من عارض اجتياح الولاياتالمتحدة للعراق، منذ البداية، لا يمكنه ان يرتاح لتداعياته الكارثية. وعلينا ان نطرح على انفسنا، اليوم، اسئلة مزعجة. وأولها الموافقة على التدخل العسكري"الوقائي". فإذا كان شن الحرب على العراق خطأ، فلماذا كانت الحرب التي قادتها الولاياتالمتحدة على صربيا في 1999، حرباً عادلة؟ فهي كذلك، شنت من غير موافقة مجلس الأمن. وكانت هجوماً غير مجاز على دولة ذات سيادة، وأدت الى وفاة كثير من المدنيين، وأثارت استياء عالمياً على الأميركيين الذين اعلنوا الحرب. وأما الفرق الظاهر بين الحربين، وهو السبب في الابتهاج حين توجهت الولاياتالمتحدة وحلفاؤها الى كوسوفو، فكان ان سلوبودان ميلوشيفيتش شن حملة على الغالبية الألبانية، في كوسوفو الصربية آذنت بإبادة جماعية. وعليه كانت الولاياتالمتحدة الى جانب الحق، وتدخلت في الوقت المناسب وأسهمت في تجنّب جريمة عظيمة. وفي الذكرى المخزية للبوسنة ورواندا في امس قريب، بدت التداعيات المحتملة للحياد مرئية، وتفوق مخاطر التدخل. واليوم، تقدم ادارة بوش"الحرية الى العراق"متأخرة، بعد ان افتقرت الى حجة"اسلحة الدمار الشامل"لتبرر تسرعها في اللجوء الى السلاح. ومع ذلك، فليست المسألة محسومة. فصدام حسين، على غرار ميلوشيفيتش، كان تهديداً حقيقياً لشعبه. ولم يقتصر ذلك على ارتكاب المجازر في الأكراد والشعية وهي مجازر لم نُحرك ساكناً للحؤول دون وقوعها. ومن يحبّذ التدخلات المبدئية ويسوغها بدفعها الشر، لا يسعه ان يشعر بالأسف على اطاحة صدام. ومن يعارض الممارسة الأحادية للسلطة المفرطة فعليه ان يتذكر انه، قبل عشرة اعوام كنا لنفرح لو ان احداً، منفرداً، عمد الى انقاذ قوم التوتسي براوندا. ولكن الأمور تسير نحو الأسواء. ولا يقتصر ذلك على العراق وحده. فيوم ابصر القانون الدولي والأممالمتحدة النور، كان ذلك في عالم دول ذات سيادة، أي في عالم تتفاوض فيه الدول على السلام حين تنشب الحرب بينها بحسب الأصول. وشدد الاتفاق الذي عقد بعد الحرب العالمية الثانية على ضمان الحدود الإقليمية، وعلى سيادة الدول. ولكن الحروب تنشأ، اليوم، داخل الدولة الواحدة. وبات الفرق بين صنع السلام وبين المحافظة عليه، وبين التدخل والمساعدة وبين القسر، فرقاً دقيقاً وغير واضح. وفي العالم المضطرب الجديد هذا، لم يكن في مستطاع المراقبين والديبلوماسيين الغربيين التمييز بين الدول المتحاربة التي تعمل وفقاً للمعايير الديبلوماسية المتفق عليها، وبين الطغاة المجرمين الذين يقتلون الناس في بلدانهم. وغالباً ما تعني المفاوضات مع هؤلاء التعاون او التآمر معهم. والأممالمتحدة نفسها، ليست عاجزة عن الحؤول دون الأعمال الإجرامية وحسب، بل هي قد تدعم القتل الجماعي، وتسهله، لأنها تهجس بالبقاء على"الحياد". ففي سريبرينتشا تموز / يوليو 1995، وقف 400 جندي هولندي كانوا في امرة الأممالمتحدة، بتهذيب جانباً، وأتاحوا لراتكو ملاديتش ولجنوده البوسنيين والصربيين، ذبح 7 آلاف مسلم من الرجال والصبيان الذين كانوا قد تجمعوا تحت حماية الأممالمتحدة في منطقة"آمنة". وحين يساعد المسؤولون في المؤسسات الخيرية، والمفوض السامي لشؤون اللاجئين لدى الأممالمتحدة، على نقل المهجرين وتأمين الاستقرار والمنازل لهم، وإطعامهم، سواء كان ذلك في جنوب البلقان ام في شرق كونغو ام في الشرق الأوسط، نتساءل: هل يوفرون المساعدة التي يحتاج إليها هؤلاء الناس ام انهم يماشون مشروع طرف آخر في التطهير العرقي؟ وغالباً ما يكون الجواب الأمرين معاً. والأرجح انه كان التدخل باكراً في البوسنة معللاً، وان ترك حصول الإبادة الجماعية في رواندا يلام عليه الغربيون. فكيف ينبغي ان نقرر في المستقبل متى نقف على الحياد، ومتى نتدخل؟ ومن المعني بذلك، ومن يتحمل المسؤولية ويتمتع بالقدرة على تجنب كوارث مشابهة؟ الجواب هو المجتمع الدولي، أي عملياً الأممالمتحدة، ووكالات الإغاثة التابعة لها، الى قوات حفظ السلام. ومنذ 1990 تعزز دور الأممالمتحدة، ووكالاتها، بصفتها المسؤولة عن صنع السلام في العالم، وعن حفظه حد اعتبار مئات الملايين من الناس في اقطار العالم ان نجاح واشنطن او فشلها في الحصول على دعم قرار ثان من مجلس الأمن هو معيار الموقف من العمل العسكري الأميركي. وفي عالم بات فيه انتهاك الحكومات حقوق شعوبها هو الداعي الأول للتدخل المسلح، يمثل تمسك ميثاق الأممالمتحدة بعدم انتهاك سيادة الدول لغزاً حقيقياً. ولا تملك الأممالمتحدة الموارد القانونية او العملانية، التي تخولها حماية حقوق الدول والشعوب على غرار حماية حقوق الأفراد. وإذا لم يمكن تطبيق قرار اصدرته الأممالمتحدة ولم تقبل دولة غير ليبرالية وقوية التدخل في شؤونها الداخلية على ما حصل في الشيشان او في غرب الصين مع شعب الإيغور، فهذا نكسة خطيرة للعلاقات الدولية. وفي العالم كثير من الدول المستقلة وذات السيادة، ولكن الولاياتالمتحدة هي الدولة الوحيدة التي تتمتع بالإرادة بوسائل التدخل المسلح الدولي. وغذت القوة الأميركية العسكرية الأحلام الليبرالية في نظام عالمي جديد، في مطلع التسعينات. وسرعان ما اعقبت خيبة الأمل العارمة الأحلام الوردية تلك. والولاياتالمتحدة التي يترأسها، اليوم، جورج دبليو بوش لا تشارك المجتمع الدولي اهتماماتها وغاياتها. فالولاياتالمتحدة لم تصبح دولة معسكرة وحسب بل هي تتحول الى مجتمع عسكري، أي الى بلد تعتبر فيه القوة المسلحة معيار العظمة الوطنية، وتُعتبر فيه الحرب، او التخطيط لها، المشروع المثالي والمشترك الوحيد. ولعل السؤال المشروع هو لماذا تحافظ وزارة الدفاع الأميركية على 725 قاعدة عسكرية رسمية خارج الولاياتالمتحدة، وعلى 969 قاعدة في الداخل هذا اذا غض النظر عن القواعد السرية الكثيرة؟ فالولاياتالمتحدة تهجس بالحرب: بإشاعات الحرب وصور الحرب والحرب"الوقائية"والحرب"الجراحية"والحرب"الدائمة". فالرئيس بوش، في مؤتمر صحافي في 13 نيسان ابريل 2004، قال:"على هذا البلد ان يستمر في الهجوم". فالحرب هي نواة المسألة برمتها. ولكن في المناخ السياسي الأميركي الحالي ما يتعدى هوى السلاح. فالتبجيل غير الجمهوري لپ"قائدنا"الرئاسي اعمى بصيرة الأميركيين. فعجزوا عن رؤية سلوك بلدهم كما يراه الآخرون. وخير مثال على ذلك هو التقرير الأخير الذي اصدرته منظمة العفو الدولية، لم يزد على ما يعرفه العالم شيئاً. وعلى رغم ذلك سخر الرئيس بوش منه. ولعل اكثر دواعي الخيبة من الولاياتالمتحدة الأميركية الازدراء الذي ترد به ادارة بوش على الانتقادات. وذلك ربما لأن الانتقاد لم يعد شائعاً. وبغض النظر عن بعض الاستثناءات، وابرزها سيمور هيرش كاتب"نيويوركر"فشلت الصحافة الأميركية في تفهم التهديد الذي تمثله هذه الإدارة. فماشت الصحف ومحطات التلفزة السلطة التنفيذية على تجاهل القانون، وحرف حقوق الإنسان من دون اجراء أي تدقيق او تقديم أي طعن. فتضطلع منظمة العفو الدولية، ومجموعات اجنبية تعنى بحقوق الإنسان، بدور وسائل الإعلام المحلية التي باتت ضعيفة ومثلومة. وربما نسي المؤرخون والخبراء انه لا يمكن ان يتوقع بلد يتصرف بإمبريالية او بوحشية، خارج حدوده، المحافظة على القيم الجمهورية في الداخل. وفي الولاياتالمتحدة بدا الكونغرس عاجزاً عن بعث حيوية الهيئة التنفيذية السياسية، وشارك في إضعاف القيم الجمهورية في الداخل والخارج. فالتاريخ الغربي الحديث يشهد سابقة بلد يستغل قائده الإذلال الوطني في الحد من الحريات العامة، ويشهد حكومة تجعل من الحرب الدائمة اداة لسياسة الدولة، وطبقة حاكمة تسعى في غايات تشطر الرأي العام في المجتمع بذريعة"القيم"الوطنية. ويتلاعب الحزب الحاكم بالقوانين الإجرائية، ويهدد بتغيير القانون ليتلائم مع مصالحه الخاصة، ويخيف الصحافيين ويقسرهم على الاعتراف بأخطائهم، ويجبرهم على التعويض عنها. واختبر الأوروبيون نظاماً مشابهاً في الماضي القريب، وأطلقوا عليه اسماً لم يكن"الديموقراطية". عن توني جُودْت كاتب ومؤرخ اميركي، نيويورك ريفيو اوف بوكس الأميركية، اوائل تموز يوليو 2005.