إذا كانت الوحدة السورية - المصرية لم تترك أثراً يذكر في الرواية خارج سورية - فلنتذكر سهيل إدريس - فقد تواتر هذا الأثر في سورية من منظور نقدي غالباً، وتشبيبي نادراً. ومن ذلك استرجع"جومبي"لأديب نحوي و"شرخ في تاريخ طويل"لهاني الراهب و"اللااجتماعيون"لفارس زرزور و"قلوب على الأسلاك"لعبدالسلام العجيلي و"البرتقال المر"لسلمى الحفار الكزبري و"الجائع إلى الإنسان"لپع. آل شلبي و"هزائم مبكرة"لكاتب هذه السطور. ولئن كان ذلك الأثر قد تناءى منذ عقدين فها هو يعود بقوة في رواية ممدوح عزام"أرض الكلام"دار المدى، 2005 التي يعزّز الكاتب فيها ما تحقق من مشروعه في رواياته السابقة، وبخاصة"قصر المطر"التي أثارت ما أثارت في سورية قبل سنوات من حفيظة الرقيب الاجتماعي والرقيب السياسي. تمضي"أرض الكلام"في إعادة الاعتبار للكلاسيكي عبر امتصاصه بقدر أو آخر من الحداثي، سواء في الحفر في ما سلف أم في بناء الشخصية أم في الرهان على الوصف والسخرية، وسوى ذلك مما يدفع إلى وصف الرواية بالبهية اللعوب. وقد جاءت"أرض الكلام"في ثلاثة أقانيم، أولها هو فصول يعنونها تاريخها الذي يتقدم ويتراجع خلال عامي 1959 - 1960، والثاني هو فصول عنوانها"من كتاب السفر"، والثالث هو قصص كتبها فيصل الخضرا، ولكل عنوانها. عرّف الفصل الأول بأبرز الشخصيات وبحدث مركزي هو تبرّع أهل قرية السمّاقيات بما سيؤسسون به مكتبة. وقد صيغ هذا الفصل / المفتاح بهيئة تقرير أمني يقرأه مدير الناحية، وكتبه الرقيب بيرم معرفاً بالمعلم المتقاعد توفيق الخضرا الذي سنقرأ مما كتب في"كتاب السفر"، وبالفلاح المتعصب حليم الزهر الذي تحوي مكتبته الدينية عشرات المخطوطات، وبعمار التوت الذي حارب مرتزقاً في الهند الصينية، وبلقمان لقمان الذي انتسب للحزب السوري القومي واعتقل بعد مغادرته الحزب، وبابن مالك الملقب بالفسدي أو الحريكي... تتوالى في الفصول - أياً كان أقنومها - إضاءة هذه الشخصيات والكثير سواها، العابر منها والأساسي، حيث يلّح القول بالنكرات التي تحولها الرواية إلى معارف وهي تدفع بها من الهامش الاجتماعي والاقتصادي والديني والثقافي والسياسي إلى المتن، فيبطل التفضيل المعهود لتمحور الرواية حول بطل أو شخصية محورية معرفة أو أكثر، على موران الرواية بعشرات الشخصيات / النكرات، لكأننا في كرنفال روائي يمور بالكائنات وبالطبيعة وبالمقدس والمدنس، بالغناء والصراع والتآمر والنبل والخسة والنقائض والعشق والجنس والفرح والفجيعة والموت والرحيل. هكذا تختفي محمودة التي يعشقها كريم الزهر طالب البكالوريا فيطلق عواءه الذئبي الذي سيصير الإيقاع الأكبر للرواية. وهكذا نرى كريم في علاقته بالكلب بارود الذي ارتحلت حكايته في السماقيات وما حولها فاغتنت وبدّل فيها الخيال ما بدّل، واتخذت أشكالاً تشبه أشكال الرواة، فإذا بصيغة لها تؤكد أن الشيوعيين ضمّوا الكلب بارود إلى الحزب، وإذا بصيغة أخرى تشيع أنهم سيرسلونه إلى الاتحاد السوفياتي، وإذا بصيغة ثالثة تتحدث عن قيامه بمهمات سرية للحزب كنقل المنشورات. وسوف تقلّب الرواية قوام هذه الحكايات في حكايات أخرى، ليرتسم لعبها في السخرية وفي وحدة الكائنات الإنسان والطبيعة وفي تعدد