تتهيأ فرنسا للاقتراع على الاستفتاء المقرر إجراؤه في التاسع والعشرين من الشهر الحالي، والذي يدور حول قبول، أو رفض، مشروع الدستور الأوروبي. وإذا كانت نتيجة هذا الاستفتاء غير واضحة حتى اليوم، بحكم نتائج الاستقصاءات المتضاربة، ولو ان مؤيدي القبول بدأوا يشعرون بعودة الأمل اليهم، فالمؤكد ان هذا النص القانوني كان، لولا كل هذه الضوضاء، ليستقطب نسبة منخفضة من الناخبين والانتخابات الفرنسية في السنوات الأخيرة فاجأت لجهة عدم شغف الناخبين بها، اذ ان عدد المقبلين وصل أحياناً الى 30 في المئة. على أية حال، اليوم غدا الدستور حديث الجميع والخط الأحمر الذي يقسم الشعب الفرنسي الى فئتين: فلا يمضي يوم إلا وتبدو صفحات الصحف الفرنسية مخصصة للنقاش حول مسودته، ولا تمضي ليلة إلا ومحطات التلفزيون تتجند لحوارات ساخنة وحارة حول هذا المشروع. وفي أقل من اسبوعين دخل جاك شيراك مرتين الحلبة الاعلامية، عبر برنامجين تلفزيونيين ليفسر وجهة نظره حول ضرورة تأييد هذا الدستور، كذلك خصصت الدولة الفرنسية ميزانية تجاوزت مئة مليون دولار لطباعة نصه وتوزيعه على كل الشعب الفرنسي. صحيفة"لوموند"أصدرت هذا الاسبوع عدداً خاصاً هو تفسير"تربوي"لمختلف وجهات النظر: القبول والرفض من وجهتي اليمين واليسار وتحليل الصحيفة للمواقف الأربعة، اضف الى ذلك النقاشات على مواقع الانترنت الفرنسية، وما لا يقل عن سبعة كتب حول مشروع الدستور الاوروبي... والاسباب التي تحمل الفرنسيين على التصويت ب"لا" عديدة ومتضاربة، وغالباً ما لا يكون لها علاقة بمشرع الدستور، بقدر ما تكون رفضاً لسياسة الحكومة الفرنسية الحالية. لكن الذي يجمع هذه الحشود القادمة من أقصى اليسار الى أقصى اليمين، هو هذا الرفض الذي خلناه يوماً عربياً لرؤية الحقائق. جرعة من الرومنطيقية السياسية وجرعة من بقايا راديكالية ماركسية كافيتان لإلغاء الواقع الدولي للشعب الفرنسي. البطالة، نقل أدوات الانتاج الى الدول الفقيرة، وصول نمور آسيا الى الأسواق الأوروبية... لا أحد يريد ان يراها لأن توجيه التهم لمجتمع المحتكرين وارباب العمل أسهل من فهم الدورة الاقتصادية. ذرائع مؤيدي الرفض يدخل فيها الشحن العاطفي وصورة مثالية لفرنسا التي تعبث بها أوروبا. لا أحد يريد ان يرى كيف أن اليورو حمى الاقتصاد الفرنسي، أو كيف أن محكمة حقوق الانسان الأوروبية هي المرجع الذي يحد كل حكم جائر يصدر عن المحاكم الفرنسية، وكثيراً ما ينتهي النقاش بصرخة وجدانية حملت أحد العرب على القول:"تركت بيروت لباريس، وأنا أجد نفسي اليوم في أسيوط...". ففرنسا هي اليوم البلد الوحيد في العالم المتقدم الذي تكاد اغلبيته تتشكّل من جمع لليسار المتطرف واليمين المتطرف اللذين أخذا يستقطبان جماهير الحزبين الاشتراكي والديغولي... لا أحد يريد ان يرى ما يمكن ان يقوله شيراك لزملائه في بروكسيل في اليوم التالي للاستفتاء، إذا كان حزب رفض الدستور هو المنتصر: هل سيطالب بدستور يمنع تسريح العاملين، ونقل أدوات الانتاج خارج الدول الأوروبية، ارضاء للرفض اليساري، أم انه سيطالب بطرد المهاجرين وتقوية سيادة الدول على حساب الاتحاد الاوروبي، تلبية للرفض اليميني؟ هل سيطالب بإلغاء أي اعتبار للروحانية ليفرح التروتسكيين، أم يعمل على تكريس المسيحية الكاثوليكية في الدستور ليبهج الأصوليين المسيحيين؟ وإذا كانت صورة فرنسا، بجالياتها وتاريخها وافكارها الثورية الرومنطقية، لا تزال تستهوي القلوب وتستقطب ملايين السياح في كل المواسم، إلا انه قلما نجد في العالم، شعباً مكروهاً كالشعب الفرنسي: عرب فرنسا، لأنهم يعيشون مرارة العنصرية بشكل يومي... يهود فرنسا لأن تاريخ الفرنسيين حافل بالعداء للسامية ولأن سياسة فرنسا معادية لاسرائيل، كما يدعون... الأتراك، لأن اللا الفرنسية للدستور تظهر لهم مجرد تعبير عن رفض الشعب الفرنسي الهستيري لدخول تركيا الاتحاد الأوروبي، هذا على الأقل ما يظهر في الاعلام التركي بشكل واضح... الافارقة، لأنه بعد مرور أربعين سنة على الاستقلالات، ونهاية فترة الاستعمار، ما زال الفرنسيون في عدد من الدول يحكمون وينهبون ثروات القارة السوداء. أميركا، لأن الفرنسيين على عكس سائر الأوروبيين يرفضون الاقرار بسيطرتها ويحاولون دوماً مزاحمتها دون الوصول لأية نتيجة... وأخيراً، الاوروبيون الذين سئموا ولد أوروبا المشاغب، ورجل أوروبا المريض، الذي رغم تراجعه في مختلف الميادين، ما زال يلقي المواعظ ويتغطرس، ويطالب بامتيازات شتى لاقتصاده وخدماته وزراعته ولغته الخ... لكن الفرنسيين قلما يشعرون بكل هذا السخط عليهم. فهم يجمعون اليوم"المجد من أطرافه": ما يظنون انه السيادة وما يُخيل لهم انه العدالة الاجتماعية. الحزب الشيوعي واليمين المتطرف في نفس الخدق تماماً، كالاسلاميين والماركسيين العرب...