بعد ست سنوات على مرور مئوية الكاتب الارجنتيني الكبير بورخيس وبعد عقدين من وفاته، قررت مدبرة منزله،"فاني"أن تدلي بكلمتها. ربما لأن السيدة"ريكته أيبانيا أوفيدا دي روبيلدو"، التي تبلغ اليوم 85 عاماً، لا تريد أن تموت مجهولة، وربما لأنها تعتقد، بأنها تمتلك أسراراً وذكريات حميمة، لا تختلف في قيمتها، عما يكتبه نقاد أو شارحو أعمال"الغامض"بورخيس. ربما لهذه الأسباب أو لغيرها، وافقت"فاني"على نشر مذكراتها، التي حملت عنوان:"السيد بورخيس". إنه أحد هذه الكتب الحميمية القليلة، التي نطقت فيها نساء، كان عليهن مراقبة المشهد الذي يجري امامهن بصمت. لكن ما روته هذه النسوة في النهاية لا يفيض بالدفء وحسب، إنما يقدم الكثير من المعلومات المهمة، التي تقرب جمهور القراء والمعجبين على السواء من عوالم هؤلاء العباقرة، الغامضين في حياتهم وفي موتهم. لم يكن بورخيس الأول في هذا المجال، فقد سبقه فرانز كافكا ومارسيل بروست. ومثلما جعلتنا مربية كافكا، ومدبرة بيت آل بروست، نكتشف أموراً كنا نجهلها عن الاثنين، اللذين ثبتا دعائم فن الرواية في القرن العشرين، عن بروست الإنسان، وكافكا الإنسان، في حياتهما اليومية وفي تعاملهما مع الناس، ومع محيطهما في شكل عام، تفعل هذه المرة مدبرة منزل آل بورخيس الشيء ذاته. فمن طريقها، نتعرف الى بورخيس اليومي، عن لحظات غضبه وسعادته، غيرته وحزنه. فها هو عندما يعرف أن الأكاديمية السويدية تتجاهله، وتمنح جائزة نوبل لغابرييل غارسيا ماركيز، يعلق على الأمر بطريقته اللاذعة:"سابقاً كانت تُمنح جائزة النوبل تقديراً لإنجاز العمل الأدبي"اليوم كما يبدو بدأوا يستخدمونها بصفتها جائزة تشجيعية". بالتأكيد سينظر بورخيس بعين الدهشة، الى التطور الذي حصل للمرأة البسيطة والفطرية، التي لم تقرأ كما تقول كتاباً له على الاطلاق، ولكنها على رغم ذلك، تجرؤ على تأليف كتاب عنه الآن! وتعترف المرأة في كتابها، أنه أمر مغر للكتابة عن السيد بورخيس، خصوصاً أنها امرأة فقيرة، كان عليها أن تُخلي شقة بورخيس الصغيرة التي تقع في قلب العاصمة الأرجنتينية، بوينس آيرس، والتي تركها لها الشاعر بحسب وصيته. فبعد طردها، اضطرت"فاني"، بعد سنوات طويلة من الإقامة هناك، أن تنتقل للعيش في"بوكا"، قريباً من ملعب"لا بونبونيرا"،"المكان الذي يتفجر فيه الصراخ، أكثر مما يحدث في أي ملعب آخر لكرة القدم في بوينس آيرس""وكما تقول، عند كل هدف محتمل، تقترب من حافة الانهيار، حتى أنها تُلقي بنفسها من السرير. ولا تحتاج أن تذكر"فاني"في هذا السياق، بأن بورخيس"لم يخف يوماً اشمئزازه من رياضة كرة القدم"، التي يقدسها معظم الأرجنتينيين. ولم يخف بورخيس ايضاً امتعاضه مما هو شعبي يوماً، والذي كان يعني بالنسبة له"الابتذال". وليس من الغريب إذاً، أن الكاتب الأرجنتيني المثقف جداً، والذي تُرجمت أعماله كلها إلى 33 لغة آخرى، لم يستطع التحول كاتباً"جماهيرياً"، لا في الأرجنتين ولا في أي مكان آخر في العالم، وظلت كتبه محصورة بين النخبة، أو كما شبهها بعضهم، بالكتب الكلاسيكية:"ما هو الكتاب الكلاسيكي؟ انه الكتاب الذي يدعي الجميع قراءته، مع ان أحداً لم يلمسه بيديه!". عندما انتقلت"فاني"، التي كانت امرأة قوية البنية، ضخمة الجسم، إلى الخدمة في بيت"آل بورخيس"، عام 1952، كان"جيورج"كما أحب أن تلفظ اسمه: على الطريقة الإنكليزية، قد انتهى من كتابة معظم كتبه، وكان دخل مرحلة العماء. كما كان حتى ذلك الوقت لا يزال كاتباً مجهولاً في العالم. ولم يختلف الأمر عنه في بلاده. صحيح أن بورخيس لم يكن كاتباً مجهولاً إلى هذا الحد، لكن الوسط الأدبي لم ينظر له نظرة عالية مميزة. وعلى رغم اعتراف الوسط الثقافي بثقافته العالية، إلا أنه ظل في نظرهم كاتباً بسيطاً. ثلاثة أرباع حياته، قضاها بورخيس في هذا الشكل، قبل أن تصله الشهرة، فمن أميركا اللاتينية بالذات، كان العالم يأمل بظهور كتاب غريبي الأطوار"إكزوتيك"، تنبض في شرايينهم بدم الواقعية"السحرية"، قادرين على إنقاذ الرواية كنوع أدبي. على عكس بورخيس، الذي لم ينقصه النفس الروائي الطويل وحسب، إنما كانت تعوزه الرغبة في الالتزام الاجتماعي. أما قصصه القليلة العدد، التي نشرها أحياناً، بصفتها مقالات، فحملت عناوين غريبة مثل:"تولن"،"أوكبار"،"أوربي تيررتويس"، أما الهوامش التي ألحقها بها بصفتها مصادر يستشهد بها، فهي مخترعة بتعمد. الخادمة والسيدة في بداية عملها هناك، لم تكن"فاني"كثيرة الاحتكاك ببورخيس، لأن سيدة البيت حينها، كانت"دونيا ليونور": أمه التي كان لها آنذاك من العمر 80 عاماً. وكانت هذه السيدة التي قاربت 100 عام، عند وفاتها، وعلى مدى 76 عاماً، تقوم بتحقيق الحاجات الشخصية لپ"جيورج"باستثناء الحاجات الجنسية طبعاً. وطوال هذه السنوات خضع بورخيس لسيطرتها ومراقبتها الصارمة. كانت هي التي تختار له بدلاته، ومن غير المهم في أي ساعة يأتي"الولد"متأخراً الى البيت، فهي كانت تنهض من فراشها، لكي تقرأ له ما يعجبه: بالفرنسية أو الإسبانية أو الإنكليزية. نظرة عميقة علاقة الثقة التي جمعت"فاني"بالسيدة العجوز، ساعدتها على امتلاك نظرة عميقة عن حياة خورخه لويس بورخيس. وكانت هي"دونا ليونور"ً، التي علمتها منذ البداية أن تنظر"بالريبة إلى تلك المرأة التي بدأت تلعب دوراً كبيراً في حياة بورخيس في سنوات حياته المتأخرة": ماريا كوداما."وجهها لا يملك ملامح تشير إلى سن معينة، مثل أي وجه آسيوي"، أما هيئتها فهي"طفولية مثل فتاة مراهقة"، فضلاً عن"حديثها المسترسل مثل أي جنوب - أميركي". ماريا كوداما، التي هي في الأصل من عائلة خلاسية تماماً، أمها أوروغوايانية من أصل ألماني - ياباني،"أوصلها قدرها إلى الأرجنتين، لكي تحشر نفسها في أواخر الستينات في صفوف الطالبات اللواتي أحطن بورخيس"، في الفترة التي وصلت شهرته أواسط النخبة، حيث"تحول إيقونة ثقافية"، في هارفارد وأوكسفورد والسوربون."