الصيغ وفي فعل المخيلة الشعبية. من المفارق ومن الباهر أن الرواية أقامت من الجفاف الذي عصف بسورية في سنوات الوحدة كرنفالاً بامتياز: ففي"طقس"الجفاف، يترنح الفرد والجماعة والسماء والأنعام والزرع والذئاب والحمير. ويبدع الرهان على الوصف في الرواية هنا وهو يؤنسن الأشياء والطبيعة، فيكون لها لسانها الروائي الذي يجلو كنهها، ويكون للعين / العبارة الواصفة تفريدها وهي تلون الموصوف بألوان الذات البصيرة، وليس الواصفة. وبذلك فتحت الرواية السبيل إلى فضائها الخاص العجائبي/ الواقعي في الريف جبل العرب أو جبل الدروز جنوب سورية، على النقيض مما كان من الرهان على الوصف المحايد الخامد في الرواية الجديدة آلان غرييه مثلاً. لكأن"طقس الجفاف"هو"طقس الخصوبة"وقد تبدلت العناصر بنقائضها، كما يبدو في الفصل 14 توزيع الإعاشة ومساعدات النقطة الرابعة المشروع الأميركي لنجدة فقراء العالم وكذلك ما جاء في الفصل 15 من معركة الذئاب والحمير الداشرة في البراري، وهذا ما سيعاود بين ابن مالك والحمار الرمادي وقدوم الذئاب إذ سمعت نهيق الحمار، لكأنه نداء استغاثة، فأصابت ابن مالك لقوة ولُجم لسانه، وسرحت الحمير"باحثة عن غذائها، فيما ظلت الذئاب تحوم حول تجمعاتها، وتنتقي كلما جاءت أحدها لتلتهمه، يثور غبار فاتر، ويُسمع نهيق تافه، وتتصاعد رعشات القتيل لحظة، ثم ينتهي كل شيء". والجفاف إذاً يوحّش الحيوان كما يوحّش الفقر الإنسان، فتصير الحمير شموسة لباطة، تجفل إذ تلمح إنسياً، وتستسلم بقدرية رضيّة للذئاب مثلما يؤثر إنسان قاتله على إنسان. هنا يكمن السرّ في تشبيهات الإنسان بالحيوان. فكريم الزهر يعوي مثل ذئب وهو حائر مثل كلب مطارد، والعاهرة عصمت ترفض الزواج من لقمان على رغم أنها كانت مبتهجة معه مثل عنزة، وتوفيق الخضرا يعوي مثل كلب جريح مستوحد بعد أن يقع أرضاً وقد رمى بالإعاشة صارخاً:"ولكْ عطونا شوية وسخ وحضرتك سميتها مكسب، وحضرتهم سموها حرية. ولكْ هيْ زبالة". بل إن مواء قطتين فاحشتين في"مهرجان سفاد القطط"قد أصاب نجيب الخميري بالعنّة، فصار يسجن امرأته، ثم أطلقها واختفى. تتعزز هذه الكرنفالية الروائية المفارقة والباهرة بالطريق الذي شقّه حسن اللوف أمام فقراء الجنوب السوري إلى بيروت. فهذا الذي عيّن نفسه"قنصلاً"لشؤون الفقراء، وسماه الناس"السعد"، كسب ثقة الناس في بيروت كما في السماقيات وجوارها، وشرع يورّد الرجال إلى أم المدن في الشرق"بيروت". لكن عشرات السماسرة أخذوا ينافسونه ويعرضون بضاعتهم الرجال في أسواق لبنان، ثم بدا لبنان نفسه متخماً بالحجيج السوري الجائع، فصار حسن اللوف يبيع البالات، إلى أن انبثق إلهامه، وشرع يورّد الخادمات - الشغّالات والعائلات إلى لبنان. هكذا مضت محمودة إلى بيروت فتزعزع كيان العاشق المراهق كريم الزهر إلى أن لحق بالحبيبة، ثم آب إلى جيرة لؤلؤة الأرملة في السويداء متابعاً الدراسة والعمل الحزبي السري. وبهذا كله أخذت الرواية تدمج بين الريف والسويداء وبيروت. ولئن كانت البيوت أخذت ترحل خلف أصحابها في كرنفال الجفاف، ففي هذا الرحيل عام 1960 ما يترجّع اليوم، ليس في ريفي السويداء وحوران وحدهما، بل في ريف الساحل أيضاً، مما طرأ إثر