انتهى الاستفتاء الشعبي على تعديلات الرئيس حسني مبارك الدستورية بإقرار هذه التعديلات بأكثرية تشبه الأكثريات التي عرفتها الأنظمة الشمولية العربية وغير العربية في الحقبة الماضية كلها. وبانتهاء هذا الاستفتاء، وفي ضوء ما أسفر عنه من نتائج، تكون قد سقطت بعض الأوهام التي كادت تستولي على أفكار ومشاعر وأحلام بعض المصريين، بمن فيهم بعض القيادات السياسية والنخب الثقافية، بإمكان تحقيق التغيير في مصر في الشروط الراهنة. وعادت مصر الى نظامها الشمولي القديم، بتنويعاته المختلفة، - وهي لم تخرج منه - في ما يشبه"الاستقرار"الذي يستمر منذ أكثر من نصف قرن، على قاعدة القوانين الاستثنائية التي تغيب ارادة الناس، وتستلب وعي الأكثرية بوسائل شتى، وتتحكم بمصائر البلاد، بالنيابة عن الشعب كله وعن قياداته ونخبه ومثقفيه. نقول النظام القديم، من دون أن نغامر أو نتعسف في الجزم بأن سلطات ذلك النظام كانت، خلال نصف القرن الذي مضى - وهي جميعها سلطات فردية بامتياز - من الطبيعة ذاتها في الشكل وفي المضمون، وفي المواقف وفي الاجراءات، وفي العلاقات مع الشعب وفي الاهتمام بقضاياه الاقتصادية والاجتماعية وبقضايا البلاد الوطنية. كلا. فإن مثل تلك المغامرة في التعسف انما تسيء الى تاريخ تلك الحقبة والى شخصية الرئيس جمال عبدالناصر تحديداً والى مواقفه والى انجازاته، على رغم كل ما ارتبط بعهده، في المراحل الأولى خصوصاً، من سياسات استبدت بحقوق المواطنين في حرياتهم، من دون أن تستثني رموزاً كبيرة من النخب السياسية والثقافية. واقعة الاستفتاء، وما رافقها من ضغط على ارادة الناخبين، كشفت جوهر التعديلات الدستورية، وكشفت الهدف الأساسي من فرض اقرارها بكل الوسائل، في مجلس الشعب أولاً، ثم باستفتاء! الشعب ذاته. وكان واضحاً مما ورد في مواقف أحزاب المعارضة ان الغاية من هذه التعديلات ليس الاصلاح قط، بل التجميل الشكلي للنظام، التجميل الذي يوفر الشروط لاستمراره، وإن بصيغ وبأسماء جديدة، بما في ذلك في التوريث كما هو قائم اليوم في أكثر من بلد عربي، ذات الأنظمة الجمهورية على وجه التحديد. وكانت مصر شهدت في العامين الماضيين زوبعة كبيرة حول الاصلاح الديموقراطي أدخلتها في ما صار يعرف بربيع الاصلاح، على غرار ما حصل في سورية. وظل هذا الربيع في سورية يواجه بالقمع الى ان تلاشى، أو كاد. وانخرطت في الزوبعة المصرية للاصلاح كل أحزاب المعارضة وجمعيات ثقافية وسياسية ونقابية كانت أبرز تعبيراتها حركة كفاية. وكانت حركة الاخوان المسلمين من أكثر هذه الهيئات والتجمعات حضوراً وسط الجماهير. وكان للمثقفين دور بارز في هذه الحركة تجلّى في عقد مؤتمرات عدة، اثنان منها في مكتبة الاسكندرية برعاية حكومية، وواحد تولى المجلس الأعلى للثقافة تنظيمه. وشارك في هذه المؤتمرات، تحت عنوان الاصلاح الديموقراطي والتغيير، عدد كبير من المثقفين المصريين الى جانب كثر من المثقفين العرب. وكان من أكثر ما لفت النظر خلال تلك الفترة اظهار أهل الحكم أنفسهم كدعاة تغيير واصلاح. وتمثل ذلك بفتح باب الحوار مع أحزاب المعارضة على قاعدة الرغبة في الاصلاح، وصولاً الى اعلان التعديلات الدستورية، التي جرى الاستفتاء عليها، على رغم المقاطعة الحزبية والشعبية، وعلى رغم تظاهرات الاعتراض عليها. وكان مؤتمر مكتبة الاسكندرية بالذات، الذي افتتحه الرئيس حسني مبارك بخطاب كثر فيه الكلام عن الديموقراطية، واحداً من تلك المحاولات من جانب أهل النظام لايهام المصريين بأن ثمة رغبة رئاسية حقيقية في احداث اصلاح ديموقراطي في البلاد. وكنا من بين المثقفين العرب الذين شاركوا في المؤتمر، ليس بوهم أن التغيير ممكن من موقع أهل النظام وبقرار ذاتي منهم، بل بدافع الاسهام مع المثقفين المصريين في رفع الصوت، حتى من هذا الواقع بالذات، بضرورة اجراء التغيير والضغط على أهل النظام للقيام باجراءات في