بلغت العوائد النفطية لمنظمة أوبك 303 بلايين دولار في عام 2004، ويقدر لها أن تبلغ نحو 4.15 بليون دولار في هذا العام، أي بزيادة قدرها 37 في المئة عن العام الماضي، وذلك نتيجة لارتفاع الأسعار والانتاج. ويعني هذا الأمر أن حكومات الدول العربية المصدرة للنفط، وهي تعتمد اعتماداً يكاد يكون كلياً على النفط لتمويل موازناتها الاعتيادية والاستثمارية، ستحقق فوائض مالية يمكن استغلالها كيفما شاءت تلك الحكومات. ويبدو من ذلك ان مصلحة الحكومات، ويفترض بها أنها المالكة لموارد البلد الطبيعية نيابة عن الشعب، تستلزم زيادة العوائد النفطية قدر الامكان، سواء بواسطة زيادة الأسعار أو بزيادة الانتاج أو كليهما معاً. ولكن السؤال الذي يتبادر الى الذهن هو هل أن زيادة العوائد النفطية الناتجة من عملية انتاج النفط وتصديره هي غاية نهائية بحد ذاتها؟ الجواب كلا بالطبع! فالأموال التي تدخل خزانة الحكومة من هذا الباب انما هي وسيلة، والغاية هي خدمة مصالح الشعب وتنمية اقتصاده وتحقيق رفاهيته. على أن الاعتماد على ريع المواد الأولية كالنفط قد أضرّ بمصالح الشعوب المصدرة للنفط في نواح عدة، ذلك أن للعوائد النفطية - كما كشفت لنا الأيام - آثاراً سلبية كونها أعاقت تطور المؤسسات السياسية والاقتصادية لتلك البلدان. وأول ضحية للعوائد النفطية العالية، التي تتسلمها الحكومة في هذه الحالة مجاناً ومن دون كلفة تذكر، هو موقفها تجاه الحاكمية governance. ففي أغلب الحالات تصبح الحكومة مكتفية بما تحصله من ريع، ويغدو هذا الاكتفاء باعثاً على الفساد لأسباب رئيسة ثلاثة. السبب الأول أن مثل هذه الحكومات، وهي تحصل على القسط الأكبر من دخلها مجاناً، تفقد دافع الحصول على قناعة الشعب ورضاه كونها لم تعد بحاجة الى استحصال نفقاتها منه، وهي بهذه الحالة تصبح غير مكترثة بحقوق الشعب وطموحاته وفاقدة لأي شعور بالمسؤولية accountability تجاهه. وذلك بالضبط ما حصل في العراق. فعلى رغم قيام الحكومات العراقية منذ عام 1950 بتخصيص مبالغ طائلة للصرف على بناء بنية البلد التحتية وكذلك الصرف السخي على الصحة والتعليم والاستثمار في القطاعات الاقتصادية غير النفطية، الا ان العراق ابتُلي في الوقت نفسه، وخصوصاً بعد ثورة تموز يوليو 1958، بحكومات لا مسؤولة، لم تكترث قيد شعرة بحقوق الشعب، وفي عام 1979، انتهى الأمر بتسلط دكتاتور طاغية اختطف كامل البلاد ودمّر كل ما بُني سابقاً بعوائد البلد النفطية. السبب الثاني هو أن الحكومات بوجود الريع تفقد الدافع لبناء اقتصاد وطني ذي قاعدة عريضة ومتنوعة مستندة استناداً وثيقاً الى نشاط القطاع الخاص القادر على دفع الضرائب لتمويل احتياجات الحكومة. ونتيجة لذلك تبقى القاعدة الاقتصادية في الدولة الريعية متخلفة وتستمر الدولة في اعتمادها على تصدير المواد الأولية، كما هي الحال الآن في معظم دول أوبك ومنها دول الخليج العربي. أما السبب الثالث، فهو ان شعوب هذه الدول، وهي إما تدفع نزراً يسيراً من الضرائب أو لا تدفع على الاطلاق، يصيبها التراخي وتضعف ارادتها في مساءلة حكوماتها وتحميلها مسؤوليات سياساتها وأعمالها التي تقوم بها، وربما تضعف رغبتها حتى في المطالبة بحقوقها. وينتج من ذلك أن تنتشر في هذه الدول مجتمعات مدنية ضعيفة ومؤسسات قليلة من جماعات الضغط اللازمة لمراقبة سياسات الحكومة