الإبداع في الفن يتوق دائماً إلى الجديد، فالسينما تجد نفسها مدفوعة دفعاً إليه، وخصوصاً مع كل تطور في التقنية، حدث ذلك عندما أُكتشف استخدام الصوت مع شريط الصورة في الفيلم، وحدث عندما أضيفت الألوان إلى الصورة، والآن تقبل تقنيات الديجيتال والكومبيوتر، معلنة بداية ثورة جديدة في إنتاج الصورة. وفي اعتقادي أن السينما التسجيلية المصرية والعربية عامة، كانت على موعد مع التقنية الحديثة،. فبعد أن وصلت هذه السينما الى شبه طريق مسدود يكشف عنه تدني عدد الأفلام المنتجة بسبب ارتفاع أسعار المادة الخام السيلولويد من ناحية، وضيق الحركة من ناحية أخرى وهو ما تفرضه الكاميرا الثقيلة وآلة المفيولا العتيقة، فضلاً عن ضيق الحريات العامة طبعاً، أقول بعد أن وصلت هذه السينما التسجيلية إلى أدنى مستوياتها الفنية والكمية خلال العقد الأخير من القرن الماضي، حتى تصورت أنها على وشك أن تغلق أبوابها، إذ بها الآن تأخذ في استرداد أنفاسها على يد جيل جديد من الشباب يظهر فجأة مع ظهور التقنية الحديثة التي وفرتها كاميرات التصوير الديجيتال الخفيفة والصغيرة، وأجهزة الكومبيوتر التي تتيح للمبدع حرية حركة هائلة وبسرعة فائقة تبدو إلى جانبها الأجهزة القديمة بمثابة العربة الكارو إلى جانب الطائرة، ويمثل فيلم"تاكسي"إخراج ريم أبو عوف أحد نماذج هذه المقاربة الحداثية. نبض الشارع المصري ثلاث كاميرات صغيرة، مخفية داخل سيارة تاكسي، تقودها أمرأة تجاوزت منتصف العمر، تجوب بالتاكسي شوارع القاهرة وفق رغبات ركابها، والكاميرات الخفية تسجل ما يدور بينها والركاب، استخدام ذكي للكاميرات الصغيرة الخفية عالية الجودة لتسجيل نبض الشارع المصري في لحظة معينة بكل العفوية التي يحلم بها المخرج التسجيلي، وكان يجهد نفسه في الحصول عليه من دون أن يحققها إلا بصعوبة ومع قدر من التحايل، وذلك بسبب إدراك شخصياته لوجود الكاميرا وعدم تدربهم على مواجهتها. من خلال الدردشة التي تدور بين سائقة التاكسي والركاب الذين يتناوبون عليها، نلمس ما يشغل أذهان الناس: البطالة، والغلاء، وغُلب الموظف، والزحام، والدروس الخصوصية، وحاجة المرأة للعمل، وسوء الإدارة الحكومية. لا يقتصر الفيلم على تسجيل هذه اللقاءات العفوية، وإن كانت تمثل قلب أحداثه، ولكن الأهم من ذلك فنياً - في رأيي - أنه يقدم نموذجاً لشخصية امرأة مصرية عاملة، لا يمكن القول بأنه نموذج عام، وإن كان شائعاً، وهو نموذج مشبع بالدلالات. امرأة تتمتع بخفة ظل مصرية، على رغم أنها لم تذكُر نكتة واحدة، يكشف عن خفة ظلها سلاسة حوارها وتلقائيته مع ركاب التاكسي، وحكاياتها الطريفة، فهي بالإضافة إلى قدرتها على إدارة الحديث بلباقة امرأة حكّاءة تدخل القلب بحكاياتها. من حكاياتها التي تكشف عن ذكائها الفطري الذي يسعفها في الأزمات، حكاياتها مع اللص وزميله اللذين أرادا أن يسرقا حقيبة نقودها فتظاهرت بعدم رؤيتهما