يتقاطع نضال النساء من اجل حقوقهن مع مشكلات اثنية وطبقية وقانونية لا تغيب عنها اللغة. فمصطلح"الجندر"مثلاً، اي النوع الاجتماعي genre, gender، ظهر في حقبة متقدمة من النضال النسوي، ليحمل مفهوماً جديداً ارادته الحركة النسائية تعبيراً عن نقلة نوعية في طرحها مشكلات المرأة . فبعد ان عملت مناضلات البدايات في الولاياتالمتحدة سنة1920 على محاولة الغاء اشكال الاختلاف،"ولا سيما تلك التي تقوم على اختلاف بيولوجي بين الرجل والمرأة، باعتبار انها تخالف مبادئ المواطنة السياسية"، تبين ان هذه المطالبة، تهدد حق الرعاية الاجتماعية، التي كان يحظى بها فريق من العاملات. فكان من شأن صراع الطبقات هذا، أن أدى الى تراجع الحركة النسوية عن التعديل. وكان أن طرح الجيل الثاني من المناضلات النسويات في الستينات، مصطلح الجندر، ليُخرج التمييز بين الرجل والمرأة، من حدود الاختلاف البيولوجي، اي الجنس، الى ربطه بالمكونات الثقافية والاجتماعية، التي مورس من خلالها القهر على النساء عبر العصور. واتخذ المفهوم وظيفة نقدية، كاشفاً الثغرات في الدراسات الادبية والسياسية والعملية، التي توحي بأن التاريخ يقوم على اسهامات العنصر - الذكر دون غيره. وأتاح النقد تبيان ان هناك احادية تهيمن وتحجب الآخر، واعتبرت الحركة النسوية عندها ان مساهمة المرأة، اذا انتقلنا من حيز العام الى حيز الخاص،"كانت اكبر بكثير مما اقرت به طبقة المؤرخين". فعمل النساء في المجال المنزلي اي الخاص حُجبت اهميته، مع ان له الفضل في تمكين الرجال من العمل خارج المنزل العائلي اي العام، وبهذا لم يُعدّ منتجاً الا العمل ذو المردود المادي او المحسوس. ومع هذا لم يخلُ هذا المفهوم للجنس الجندر من المشكلات، لصعوبة منح النساء جميعاً، هوية اجتماعية موحدة في ظل اختلاف الانتماءات والمواقع والعرق والطبقة، وبصرف النظر عن الموقع الجغرافي. هذه المقولة - المحاجة خرجت بها في مستهل التسعينات، مناضلة اميركية تدعى جوديت باتلر. فنفت ان تكون المرأة"ذاتاً كونية"وهوية عامة. ولفتت الى ان"تعيين حدود الجنس باعتباره هوية تكشف عن تشهي فرد آخر من غير جنسه"، يهمش فئات من الناس اجناسهم غير المحددة كالخنثويين والمثليين جنسياً. وفي هذا الاطار ساهم بعض هؤلاء في صوغ نظريات مقابلة لمبدأ المساواة بين الرجل والمرأة، مؤكدين"الحاجة الى ابداع المرء ذاته، وتعبئة خلقية تتجاوز كل هوية محددة مسبقاً". تعمم مفهوم الجندر وكانت اوروبا اول المتأثرين والمتابعين في هذا المجال. ثم ظهر في فرنسا مفهوم"التكافؤ"او التعادل في الثمانينات من القرن العشرين، ولا يزال ماثلاً في الجدال الفرنسي حول حقوق المرأة حتى الآن. وأدركت الحركة النسوية ان خمسين سنة من حق الانتخاب، لم تغير شيئاً من واقع ان الرجال لا يزالون يشغلون مواقع السلطة، وان النضال النسوي لا يمكن ان ينفصل عن الهوية والسياسة، والحرية خصوصاً. ان استعارة مصطلح الجندر في العالم كافة نتيجة تداوله في الجامعات والكتب، طرح اشكالية اللغة، بما انه مصطلح لغوي. فتناولت باحثة صينية كيف تم تركيب مصطلح في اللغة الصينية لاستعارة كلمة الجندر وترجمتها، لأن هذه اللغة لا تحوي كلمة تدل على الذكر او الانثى بل على الحالة الجسمانية عموماً، اما كلمة الجنس عندهم فتعني البشر. ففي هذه اللغة هناك الين yin واليانغ yang، وتمثل الكلمة الاولى الارض والقمر والسلبية والنساء، فيما تمثل الثانية الشمس والنور والايجابية والذكور. وتخلص من هذه المسألة اللغوية، الى نفي ان يتمكن هذا المصطلح ? المفهوم من دخول السياق اللغوي - الثقافي المحلي في الصين. ثم اندفعت في انتقاد الجماعات النسوية التي تبنت الجندر وبنت مقولاتها عليه، لتزعم بحسبها،"التعبير عن اصوات النساء من دون الحزب الشيوعي المسيطر على البلاد". واعتبرت الباحثة، ان"النساء الصينيات لا يُعرّف بهن بالتعارض مع الرجال، وإنما ينتمين انتماء متزامناً الى فئات اخرى". وهنا تتجاوز الحديث عن واقعهن ضمن هذه الجماعات لتركز على آفة الفقر في الريف خصوصاً، حيث تدخل مسألة تحرير المرأة في"باب الرفاه"، معتبرة ان التحرير يأتي من اعادة البناء الاقتصادية، التي تنخرط فيها النساء الى جانب مواطنيهن الرجال. ولم نفهم في النتيجة، ما المانع في ان يعمل بعضهم على تحديث القوانين فيما يعمل الآخرون على مكافحة الفقر، ولماذا تأخير حقوق قسم من الناس بانتظار تحديث يطول وقته؟ من جهتها، تبرز الهند أنموذجاً شبيهاً بالولاياتالمتحدة في تنوع طوائفها وإثنياتها، اضافة الى الطبقية الراسخة عبر العصور. ولكن في الهند يسود الفقر، ويغيب القانون المدني المطبق على الجميع. وتأثراً بالنمط الانكلوسكسوني اعتمدت النساء في الهند مفهوم المواطنة والمساواة، في منأى عن الجنس gender، فأتت التجربة غير مرضية، لأن القانون جعل النساء ذوات مؤنثة امهات او نساء تابعات، وزاد ترسيخ هذه المقولة"باستلهامه ايديولوجياً اسرية راسخة في صلب تكوين المجتمع". وعندما جرت محاولات لاقتراح قانون ثان مدني، اختلفت الجماعات النسوية في ما بينها بسبب الاختلاف الديني وصعود الاصولية، اللذين ارخيا بظلهما على قرار بعض الجمعيات. فكان ان ترسخت مسألة النوع الجنسي على خلفية قانونية هذه المرة ايضاً. يذكرنا هذا بالانفصام الذي نجده في الدول العربية، حيث يطبق القانون المدني في القضايا الجزائية والجنائية، وتطبق الاحكام الدينية في الاحوال الشخصية، كما ذكرت الباحثة العربية في الجندر رجاء بن سلامة. اما مكسب التمثيل السياسي الذي نالته المرأة الهندية، فلا تعرف نتائجه بعد. ولكن لا يمكن اغفال ان النساء لن يشكلن فريقاً وقوة ضاغطة عبر السياسة"بسبب شيوع الهويات وسيادتها على ما عداها، واقتصارها على الطوائف والمحاور الاجتماعية -الاقتصادية"، كما نشهد في الدول العربية ايضاً. وبالتالي، فإن المرأة لا تنادي بحقوق المرأة عندما تعين في وظيفة سياسية. التاريخ يحضر بقوة في الطرح العربي الى جانب اللغة. فهناك ثنائية في اللغة من جهة، وتأكيد ديني على الذكر والانثى يلغي"الجنس الثالث"من جهة اخرى. لكنّ النصوص التراثية حافلة بأخبار الاختلاف والتعدد والالتباس، ويبدو ان العرب اظهروا مرونة في التشريع بحسب حالة كل منها. اما في الادب فغلبت الدعابة او الفضول في الحديث عن هذه الاتجاهات الجنسية المربكة. واعتبر الباحث العربي ان"النظام الاخلاقي الجنسي لدى العرب المحدثين اكثر تجهماً نتيجة عاملين متضافرين، اولهما اعتماد الآليات الانضباطية وانماط اخضاع الفرد التي استحدثتها الدول الغربية الحديثة، وثانيهما"الصحوة الاسلامية"المتعاقبة... التي رأت في الاختلاف"تمثلاً بالاعداء الغربيين، فصير الى ابراز الثنائية الجنسية وكبت كل ما عداها. قد يكون كتاب"التذكير والتأنيث الجندر"، هو الاول من نوعه ضمن سلسلة"مفاهيم عالمية"الصادرة عن المركز الثقافي العربي، بيروت، الدار البيضاء. فالفكرة بادرت اليها مؤسسة شارل ليوبولد مايير، والهدف تنشيط التحاور بين الثقافات، حول مواضيع اساسية، كالجندر والهوية والطبيعة والحقيقة. وقد ترجم الكتاب الى الانكليزية والعربية والصينية والفرنسية خلال سنة واحدة. ويشارك فيه ستة باحثين كل في موضوع، وقد جرى التركيز على دول الجنوب. المشاركون الستة في هذا الكتاب هم: رجاء بن سلامة ودروسلا كورنل وجنفيف فريس ولي كسياو - جيانغ وسيمانتيني نيرانجانا وليندا ولدهام. ويمكن القارئ ان يلحظ، ان التنميط صفة مشتركة بين كل الثقافات والاديان في التمييز بين الانثى والذكر منذ الصغر، وان البلدان ذوات الرفاه الاجتماعي وصلت الى مستوى فلسفي متقدم في المناظرات حول الجندر، فيما الدول النامية تتحرى سبل التوفيق بين ما تستقيه منها والواقع السائد محلياً. وقد لا تستقي شيئاً لغلبة الفقر على كل ما عداه. وهي بأي حال من الاحوال ليس لديها تصور خاص تطرحه مما يترك مجالاً وحيداً، هو ان يبدع الانسان نفسه بنفسه كما قال أحد الباحثين.