وضبطها والحفاظ على توازنها. لقد شاهد العالم كيف خرجت اليابان والمانيا من تحت الرماد ليبلغ اقتصاداهما الحجم الثاني والثالث في العالم، وكيف نهضت كوريا الجنوبية وبقية النمور الآسيوية لتشق طريقاً لها واسعاً على مسرح التجارة العالمية وتحقق من وراء ذلك نهضة اقتصادية رائعة وهي لا تملك شيئاً مهماً من الموارد النفطية أو الطبيعية الأخرى سوى الاعتماد على قدراتها البشرية واتباعها سياسات متنورة. والآن نشاهد الصين والهند تحثان الخطى على الطريق نفسها، في حين نرى دول أوبك، وقد مر عليها أكثر من نصف قرن من الزمان وهي تجني الأموال الطائلة من تجارة النفط، لا تزال تنوء تحت اقتصادات ضعيفة ومتعثرة. فها هي سبع من بين احدى عشرة دولة تتكون منها منظمة أوبك تتجاوز صادراتها النفطية 75 في المئة من صادراتها الكلية، وخمس من تلك الدول ? أربع منها عربية ? تتجاوز صادراتها النفطية 90 في المئة من صادراتها الكلية، في حين تكاد تكون كل دول أوبك معتمدة اعتماداً كبيراً ومباشراً على العوائد النفطية في تمويل موازناتها الحكومية. وربما تمكنت دول أوبك من طريق التعاون في ما بينها، منذ بداية سبعينات القرن الماضي، من تعظيم عوائدها النفطية. ولكن هل أحسنت استغلال تلك العوائد؟ الجواب أيضاً كلاّ بالطبع، فهي كلها سقطت في شرك الاقتصاد الريعي، منتشية بسكرة الأموال النفطية، فباتت تسير وراء دول العالم باقتصادات متخلفة تنشط مع أسعار النفط وتكبر معها، ولا تكاد تحقق حتى النمو الاقتصادي الكافي لاستيعاب الأمواج الهائلة من العمالة الجديدة الداخلية الى سوق العمل كل سنة والناتجة من النمو السكاني الهائل. ما هو العمل اذاً؟ العمل، بقدر تعلق الأمر بالدول العربية النفطية، هو أن تقوم حكوماتها جاهدة بتوسيع القواعد الاقتصادية لتلك البلدان وتنويعها بعيداً من النفط في تكوين الناتج المحلي، معتمدة بذلك على نشاطات القطاع الخاص الذي يجب أن يصبح هو المصدر الضريبي الأول لموازنة الدولة. ان النجاح في هذا الطريق الشاق سوف لن يتحقق ما لم تقم حكومات تلك الدول بتوفير عوامل النجاح وأهمها: تأمين البيئة المواتية لعمل السوق بما تتضمن توفير الإطار القانوني لتنظيم النشاطات الاقتصادية وإتاحة حرية المنافسة وتحديد حقوق الملكية وضمان حمايتها. وتتضمن عوامل النجاح أيضاً الحفاظ على اقتصاد كلي مستقر، وتوفير أسواق مالية عميقة وواسعة، والانفتاح على التجارة الخارجية، وتشجيع الصناعات التصديرية، وتوفير خدمات حكومية جيدة، والاهتمام بالاقتصاد الجديد أي نشر تكنولوجيا المعلوماتية واستعمال الانترنت، وتوفير بنية تحتية وافية، واتباع روتين حكومي قليل، وضمان النزاهة في العمل، ومحاربة الفساد. ويبقى على الحكومة أن يكون دورها مكملاً لدور السوق ومتناغماً معه، فتتركه يعمل طالما هو ينجح وتتدخل عندما يفشل. وغالباً ما تفشل السوق في المجالات التي تقل فيها الأرباح أو تنعدم. وتتضمن هذه المجالات بناء البنية التحتية وتوفير التعليم الجيد والعناية بالصحة العامة وحماية البيئة وتحقيق العدالة في توزيع الدخل وتوفير الضمان الاجتماعي. وهذه المجالات هي الموضع الأمثل لاستغلال العوائد النفطية وليس لاعتياش الحكومات عليها وتمويل موازناتها الاعتيادية منها، كما تجري عليه الأمور الآن. خبير النفط والاقتصاد في مركز دراسات الطاقة العالمية - لندن.