اغتيال رفيق الحريري والرحيل المعاكس للعمال السوريين في لبنان. وقد خصّت"أرض الكلام"قصة مسعود شمال ولوزية من قصص الرحيل السابق بعناية أكبر لترسم المصير المأسوي لطموح لوزية ولقوة مسعود الجسدية التي - باعها حسن اللوف ولوزية في سوق المصارعة البيروتي حتى تقصف مسعود وعاد إلى قريته ميتاً. وقد آلت إلى مثل هذا التصدع والانهيار والتدمير مصائر الآخرين، كما كان من هوس حليم الزهر بالدين والذكورة والملكية، ما جعل زوجته خيرية تنتزع الطلاق. وهنا تبرز شخصية شقيقته زينب التي يبست بالعنوسة واخضرت بأمومتها لابنتي حليم ولشقيقها كريم. وفي هذا الخضم المتلاطم كان اعتقال توفيق الخضرا وكانت تجربتا كريم في الحزب وفي العشق الجنسي للؤلؤة. تولّى السارد في الفصول المؤرخة وتوفيق الخضرا في مذكراته"كتاب السفر"سرد كل ما تقدم وسواه باللغة نفسها والأسلبة نفسها. وقد فوّت ذلك على الرواية الفرصة الذهب للتعدد، فكان الأقنوم الثاني كالأقنوم الأول: نفس القناع للسارد، على العكس مما كان في الأقنوم الثالث قصص فيصل الخضرا، حيث ترجّع صدى قوي للقص الشعبي"ألف ليلة وليلة"بالدفق والبساطة والدقة. فمن قصة"يلله ماش"إلى"يوم رندة"إلى"رائحة النساء"إلى"فم الضفدع"إلى"يوم الليل"، كان فيصل الخضرا يضيء ويلوّن ما سبق سرده ويضيف إليه، بعدما أهّلته القراءة للكتابة:"حدق وأمعن واقتات وسحق واستهل وتمدد وصان ورمم وأرسى وأوحى وانطوى على متون الكتب وهوامشها". وكما هوّنت قصص فيصل من طغيان السارد كان أيضاً فعل كاميرا نيازي، وهو الفعل الذي جاء خلاصة لأقانيم الرواية الثلاثة، بما صوّر نيازي من الراحلات من نساء السماقيات وأودعه ألبوم"كتاب العائدين"أو بما صوّر من الشجارات في ألبوم"عقد الجوز"... وحين يرحل نيازي وتُدفن ألبوماته، تتدافر الأسئلة عن الحقيقة التي رآها نيازي في الآخرين واحتفظت بها ألبوماته، وعما ينبغي أن يبقى: صور الماضي أم حال اليوم؟ وعما إن كان نيازي قد سجل تاريخه الذاتي، أو إن كان بدفن الألبومات يدفن ذاته. بتدافر الأسئلة تمضي الدلالة إلى الرواية نفسها: هل هي تأرخة أم حفر في ذلك الماضي القريب الذي يخاطب الحاضر والمستقبل بألسنة شتّى، منها اللسان الاجتماعي الذي"تخصّص"في المذهبية الموحدية الدرزية أيضاً تحريم تعدد الزوجات والتدخين والسكر والبذاءة كتاب الجفر الكبير ومواعظ النون المصري وشرح الأمير السيد ورسائل حمزة.... بيد أن اللسان الاجتماعي قد تعمّم سواء في ما جلا من همّ العسكر الانقلابيين في البقاء، وانشغالهم بالسلطة عن المجتمع الذي بقي حراً أسيراً في تقاليده، أو في ما جلا من العقم الحزبي عبر شخصية المسؤول الشيوعي الذي أخفت السخرية اسمه واكتفت بتلقيبه: بالقميص المخطط. وإذا كانت الرواية هنا لا توفّر زمن الجمهورية العربية المتحدة وجمال عبدالناصر، فهذه النقدية هي مما مال بالرواية عن أن تكون تأرخة لتصبح حفراً. أما ما هو أهمّ، فهو تفاعل اللسان الاجتماعي بلسان الطبيعة في إهاب فني بهيّ ولعوب، ناله الأذى في طغيان السارد على كتاب السفر والفصول المؤرخة، ولكنه تألق في بناء الشخصية والمشهد واللغة، تعبيراً عن تحولات الروح والجسد في الطبيعة كما في الإنسان.