يبدو أن مطلب التغيير الديموقراطي في سورية أصبح مسلمة لا يختلف أحد على مشروعيتها وراهنيتها، ويتضح مع استمرار تسويف السلطة وممانعتها للإصلاحات، وأن شرط الإنجاز يحتاج إلى معارضة ديموقراطية قادرة على انتزاع ثقة المجتمع وعلى استنباط المهمات المناسبة لتعديل ميزان القوى في مصلحة التغيير. فما هي حال القوى السياسية التي تقف اليوم في صف المعارضة وما الأسباب التي تحول بينها وبين هذا الدور؟! أولاً، إن الطابع الشمولي للسلطة، وسيطرتها لعقود متوالية على مختلف تفاصيل الحياة، ورفضها القاطع لوجود أي مستوى من الاعتراض على سياساتها تحت طائلة الاعتقال والسجن المديد، عكس نفسه بقوة على بنية المعارضة السورية ودورها، لنجدها ضعيفة ومترددة، أسيرة الخوف والتحسب من طرح جديد أفكارها واجتهاداتها السياسية، لا يزال بعضها يصوغ مواقفه بدلالة ما يحتمل أن تكون عليه ردود أفعال السلطة وليس تبعاً لحاجات المجتمع ومتطلبات تطوره، فيطل برأسه كلما ارتخت قبضة النظام، ويرجع القهقرى، ما أن يستشعر احتمال التشدد. في حين اختار بعضها الآخر سياسة المهادنة والمناورة، أو العمل "بذكاء وحربقة", كما يحلو له وصف ما يفعله، لتصدير خطاب نقدي خجول أو "مغربل جيداً" يمكن أن يقيه شر القمع العاري والصريح. بينما لم يخف البعض الثالث هدفه المتواضع في الحصول على جزء من كعكة السلطة، يعتقد بأنه أحق من غيره بها!! ثانياً، ان الفصائل الأهم في المعارضة السورية خرجت الى العمل السياسي العلني من سراديب العمل السري أو غياهب السجون، وما يعنيه ذلك من نمو مشوه ترك أثاره السلبية والعميقة على صحة أحوالها وورثها حزمة من الأمراض لا تزال تربك دورها وتحد من فاعليته. وهنا لا نقصد نشر الغسيل الوسخ، بل الوقوف موقفاً نقدياً يدعو للتجاوز، عند الإشارة الى غياب التقاليد والقواعد الديموقراطية وإلى استمرار روح التنافس المرضي بين صفوف قوى المعارضة، والى وجود من لا يزال يدعي ملكيته "الحق التاريخي" في الزعامة والريادة، أو من تحكم سلوكه الحسابات الذاتية والمصالح الحزبية الضيقة، أو لا يخجل من استخدام وسائل بيروقراطية وفوقية، أو سلطوية إن صح التعبير، يعيبها على غيره، في تعامله مع الرأي المختلف. ثالثاً، صحيح ان القوى السياسية التي تحتل موضوعياً الجسم الرئيس للمعارضة السورية، هي خليط غير متجانس ينحدر من منابت أيديولوجية وسياسية شديدة التنوع، وصحيح أن التطورات العالمية شجعتها، مع حفظ الفوارق بين هذا الفصيل أو ذاك، على تعديل برامجها ومواقفها ودفع النضال الديموقراطي إلى المرتبة الأولى من سلم اهتماماتها، لكن الصحيح أيضاً أن معظمها لا يزال عملياً عاجزاً عن التحرر، إن لم نقل متردداً في نفض يده من ثوابت إيديولوجية وفكرية عفّى عليها الزمن وغدت تتناقض مع جوهر الفكر الديموقراطي وروحه، كما لا يزال دوره ضعيفاً في بناء ثقافة الديموقراطية ونشرها، بصفتها مجازاً ثقافة المعارضة، التي افتقدها المجتمع لزمن طويل. ولا تغير من شيوع هذه الحقيقة الخطوة التي خطاها الحزب الشيوعي السوري جناح رياض الترك بتغيير اسمه الى حزب الشعب الديموقراطي إيذاناً بالانفكاك عن الثوابت الإيديولوجية التي حكمت نشأته، ثم التحول الجديد نحو الديمقراطية لجماعة الأخوان المسلمين والذي طاول معظم مستويات العمل السياسي، أهدافاً وآليات ووسائل، وأيضاً التراجع اللافت للحسابات القومية عند معظم الأحزاب الكردية السورية وتقدم همومها الوطنية ومهماتها الديموقراطية بعد انتخاب جلال طالباني رئيساً للعراق. رابعاً، أن الوحدة الموضوعية على هدف التغيير الديموقراطي، لا تخفي، أبداً، الواقع المشتت فكرياً لقوى المعارضة السورية، وغالباً إخفاقها في توحيد إيقاع ممارساتها السياسية، ولعل الإشكالية الأهم التي لا تزال تؤثر بمواقف هذه المعارضة وتصوغ اصطفافاتها هي علاقة الداخل والخارج في عملية التغيير الديموقراطي، وقد ظهر للعيان مدى عجز الفكر المعارض عن إحداث قطيعة معرفية مع أفكار الماضي وتصوراته الإيديولوجية، بخاصة لجهة تأخره في قراءة جديد