هذا الاتجاه. غير ان عدداً غير قليل من المثقفين المصريين والعرب، ممن شاركوا في ذلك المؤتمر، اعتبر ان المهمة الأساسية للمثقف الديموقراطي هي اعلان موقف اعتراضي حازم ضد زيف الشعارات الأميركية الداعية للاصلاح الديموقراطي في بلداننا. فأصدر هؤلاء المثقفون بياناً يدين الامبريالية في مواقفها من بلداننا، في الماضي الاستعماري البعيد، وفي الحاضر الذي تتخذ فيه الامبريالية الحديثة صيغة عولمة رأسمالية متوحشة. وأهملوا ضرورة التركيز على المعركة في الداخل من أجل التغيير، ولو تدريجاً، وعلى مراحل، بدلاً من الهروب الى الخارج في معركة طويلة، لنا شركاء كثيرون فيها على الصعيد العالمي. وكنا نخشى من أن تقود مثل تلك السياسة الى مساومة بين الادارة الأميركية وأهل النظام في مصر. وكتبنا حول ذلك، وأكثرنا من التحذير. وحصل بالفعل ما كنا نخشاه. وجاء ذلك في اعلان الولاياتالمتحدة الأميركية تأييدها للتعديلات الدستورية التي اقترحها الرئيس حسني مبارك باعتبارها تصب في ما يدعو إليه الرئيس الأميركي بوش من إصلاحات ديموقراطية في العالم العربي، المحكوم بأنظمة استبدادية تتحكم بمصائر بلدانه منذ عقود طويلة! يقودنا هذا الواقع المؤلم الى ما كنا واجهناه في احاديثنا مع جمهور كبير من المثقفين المصريين ومن بعض العاملين في الحقل السياسي، في اعقاب انتفاضة الاستقلال في لبنان التي شارك فيها ما يزيد على مليون لبناني، استنكاراً لاغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري واعتراضاً على التمديد غير الدستوري لرئيس الجمهورية الحالي العماد اميل لحود لولاية جديدة، ومطالبة القوات السورية بالخروج من لبنان تحريراً لهذا البلد من وصاية لا مبرر لها، ومن نظام امني دمّر حياة الناس وعطّل كل مقومات الاستقلال والسيادة والحرية، وأدخل البلاد في دوامة الفساد والتخلف والانقسامات الطائفية والأزمات المتعددة الوجوه والجوانب. كان يواجهنا نفر من اصدقائنا المصريين بالشك والتشكيك بالحركة الشعبية، معتبرين ان هذه الحركة في الظروف التي تتم فيها انما تصب في خدمة الأهداف الأميركية في لبنان وفي المنطقة، بما في ذلك في سورية، كما لو ان المطلوب، باسم النضال ضد الامبريالية الأميركية, هو إبقاء سورية في لبنان، بالطريقة القديمة ذاتها، من اجل ان يبقى لبنان وحده، بديلاً من البلدان العربية كلها وبالنيابة عنها، ساحة الصراع الرئيسة مع اسرائيل، لتحرير الجولان من الاحتلال ولإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة على ارض فلسطين! ولم يأخذ بعض هؤلاء الأصدقاء في الاعتبار ان لبنان هو البلد العربي الوحيد الذي حرر ارضه بالنضال بكل اشكاله وبتضحيات جسيمة دامت اكثر من نصف قرن. كما لم يأخذوا في الاعتبار ان معركتنا في لبنان من اجل الحرية وانتصارنا فيها يخدمان المعركة ذاتها التي يخوضونها. لسنا بالطبع، من الذين تقودهم صعوبات النضال ونكساته الى اليأس. بل كنا، ولا نزال، ممن يعتبرون ان النضال من اجل الحرية والتقدم والعدالة الاجتماعية هو نضال لا ينتهي، وأن اشكاله وأدواته ومضامينه تختلف باختلاف الظروف والشروط التاريخية. ولذلك فهو مهمة مطروحة دائماً على جدول اعمال حركة التاريخ، التي تحتاج دائماً الى قوى تمسك بها وتقودها بوعي وبإرادة كفاحية الى نهايات كل مرحلة من المراحل، وكل حقبة من الحقبات. ونحن على ثقة بأن شعب مصر سيتغلب، ولو في زمن بعيد - علماً ان المسافات الزمنية اصبحت إليهم اقصر بكثير مما كانت عليه سابقاً - لكي يحقق حريته وتقدمه. ربيع دمشق، وربيع القاهرة، وربيع لبنان الذي جاء في موسم الشتاء، والربيع الذي سيولد في بلدان عربية اخرى، هذا الربيع هنا وهناك وهنالك هو الذي سينتصر غداً او بعد غد. ولا بد من الاستمرار في النضال لتحقيق هذا الانتصار في اقرب زمن ممكن. لكن ما نخشاه هو ان تدخل مصر، في ظل الأزمنة الراهنة