجانين، وتجسُّد المبهورين بالرغبة والحياة الحرة الطليقة، كما تصفها الرواية. ومن المنطقي ألاّ تصل علاقة الحب بين البطل والبطلة - في تمردهما المقترن بعشق الفن وجنون الإبداع - إلى نهايتها الطبيعية في عالم جامد، فاسد، يموج بالظلم والجهالة، معاد للفن بوجه عام، وللمرأة بوجه خاص، عالم أفسدته سياسة الحكام أولاً -"بنوكلبون"- وتركته فريسة سهلة للمتطرفين الدينيين -"حراس النوايا"? ثانياً. وما بين التسميتين الكنائيتين - بني كلبون وحراس النوايا - بدلالاتهما المتجاوبة، تتحرك أحداث الرواية في تموجات السرد الذي يتصدره العاشقان، خصوصاً في حضورهما الذي يحتل مقدمة السرد، تاركاً الخلفية بتشابكاتها وتعقيداتها السياسية والاجتماعية والدينية لكي ترسم تفاصيل المدار المغلق الذي يتحرك فيه الحبيبان، محكومين بالقيود التي تم وضعها بالمشاركة بين"بنوكلبون"وپ"حراس النوايا". والنتيجة هي شروط الضرورة التي تتصاعد تدريجاً إلى أن تؤدي إلى اغتيال الحب في زمن لا يعترف بالحب، ولا يعرف سوى الكره والتعصب والاستبداد والتخلف، ويسعى إلى استئصال الفن بكل ما ينطوي عليه من قيم الحق والخير والجمال، محيلاً كل ما يخترقه إلى موات وجدب وخراب. وتعتمد الرواية على ضمير المتكلم الذي يروي الأحداث من وجهة نظره، مستدعياً من ذاكرته - في علاقات الأحداث - كل ما يتجانس وتدفق وعيه بدفقاته المتدافعة التي لا تكف عن التصاعد إلى أن تصل إلى ذروتها. وليس هناك حرص على تعاقب الزمن المنطقي أو الحدود الطبيعية للمكان، فنحن - من أول سطر في الرواية - ندخل إلى مجرى تدفق تيار الوعي الذي يحملنا مع تدافعه الصاعد إلى قدر محتوم ونهاية طبيعية. لكنه - في هذا التدافع - ينبني على حركات، أشبه بحركات السيمفونية الموسيقية التي تدور - دائماً - حول تيمة واحدة، أو موضوع واحد، ولكن تفاصيله تظهر من خلال الحركات المتعددة، موحية - دائماً - بالرغبة في النور والحياة الطليقة الحرة من كل قيد، وهي الرغبة التي تصوغها الرواية من زوايا متعددة، أو خلال حركات متتابعة متجاوبة. ويمكن أن تعيدنا كل حركة إلى"التيمة"الرئيسة نفسها، لكن من خلال تنويعات تلقي الضوء على الجوانب التي تزيدنا معرفة بالموضوع، وتزيده غنى في الوقت نفسه. ولذلك تتجاوب علاقات الزمان والمكان في حركة بندولية، تبدأ وتنتهي عند المركز الذي لا تتباعد عنه إلا لتعود إليه، مضيفة في كل مرة ما يكشف عن التفاصيل التي تكتمل بها ملامح المشهد السردي، والملامح التي تتكون منها شخصيتا البطلين المتمردين. والراوي هو البطل الذي يقص علينا - نحن القراء - مأساته ومأساة حبيبته عبر أحد عشر فصلاً - مكاشفات المكان، ظلال المدينة، فتنة البربرية، حنين الطفولة، محنة الاغتصاب، الجمعة الحزين، الجنون العظيم، البحر المنسي، حراس النوايا، إغفاءات الموت، نهاية المطاف - كل واحد منها يتجاوب مع غيره دلالياً، ويوازيه في تصاعد الأحداث التي يتحرك فيها الزمان والمكان جيئة وذهاباً، منطلقاً من اللحظة ما قبل الأخيرة التي تبدأ على النحو الآتي: "شيء ما تكسر في هذه المدينة