قبل أعوام ولمناسبة عرض فيلم "الوعد" للأخوين داردين في مهرجان "كان" السينمائي، ظهر أول مقال مميز عنهما في صحيفة فرنسية، يصف مسارهما وعلاقتهما الفنية. كانت الصحيفة "ليبراسيون"، أما المقال فحمل توقيع فلورانس أوبيناس، الصحافية في تلك الصحيفة. والتي عمت شهرتها العالم كله خلال الشهور الأخيرة، ليس بسبب ذلك المقال، بل لأنها مخطوفة منذ بدايات هذا العام في العراق. ومن هنا لم يدهش أحد حين أعلن الأخوان داردين في الحفل الاختتامي لدورة "كان" الأخيرة، إذ فازا بالسعفة الذهب عن فيلمهما "الطفل" انهما يهديان الجائزة الى فلورانس ومرافقها العراقي - المخطوف معها - حسين حنون. والحال ان التصفيق الذي علا لحظتئذ، كان أشد صخباً من أي تصفيق علا لتحية الفيلم الفائز نفسه. إذ حتى ولو كان "الطفل" عملاً جيداً... فإن أحداً لم يكن ليتصور انه قادر على انتزاع الجائزة الأكبر من أفلام متنافسة أتى كل منها يشكل تحفة فنية في حد ذاته، من "زهور محطمة" الى "ماندرلاي"، ومن "خفيّ" الى "ثلاثة أشياء" مروراً بأفلام آتوم اغويان ودافيد كروننبرغ... "الطفل" كفيلم، لا يخرج عن خط السينما البؤسوية التي يحققها الاخوان البلجيكيان منذ سنوات، وكانت وصلت الى ذروتها مع "الوعد" و"روزيتا"، سينما تسير على نمط الواقعية الجديدة الايطالية في الخمسينات، وتحذو حذو سينما البؤس الانكليزية التي تألق فيها كين لوتش ويطل عليها غيره من مبدعي خيبة الطبقة العاملة ومصيرها المرّ في بلاد صاحبة الجلالة البريطانية. لكننا هنا لسنا في بريطانيا ولا في ايطاليا، بل نحن في بلجيكا وفي إحدى ضواحي مدينة لياج، حيث يقطن ويعمل الاخوان داردين نفسيهما. وبالتالي حيث يعرفان عالم المهمشين معرفة تامة. وهما يطلان وسط هذا العالم على الشاب برونو وصديقته صونيا وابنهما الوليد لتوه. وهذا الطفل هو محور الفيلم، حيث ان امه تلده قبل بداية الفيلم ثم تروح باحثة عن صديقها برونو، أبيه لتخبره بالأمر وتطلب منه الاعتراف بطفلها. برونو هامشي ولا مبال، لكنه ليس شريراً ... انه كما نكتشف بسرعة يتسول ليعيش ويسرق ويهرّب... يمارس كل "المهن" التي بات يسندها مجتمع الوفرة لأمثاله المتروكين من دون أمل. وبرونو، مع عصابة من رفاقه يبيع بعض الأشياء التي يسرقها، ليعيش حياة يومية غامضة. وهو إذ يدرك ان له طفلاً ويعترف به، يقوم وبكل براءة، وفي غفلة من الأم ببيعه لعصابة تريد بدورها بيعه لمن يريدون التبني. طبعاً هذا الحادث في حد ذاته لا يهم كثيراً... لأن برونو سيسترد الطفل وسينتهي الأمر به الى السجن، والى استعادة صونيا له، وسط شلال من الدموع. إن ما يهم هنا هو الاسلوب الحيوي الذي به صور هذان الفنانان البلجيكيان الملتزمان، اجتماعياً إن لم يكن سياسياً، هذا العالم الغريب والمتفاقم في انتشاره، ولا سيما في "العالم الرأسمالي" كما يقولان: عالم البؤساء. لكننا لسنا هنا أمام بؤساء من النوع الذي كانت "الواقعية الاشتراكية" تصوره: عالم بؤساء يقاومون. الشخصيات هنا لا تقاوم... إنها تعيش هكذا، وربما غير دارية ان ثمة إمكاناً للوصول الى ما هو أفضل. شخصيات تعيش يومها وتدبر يومها. وهي حين تقترف الشر، لا تدرك انه شر... هذا هو العالم الذي يصوره جان - بيار ولوك داردين كما هو من دون زينة... من دون أمل... من دون تطور. عالم ما آلت اليه العولمة، في رأيهما، وما تعدنا به أكثر وأكثر. ولعل هذا، زائداً التحية الى المخطوفين في العراق... هما ما أثار الإعجاب وجعل الصحافة الفرانكوفونية على الأقل تحيي منذ صباح اليوم التالي، ذلك الفوز المبين، لأخوين هما من بين آخر من يعتقدون حتى الآن ان في وسع السينما ان تغير من أوضاع البؤس في هذا العالم.