سيكون على الزعيم العمالي البريطاني توني بلير الذي فاز حزبه في الانتخابات للمرة الثالثة على التوالي، إخلاء الساحة لوزير الخزانة جوردن براون اذا أراد بالفعل الحفاظ على المكتسبات التي حققها حزب العمال. هذا ما أجمعت عليه كبريات الصحف البريطانية يوم السبت الماضي. وقد عزت الإنجازات الاقتصادية التي حققها حزب العمال في الحكم خلال الولايتين السابقتين الى براون، فيما اثقل على الحزب التحاق زعيمه بالرئيس الاميركي جورج دبليو بوش في حربه على العراق مع كل الأراجيف التي سوقاها معاً ولم يتأكد منها إلا المؤكد عن طغيان صدام حسين وبطشه. اعترف بلير، إنما بعد إعلان نتائج الانتخابات النهائية، بان"مسألة العراق قسمت البلاد"، لكنه ماض كما يبدو إلى ولايته الثالثة رئيساً للوزراء بدعم من الوضع الاقتصادي حين أضاف تعهداً لما صرح به بانه سيعتمد"برنامجاً جذرياً لإصلاحات في الصحة والتعليم". وذكر أولوياته على الساحة الدولية هي"مكافحة الفقر في أفريقيا"، إلى تعهدات اخرى. ما هي الفرص المتاحة لبلير اقتصادياً؟ وماذا عن احتمالات تخليه عن الحكم لبراون الرجل الثاني القوي في حزب العمال؟ ان النتائج الاقتصادية التي حققها حزب العمال في ولايتين سابقتين ستمكن بلير بلا شك من استثمارها رصيداً للانطلاق في السنة الأولى من الولاية الثالثة. فالناتج المحلي الإجمالي في بريطانيا سجل في سنة 2004 نحو 3.1 في المئة. وكان أعلى مما سجله الناتج في كل من المانياوفرنسا الدولتين المنافستين في الاتحاد الأوروبي، إذ بلغ 2.4 في المئة و1.7 في المئة على التوالي. والاهم أن معدل التضخم في بريطانيا بلغ وسطياً 1.2 في المئة لقاء 2.1 في المئة و1.8 في المئة في فرنساوالمانيا على التوالي، ما يضفي معياراً افضل للناتج المحلي البريطاني الحقيقي محتسباً على أساس التضخم. تمكن بنجاح حزب العمال من مقاربة المسألة الاقتصادية الشديدة الحساسية المتعلقة بالبطالة. فبينما وصل معدلها في المانيا إلى خانة الرقمين 10.8 في المئة والى 8.9 في المئة في دول منطقة اليورو، بقيت في بريطانيا بواقع 4.8 في المئة بحسب منظمة العمل الدولية. وقد لجأ بلير في شباط فبراير الماضي إلى زيادة الحد الأدنى للأجور مرة ثانية في سنتين من 4،85 جنيهات استرلينية يومياً 9.26 دولار الى 5،05 جنيه 9.64 دولار. وسيبدأ العمل بالقرار في تشرين الأول اكتوبر 2005. وكان أن استبق الانتخابات في إجراء قوبل بانتقادات واسعة من غرفة التجارة البريطانية واتحاد الصناعيين الواسع النفوذ. إلا أن الأجواء الاقتصادية مغايرة الآن في بريطانيا. فقد استهل رئيس الوزراء ولايته بمؤشر سلبي أعلن عنه في نيسان ابريل، إذ تراجع الناتج المحلي الإجمالي في الربع الأول من 2005 إلى 2.5 في المئة معدلاً على أساس سنوي. ويعني الرقم ببساطة أن حجم إيرادات الموازنة العامة في السنة الحالية سيكون دون المحقق في سنة 2004، ما يضع رئيس الوزراء في مأزق تمويل"البرنامج الجذري"الذي وعد به في التعليم والصحة وقطاعات اخرى. وسيقوده احتمال مراوحة الناتج والنمو على الوتيرة نفسها خلال السنة إلى سيناريو من ثلاثة: إما النكوث بالعهد الذي قطعه على المستوى الاجتماعي. وإما المزيد من الاستدانة للإنفاق على المشاريع. وإما اللجوء إلى ضرائب جديدة. مفاعيل السيناريوات الثلاثة سلبية في كل الأحوال. فالتنكر للمشاريع الاجتماعية سيصيب حزب العمال في الخاصرة الرخوة ويفقده أنصاراً في قواعد الحزب، كما سيهز صورة بلير. والاستزادة من الدين لتمويل العجز، هو الرابع