بعد أن سقط من علو شاهق - لست أدري من كان يعبر الآخر: أنا أم الشارع في ليل هذه الجمعة الحزين - الأصوات التي تملأ الذاكرة والقلب صارت لا تعد، ولم أعد أملك الطاقة لمعرفتها - كل شيء اختلط مثل العجينة. يجب أن تعرفوا أني منهك ومنتهك وحزين ومتوحد مثل الكآبة". والمخاطب، في خطاب البداية، هو نحن - القراء - الذين يتوجه إليهم الراوي البطل بما يشبه المرافعة التي تستلزم منا - ضمناً - الحكم له، أو عليه - ونحن نبدأ معه من حقيقة أنه"منهك ومنتهك وحزين ومتوحد"ونمتلئ برغبة معرفة الأسباب، في علاقات الفصول التي تصل المروي عليه بالراوي الذي يدفعنا إلى أن نطلب منه - لا شعورياً على الأقل - أن يكشف لنا عن أسباب الإنهاك والانتهاك والحزن والتوحد التي يصدمنا بها منذ البداية. وهو لا يبخل علينا بالمعرفة، ويندفع إلى ما يتخيل أننا نتوقعه منه، مسترجعاً معنا شريط حياته، وشريط حياة مريم التي اقترنت بحياته، وأسهمت في تحديد مصيره، مريم التي تنزل - في عشقها للفن والموسيقى والحرية - منزلة المتصوفة الذين يهجرون كل شيء في سبيل لحظات التكشف التي تضيء وجودهم كله، فتجعل منها رغبتُها الفنية العارمة سيدةً من سيدات أو سادة المقام الذي يتضوع عطره باحتشاد المعاني الرمزية التي يحتويها أو يدل عليها? وأنا لا أستخدم صفة"الرمزية"عفو الخاطر في هذا المقام"فمريم - في رواية واسيني الأعرج - شخصية مصاغة على طريقة المفرد بصيغة الجمع، أو الجمع الذي يختزل المفرد، فهي الجزائر المنتهكة المغتصبة في بعد من أبعادها، وهي توهج الفن الذي لا بد من أن تطفئه العقول المظلمة من الإرهابيين في بعد ثانٍ، وهي البكارة العفية التلقائية المتفجرة بالحيوية البدائية التي لا بد أن تموت في عالم لا يعرف سوى استئصال المختلف واغتيال البكارة والتلقائية، وهي الشوق إلى الاكتمال المتناغم، الذي تجسده الموسيقى التي ترتقي بالكائن وتنتشله من وهاد الضرورة، كأنها مبدأ رغبة النور والإبداع الطليق الذي يصطدم بمبدأ الواقع الذي يخترق الرغبة كالرصاصة التي اخترقت رأس مريم، وظلت فيها كبذرة الدمار التي سرعان ما أنتجت الموت، عندما تمردت مريم على شروط الضرورة الجسدية في رقصة شهرزاد، في الباليه المأخوذ من موسيقى رمزي كورساكوف الشهير، خصوصاً في اللحظة التي يشف فيها الجسد بفعل الموسيقى، ويغدو خفيفاً خفة لا محتملة، تنتهك قواعد الجسد نفسه واحتماله، فتتحرك الرصاصة الكامنة في رأس مريم التي سرعان ما تموت في المستشفى، تاركة حبيبها الملهوف مفجوعاً، تائهاً، مدمراً، ويفقد البقية الباقية من قدرته على الاحتمال، فيمضي متخبطاً، مطارداً، ملعوناً من حراس النوايا، هارباً منهم ومن يأسه إلى قمة جسر تليملي العالي، لينتحر من فوقه، تماماً كما انتحرت قبله الشاعرة الجزائرية، صفية كتو التي ألقت بنفسها من فوق الجسر نفسه، في شعيرة من شعائر الاحتجاج والرفض والإدانة، والعنف الذاتي الذي يصفع المجرمين الحقيقيين، ويستفز ذوي النفوس الجامدة - وما أكثرها - في هذا العالم المملوء أخطاء بسبب "بني كلبون" و"حراس النوايا".