حتى وصلت إلى أقرب مكان تستطيع الاحتماء فيه بالجمهور، وأوقفت التاكسي فجأة، وصاحت باللص وزميله حتى تحلّق حولها الناس وأصروا على تسليم اللص وزميله إلى البوليس بعد إهانتهما، لكنها - مثل معظم المصريين - تطلب العفو عنهما، وتكتفي بما نالهما بعد أن تأخذ حقها من أجرة التاكسي. ومن حكاياتها التي تكشف عن ثبات قلبها عندما تعرّضت لها مجموعة من الشبان في مكان مقطوع عند أطراف القاهرة وكانت في طريقها لتوصيل بعض الزبائن، لكنها بدل أن تستجيب لطلبهم بالتوقف، أوهمتهم بذلك، ثم ضغطت على بدال البنزين لتقفز السيارة فجأة إلى الأمام ويقفز أعضاء العصابة بعيداً عن السيارة. كل ما تحكيه له دلالته الواضحة التي تتعلق بشخصيتها أو تتعلق بالمجتمع، ومنه السيدة التي أرادت أن تعمل - مثلها - سائقة تاكسي، فلجأت إليها ترافقها بعض الوقت في عملها، لتأخذ فكرة عن طبيعة العمل، وحدث بالصدفة - لسوء حظ السيدة - خلاف حاد بينها وأحد الركاب، واستطاعت في النهاية أن تنهي الخلاف لمصلحتها، لكن السيدة بعد أن شاهدت هذه المشادة قررت التراجع عن العمل سائقة تاكسي. معظم حكاياتها نسمعها منها عندما نزور بيتها الذي نعود إليه أكثر من مرة، ومن حكاياتها نعرف أنها عملت بالسواقة بعد موت زوجها، لمواجهة تكاليف المعيشة، وفي البيت نراها وهي تطبخ أو تلاعب أطفال أختها الذين تتكفل بتربيتهم، أو تقف أمام المرآة لتضع لمسة مكياج وتبدي رأيها في أهمية وضع المكياج ولكن"خفيف كده". أثناء وجودنا في البيت نلمح مع الكاميرا بعض الرموز القبطية مثل صليب صغير أو صورة للعذراء، ولولا هذه الرموز الصغيرة ما كان للمشاهد أن يدرك ديانة هذه السيدة، الأمر الذي يؤكد وحدة الثقافة الوطنية ويجعل منها نموذجاً للشخصية المصرية قريباً إلى قلب المشاهد، ويؤكد هذا الحب لهذه الشخصية أقوال جيرانها الذين يعبّرون عن احترامهم وتقديرهم لها عندما تلتقي بهم الكاميرا. البداية والنهاية الفيلم يبدأ بلقطات مع سائقي التاكسي من الرجال، يبدي كل منهم رأيه في عمل المرأة بقيادة التاكسي، يؤيد البعض عملها بشيء من التردد، ويعارض البعض بشيء من الحدة، غير أن تكرار هذه اللقاءات مع سائقي التاكسي، على النمط نفسه في نهاية الفيلم، لم يضف جديداً، وكان من الأجدر التخلص منه، وإن جاء باعتراض أحدهم بعض الطرافة التي تشير إلى الثقافة الذكورية المهووسة بالجنس، عندما يقيم اعتراضه على أساس عدم قدرة المرأة على النزول تحت السيارة لإصلاحها إذا أصابها عطل مفاجئ، وإلا كما يقول"ح يبان كل حاجة"، كما كان من الأفضل اختصار آراء الجيران، وعدم العودة إليها مرة ثانية. ولكن يبقى للفيلم قيمته الحداثية في تقديم نبض الشارع المصري وتقديم الشخصية المصرية اليوم، أو بالتحديد قطاع عريض منها، من منظور عام يتمثل في الشخصيات التي نلتقي بها داخل أو خارج التاكسي، ومن منظور قريب يتمثل في تقديم هذه السيدة النموذج.