حجماً بين الدول الصناعية، يعني تجاوز الدين العام البريطاني نسبة 34.5 في المئة إلى الناتج المحلي. ويبدو أن السيناريو الثالث هو الاحتمال الأقوى، إذ يتزايد الحديث الآن في دوائر المال والاقتصاد البريطانية عن خطة للحكومة الجديدة لزيادة الضرائب بحدود 10 بلايين استرليني سنوياً لأربع سنوات، وهو ما قصده زعيم حزب المحافظين المستقيل مايكل هوارد الذي وصف سياسة بلير بقوله"صوتوا الآن وادفعوا غداً". ينقلنا موضوع الضريبة والسياسة الضريبية عموماً في بريطانيا إلى جوردن براون. فالأخير الذي ارتفعت أسهمه كثيراً في حزب العمال، وبقي متمسكا بسمات الرجل المسؤول حين آزر رئيس حزبه في رحلته الثالثة إلى"10 داوننغ ستريت"، هو مهندس السياسة الضريبية في حكومة بلير التي تقوم على ما عرف في الأوساط الاقتصادية البريطانية ب"القاعدة الذهبية"، وهي عدم اللجوء إلى الاقتراض إلا لتمويل ذي طبيعة استثمارية، أي انه التزم عدم تجاوز النفقات الجارية وخلافها خارج الاستثمار من حجم العائدات الضريبية خلال سنة مالية. هذا ما مكّن مصرف انكلترا الذي حظي بدعم من براون، من الحصول على استقلالية تامة عن الحكومة، ومن الإحاطة بنمو الكتلة النقدية، واحتواء الضغوط التضخمية في الاقتصاد. ان براون هو الآن في مختبر امتحان المواهب، التي يعرف انها قليلة في معجم الحقائق الاقتصادية. فصندوق النقد الدولي، والمفوضية الأوروبية حذرا الحكومة البريطانية من ازدياد العجز المالي في السنة المالية 2004 - 2005 جراء تراجع عائدات الضريبة. وبافتراض أن تراجع النمو الاقتصادي ومعالمه قد بدأت في الربع الأول من 2005 - كما أشرنا سابقاً - فان العائدات الضريبية مرشحة لمزيد من التراجع. ويصبح الوضع أسوأ إذا صحت توقعات الاقتصاديين بتضخم مصحوب بالركود"stagflation"في منطقة اليورو بريطانيا ما زالت خارجها، أي منطقة الشراكة التجارية التقليدية لبريطانيا. فقد يواجه عندها الاقتصاد البريطاني تراجعاً في صادراته، وفي إنتاجيته ونموه عموماً. وسيزداد عجزه التجاري الذي كان سجل في 2004 نحو 39 بليون جنيه استرليني. اقتصادياً، سيكون من الصعب على الحكومة ومصرف انكلترا استخدام معدلات الفائدة وسيلة لمواجهة التضخم أو الركود في الاتجاهين، أو في آن واحد إذا ما انتقلت عدوى التضخم المصحوب بالركود إلى اقتصاد"صاحبة الجلالة". فمعدل الفائدة في بريطانيا أصبح 4.75 في المئة، أي اكثر من ضعفي نظيره في منطقة اليورو. وزيادة الفائدة لكبح التضخم ستؤذي النمو وتقوي الاسترليني وتضر الصادرات. وخفض الفائدة لتحريك النمو دونه السقوط بين براثن التضخم. انه ليس اختباراً لبراون وحده، بل للسياسة الاقتصادية الشاملة لحكومة بلير، مقترنة ايضاً بارتدادات السياسة الخارجية اللصيقة بحرب العراق والتي كان من اولى تداعياتها تراجع حركة الرساميل الى السوق المالية في لندن، وهي الثانية عالمياً والى الاقتصاد البريطاني. ناهيك عن ارتفاع سعر النفط والصلب والمواد الأولية. قد يكون براون بالقطع قادراً على مواجهة احتمالات الأزمة الاقتصادية في بريطانيا افضل من بلير مستخدماً صدقيته في الشارع البريطاني ورصيده الخارجي. فهو صاحب خطة إلغاء الديون بالكامل عن الدول الفقيرة المقرر أن تستأنف مجموعة الدول الثماني + روسيا في اسكوتلندا في تموز يوليو المقبل. ولن يخترع براون الأعاجيب لمواجهة أزمة اقتصادية هيكلية تتجاوز حدود بريطانيا، ولكنه أجدر في إدارتها من رئيس حزبه الذي فاز بأقل نسبة من الأصوات لأي حزب في تاريخ بريطانيا. كاتب وصحافي.