العلاقة بين الوطني وبين الإقليمي والعالمي. فعلى رغم مرور زمن غير قصير على انهيارات الدول الاشتراكية وما خلفته من دروس وعلى ثورة الاتصالات وتعزز مكانة العولمة الاقتصادية وانتشارها في حقول السياسة والثقافة، ثمة من لا يأخذ في الاعتبار المعنى الحقيقي للقول إن العالم أصبح قرية صغيرة ويستمر في الترويج لأوهام الماضي عن السيادة والاستقلال كصورة من صور الانعزال التام عن الغرب الرأسمالي، متوهماً أنه يتمكن برؤيته الأيديولوجية من بناء أسوار حديد يتحصن خلفها. الحقيقة أن العلاقة بين الداخل والخارج أخذت أبعاداً جديدة بعد التحولات الكبرى التي عرفتها البشرية في العقدين المنصرمين فبقدر ما ازداد حجم انتقال السلع والناس والرساميل والتقانة والمعلومات وتحررت الثقافة والأفكار من العبء الأيديولوجي بقدر ما اختصرت المسافات وضعفت الحدود والموانع الذاتية بين الدول، ليتحول العالم من غلبة منطق الخصوصية والسيادة إلى غلبة المنطق الكوني العام وتفاعلاته، ولتحتل العوامل العالمية أسبقية ملموسة في تقرير نتائج الأزمات الإقليمية والصراعات الوطنية، وبات سير الأحداث ونتائجها يتوقف إلى درجة كبيرة على مدى حضور الإرادة العالمية وطابع قراراتها. حتى ذهب البعض إلى اعتبار ما يحدث من تطور في شبكات الاتصال والتفاعل الكثيف بين المجتمعات يسير نحو إلغاء حدود الدول ويؤدي إلى ظهور مجتمع عالمي واحد، لعل أحد تجلياته بروز تيارات سياسية تنادي بواجب التعاون العالمي لردع أسباب الاضطهاد أينما كانت، ونصرة المشروع القيمي الإنساني العام. ان ضعف المعارضة السورية وحضور قراءات مشوهة أيديولوجياً لعلاقة المسألتين الوطنية والديموقراطية أكرهها على الوقوف أمام خياري قوة، السلطة أو الأميركيين، وطالما من الصعب الاستقواء بمشاريع واشنطن للإصلاح بعد احتلال العراق وفي ظل السياسات الأميركية المنحازة ضد الحقوق العربية المشروعة، كان السائد والحال القائمة هو مناشدة السلطة وتكرار المناشدة دون ملل أو كلل من أجل التغيير، بل تذاكى بعض المعارضين السوريين في التهويل من خطر المشاريع الخارجية بصفتها ضررا عاماً سيلحق بالجميع لعلها تخيف السلطة وتقنعها كي تحث الخطا للسير في عملية الإصلاح السياسي. خامساً، مع الأخذ في الاعتبار الهامش المحدود لنشاط المعارضة في بحر السنوات القليلة المنصرمة، ونجاحها مراراً في النزول الى الشارع وتكرار اعتصامات رمزية وتجمعات احتجاجية محدودة، فهي لا تزال عاجزة عن التواصل والتفاعل مع القطاعات الاجتماعية المختلفة وبصورة خاصة الأوساط الشبابية صاحبة المصلحة الأعمق في التغيير الديموقراطي، ويبدو إن فصائلها لا تزال تفتقر عموماً الى طرائق ناجعة تعيد إحياء وعي المواطن ودوره، ولنقل الى آليات تحرره من الخوف وتساعده على تجاوز روح السلبية واللامبالاة. ومثل هذا الأمر ربما يرجع الى سبب مزدوج، فمن جهة نجاح السلطة في خلق هوة كبيرة بين الناس والسياسة يصعب ردمها بسرعة، ومن جهة ثانية حضور أزمة من الثقة بين فصائل المعارضة وجمهرة المواطنين خلقتها أسباب تاريخية متنوعة لم يُصر الى معالجتها أو على الأقل التخفيف من أثارها. أخيراً، يجب الاعتراف بصراحة وجرأة، ان قوى المعارضة السورية وإن ظهرت على السطح، ليس بفعل قوتها ووزنها وعزم حضورها، بل لملء الحيز الذي تركه النظام في سياق إعادة صوغ علاقاته، كسلطة مع المجتمع ومع العالم فإنها اليوم صارت واقعاً جديداً، وصار في الإمكان الحديث، بصوت مسموع عن قوى معارضة في سورية، بدأت على رغم ما يعتريها من أمراض وعلى رغم ضعفها ومحدودية دورها وتأثيرها، تشكل موضوعياً رد الفعل السياسي الطبيعي على واقع الحياة الشمولي والأحادي الذي عرفته البلاد خلال عقود، بل صار يشار إليها بالبنان بأنها صاحبة مبادئ التعددية وحرية الرأي والتعبير واحترام حقوق الانسان، وربما لن تتأخر في نفض الغبار عن دورها وتصحيح التشوهات التي تكتنف خطابها السياسي وآليات ممارساتها بما يجعلها الرقم الفاعل في الراهن السوري ومستقبل تطوره الديموقراطي. * كاتب سوري.