اليابانية""كما سماها بورخيس تحبباً"، التي أصبحت بسرعة قارئة له وسكرتيرة تنظم أعماله، ورفيقة سفر في السنوات الأخيرة، أثارت ريبة السيدة بورخيس منذ البداية، حتى أنها سألتها ذات يوم باستفزاز:"هل وقعت في حب جيورج؟". وعندما ذهبت كوداما، حولت العجوز نظرها إلى فاني، لتقول:"هذا الجلد الأصفر سيستحوذ على كل شيء بمخالبه". صحيح أن"أبيفانيا"إنسانة بسيطة، ولكن كان من النادر، أن يغيب عن نظرها ما هو جوهري. وبعد موت السيدة"المتسلطة"دونا ليونور"عام 1975، ظلت تقيم سنوات طويلة في الشقة الصغيرة، التي لا تزيد مساحتها على 70 متراً مربعاً، مع بورخيس، مبعدة إلى غرفة الخدم، لأن"غرفة الأم كانت بمثابة مزار مقدس له". وفي ما يتعلق بأمور تدبير البيت، لم تلعب ماريا كوداما أي دور، لكنها لعبت الدور الحاسم، بتنظيم علاقته بالعالم الخارجي،"كان من المستحيل الاستغناء عنها". كانت ماريا كوداما، كما تكتب"فاني"في المذكرات، هي"عيناه وخطه"، أما"الكتب فكانت تتحدث معه بصوتها"، لأنها هي التي كانت تقرأ له. تأثيرها البالغ هذا،"لم يسهّل لها الاستحواذ عليه ومراقبته، إنما جعلها تملك السلطة المطلقة على العجوز بورخيس. ونجحت بفصله عن عائلته، بجعله مغترباً عنها"، مثلما نجحت أيضاً بإبعاده عن الكثير من الاصدقاء،"بحسب مزاجها، فهي التي كانت تعلق قرارات المقاطعة!". وتجسدت قمة سيطرتها عندما انتقل الاثنان إلى جنيف عام 1985. صحيح أن"جيورج"أحب هذه المدينة، لأنه زار فيها الثانوية في سنوات الحرب العالمية الأولى، إلا أن هناك شهوداً كثراً"يثقون بأن العجوز الذي كان في السادسة والثمانين لم يخف اعتراضه على هذه الرحلة، لأنه كان خائفاً ألا يعود حياً من هناك". في السنوات الأخيرة"تحالف السرطان والشيخوخة ضده". ولا تخفي"فاني"شكوكها بما حصل لاحقاً، عندما تزوج بورخيس وماريا كوداما من طريق موكلين لهما في باراغواي، وقبل موت بورخيس بثمانية أسابيع. وبحسب اعتقادها، إن أصدقاء الكاتب من محامين وأطباء، استبدلوا في اللحظات الأخيرة بأناس آخرين اختارتهم ماريا كوداما، وهم"جعلوها وارثة وحيدة لبورخيس، من طريق بعض التغييرات التي أجروها على وصيته". وهذا ما يفسر أيضاً، دفن جثمان بورخيس في جنيف، في مقبرة"بلينبالايس". من المخزي حقاً للأرجنتين، أن يرقد جثمان أشهر كتّابها في أرض غريبة. فلويس بورخيس، الذي لم يخف فخره بأجداده الذين قاتلوا في الحرب الأهلية في القرن التاسع عشر، كان في السنوات الأخيرة يطلب من فاني دائماً، أن تقوده إلى مقبرة العائلة في بوينس آيرس: مقبرة"ريكوليتا"، التي هي عادة مقبرة النخبة في الأرجنتين، وكم كان في وده - كما تؤكد فاني - أن يرقد إلى جانب أمه"العنيدة دونا لينور"هناك. ولكن"في جنيف تملك السيدة ماريا كوداما السيد بورخيس لها وحدها"!