وبسببها، في دوامة ما كانت قد وقعت فيها عشية ثورة تموز يوليو في مطلع خمسينات القرن الماضي. وكان حريق القاهرة ابشع صوره. ولسنا، نحن الديموقراطيين العرب وليس سوانا من اصدقائنا الديموقراطيين في البلدان الأخرى، في موقع القدرة على تقديم الإجابات او مشاريع الإجابات عن الأسئلة الكثيرة التي تطرح اليوم داخل مصر على لسان قواها الحية، حول المستقبل الذي تتجه إليه مصر في الأيام المقبلة، عشية الانتخابات الرئاسية المقبلة، وما بعدها. لكننا لا نرى، في ضوء ما تشهده مصر حالياً من تطورات مملوءة باحتمالات التغيير، ان الانتخابات هي التي ستقرر مستقبل هذا البلد العربي الكبير. وفي أي حال فإن المصريين هم ادرى بما يمكن ان يحصل، وبما يمكن ان يفعلوه، الآن وغداً وبعد غد. وإن غداً لناظره قريب! وإذا كان يحق لنا، كمواطنين عرب، وكديموقراطيين وكدعاة إصلاح وتغيير، ان نبدي رأينا، من خارج ساحة الصراع، في ما يمكن ان تقوم به قوى المعارضة والاعتراض من احزاب وجمعيات اهلية ومثقفين، في مرحلة ما بعد الاستفتاء، فإننا نسمح لأنفسنا بأن نعلن ما يأتي: اولاً، اذا كان لمقاطعة الاستفتاء من وظيفة تبررها، على رغم كونها عملاً سلبياً، فإن مقاطعة الانتخابات غداً ربما تكون، من وجهة نظرنا، عملاً سلبياً غير مبرر وغير ذي جدوى، إلا اذا كان ما يطرح من أشكال اعتراض يمكن ان يقود الى الهدف المبتغى، نعني الإصلاح والتغيير. وانطلاقاً من التجارب القديمة والحديثة - وقد نكون مخطئين في تقديراتنا -نقترح على المعارضة ان تخوض تلك الانتخابات، إذا ما هي قررت ذلك، بقوة وبنشاط استثنائيين. ثانياً، لكننا نعتقد بأن خوض الانتخابات في الشروط الراهنة سيتطلب الاتفاق على برنامج سياسي واضح بمحتواه الديموقراطي. وأهمية هذا البرنامج هو ان يكون البرنامج الموحد لقوى المعارضة والاعتراض، وأن يكون ثمرة نقاش وحوار بين هذه القوى جميعها، وان تجهد القوى التي تتبناه بكل ما تملك من إمكانات لإقناع الجماهير المصرية بجديته وبجدواه وبأنه يعبّر تعبيراً حقيقياً عن مصالحها. ثالثاً، غير ان شرط النجاح في هذه المعركة على قاعدة هذا البرنامج الموحد هو ان تخاض الانتخابات بمرشح واحد يملك مواصفات عدة في ماضيه وفي حاضره، في سلوكه السياسي والشخصي، وفي علاقاته مع الناس جميعاً، وفي صدقيته، وفي ديموقراطيته. وثمة تجارب ناجحة مرت بها حركات معارضة في بلدان اخرى، من خارج منطقتنا. رابعاً، ولعلنا لا نبالغ، او لا نغاير الحقيقة، ولا نتعسف، اذا ما نحن اقترحنا على المعارضة لخوض معركة مشرفة، وكسب تأييد شعبي، والحصول على اصوات كثيرة، ان يكون الشخص المقترح لهذه المهمة هو خالد محيي الدين، على رغم تقدمه بالعمر -امد الله بعمره - وذلك بالنظر لتمتعه بكل ما اشرنا إليه من مواصفات. يكفيه فخراً أنه، وهو احد اركان الضباط الأحرار وأحد اعضاء مجلس قيادة ثورة يوليو، قد اقصي من موقعه بسبب إصراره على موقفه الديموقراطي داخل ثورة يوليو. ثم انه حين بادر الى تشكيل حزب التجمع، فإنه قد اختار صيغة غير مسبوقة في تجميع القوى المختلفة حول برنامج ديموقراطي جديد. ولا نظنه مسؤولاً، او مسؤولاً لوحده، عن كون حزب التجمع لم يتابع مسيرته في الشروط ذاتها التي كانت في اساس قيامه، والتي رافقت اندفاعاته الأولى في اعقاب مرحلة التأسيس. وهو نقد لا يقلل من الدور الذي يضطلع به هذا الحزب الديموقراطي العريق مع احزاب المعارضة الأخرى في معركة الإصلاح والتجديد والتغيير الديموقراطي التي تشكل جوهر المعركة السياسية في هذه المرحلة التاريخية من حياة مصر. طموحنا المشروع والتاريخي، نحن اشقاء مصر، هو ان يستعيد هذا البلد العربي الكبير دوره الريادي القديم في عالمنا العربي المضطرب، الذي تسود فيه انظمة استبداد لا تتبدل ولا تغيير، تناقض في صيغها كل ما يشهده عالمنا المعاصر من تحولات في كل الاتجاهات. * كاتب لبناني.