تحية الى محمد الماغوط بعد انسحاب الجيش السوري والاستخبارات السورية من لبنان، واكتمال هذا الانسحاب مع نهاية شهر نيسان ابريل 2005، بقوة التظاهرات الشعبية والضغط الدولي سواء بسواء، خطر في بالي إشكال حقيقي، لعله، مع جملة اشكالات أخرى، قادر على تصويب العلاقة، بين شعبين شقيقين، وثقافتين متداخلتين، وبلدين تلعب فيهما النوافذ المتجاورة، أو الأبواب المتقابلة، بعضها مع بعض، كما تلعب الخراف في المرعى الواحد، وتلعب العائلات الواحدة والأسماء المتشابهة والتواريخ المتداخلة، والجغرافيا المتقاربة، دوراً شبيهاً بدور المياه الجارية في نهر واحد، فيسأل السائل نفسه: هل هذه المياه الواحدة التي تجري في مجرى واحد، تقرّب بين ضفتي النهر أم تباعد بينهما؟ ربما تبادرت الى الذهن أسئلة شعرية أو فلسفية، من نوع:"هل ماء النهر هو النهر؟"صلاح عبدالصبور، وربما تداعت صور من مثل اعتبار دمشقوبيروت بمثابة شامتين على يد واحدة أو على وجنة واحدة، أو أنهما متجاورتان كنجمتين على رقعة صغيرة من سماء واحدة، أو أنهما متشابهتان كحبتي المطر، أو أن يقال ان دمشق نصف التفاحة وبيروت النصف الآخر... ويمكن أن تُسعف السائل تداعيات وصور لا حدود لها، يُقنع من خلالها نفسه بأنه تصعب أو تستحيل قسمة القلب البشري الواحد الى اثنين، وأنه اذا أردنا تقسيم القلب الواحد الى قلبين، فسيكون ذلك ممكناً بشرط هو القتل. أما الإشكال الذي خطر في بالي، بعد الانسحاب العسكري السوري والاستخباراتي من لبنان، فهو الآتي: ماذا نفعل بنزار قباني وأدونيس ومحمد الماغوط؟ هل"نشحنهم"مع أشعارهم ودواوينهم وبصماتهم على الدفاتر، وبخاصة في النفوس، على آخر شاحنة تغادر الحدود المشتركة الى سورية؟ وفي المقابل، ماذا سنفعل بصوت فيروز وأشعار اللبنانيين الذين تغنوا بدمشق؟ ماذا نقول للرحابنة وسعيد عقل وطلال حيدر؟ هل سنستردهم من هناك؟ وسألت نفسي أيضاً: اذا كان في استطاعة الأممالمتحدة ورئيسها كوفي أنان، ارسال بعثات للاستقصاء والتحقق من الانسحاب الحقيقي والناجز للجيش السوري والاستخبارات السورية من لبنان، فهل من أحد، في هذا العالم بأكمله، يستطيع التحقق من انسحاب أشعار قباني وأدونيس والماغوط، من مكتبات بيروت، وصدور اللبنانيين، واصطفافها على الحدود، في انتظار عودتها الى بلادها؟ ومَن في امكانه، اقتلاع صفحة من دفتر صبيّة في الجبل اللبناني، حدث أن أحبّت جارها، فكتب لها قصيدة من قصائد نزار في دفترها؟ مَن في امكانه أن يمحو آثار أصابع أدونيس عن طاولات أو مقاعد كلية التربية في بيروت؟ مَن في امكانه أن يقول لمحمد الماغوط: اخرج من جلدك، اخرج من شِعرك، اخرج من أحلامك، اخرج من أيامك الحلوة التي قضيتها متسكعاً بين غزير مقرّ يوسف الخال ومقاهي بيروت، وملتقى"خميس"مجلة"شعر"، في أجمل أيام التسكّع والابداع، لتخرج على هذه الأمة المتراخية المغلولة، شاهراً سيف أشعارك اللامعة القاطعة والمضيئة كبروق الجبال، ولتكشط بها اللحم المهترئ من الجسد المترهّل، ولتجلد برعود الكلمات ظهر الجبال التي شاخت... لتخرج، مثلما خرج أبو ذرّ الغفاري، شاهراً سيفه في المدن القديمة؟ تترسخ في نفسي، يوماً بعد يوم، فكرة مفادها أن البلاد والأوطان، يخطّطها ويمد حدودها الشعراء، أكثر مما يخططها ويحدد حدودها السياسيون والعسكريون... وأن أضعف الحدود هي تلك التي ترسمها الجيوش، في حالتي المدّ والجزر، وسواء كانت جيوشاً مقتحمة وغازية، أو كانت جيوشاً منكفئة ومندحرة. غزا العرب اسبانيا، ثم اندحروا عنها، لكن آثار الحضارة العربية والإسلامية فعلت فعلها العظيم، لا في اسبانيا وحدها الأندلس، بل في أوروبا والعالم. غزا نابوليون بونابرت مصر، ثم انكفأ عنها بجيوشه، لكنّ آثار الحضارة الفرنسية الغربية، لا تزال تفعل فعلها في مصر وفي الشرق العربي حتى هذه الأيام. والآن... لنعد الى محمد الماغوط. جاء هذا الرجل الغريب، مع نهاية الخمسينات من القرن الفائت، من سلمية في سورية الى بيروت، حاملاً معه جَمالاً وحشيّاً لا يوصف. كان أشبه ما يكون برامبو عربي. ومثلما تجلّى جمال رامبو في باريس، بعد أن جاء اليها من شارلفيل، تجلّى جمال الماغوط في بيروت بعد أن جاء اليها من دمشق. جاء الى بيروت، وكان واثقاً من أنه سيعيش بمقدار ما يحلم. وكانت أحلام الماغوط فادحة وعجيبة وبدائية شبيهة بأحلام غجري مجنون في مكان معلّب، أو رجل صحراوي متمادي الأطراف والرغبات، أرادوا حشره في سنتمتر واحد من مدينة مغلولة ومقهورة. جاء الى بيروت شاهراً كلماته البدائية كحراب في أيدي رجال القبائل، أو كأظافر مسنّنة، غير مقلّمة، ينشبها في عنق الجوع والفقر، كما ينشبها في عنق الذلّ والهزيمة، وكمخرز في عين الزنازين والجلادين والاستخبارات وظلاميات السجون... وفي كل ما كان هشّاً وعفناً ومزرياً في حياة الوطن. جاء مثل فهدٍ جريح وكان صراخه يملأ البلاد من النيل الى الفرات ومن بردى الى العاصي، ويغطي مساحة السماء والصحراء العربية. جاء حاملاً معه رصاصة خارقة لم يلجمها غلاف. جاء حاملاً معه قوة الكلمات الجوهرية التي لا تقهر. وكان يخطئ أحياناً في الصرف والنحو واللغة، وفي الوزن والقافية، ولكنه دائماً كان يصيب في الشعر. كان الماغوط الخطأ الجميل الذي من أجله يكون الصواب. وكان وحده القادر على أن يقول للنقاد وعلماء اللغة والعروض: قعّدوا على ما أقول، لأنه كان يقول قوة الحقيقة. واحتضنت بيروت هذه القوة الوافدة اليها من الصحراء، بكل ما في بيروت من حبّ وحرية ومغامرة. احتضنت بيروت محمد الماغوط برفاقية الوجود ورفاقية الشعر ورفاقية الاحتجاج... وتركت كل شيء بعد ذلك يسقط خلفها كالتفاصيل. ضمدت بيروت جروح محمد الماغوط، وأطلقت زئيره المحتبس من آلاف الأعوام، ومخالبه المحبوسة من دهور وأجيال. لم يكن ثمّة على الخريطة العربية، أي مكان آخر، سوى بيروت، بقادر على أن يحتمل قوة كلمات محمد الماغوط... قوة ألف كلغ من شحنة الاحتجاج والثورة، التجديف والقهر، القسوة والحنان، الكفر والإيمان، الشتيمة والقداسة، محشورة بين حرفين من حروف الأبجدية. لا دمشق ولا بغداد،/ لا القاهرة ولا عمّان،/ فقط بيروت وحدها، ودون سواها، كانت قادرة على حمل وطأة هذا الشاعر. ليس فقط حملته. بل حمله ودلّلته وأطلقت مخالبه في وجه الزمان العربي القبيح. احتضنته بيروت بأسماله وقمله وجوعه ورعبه ودموعه ولسعات السياط على ظهره، وأعطته حرية أن يصرخ ويبكي ويضحك ويكفر ويصلي ويشتم ويقدّس على هواه، وكما يقول، أعطته بيروت حرية الكلمات، الحرية التي يستحقها. وهل الحياة بكل ما فيها، سوى الحرية والكلمة؟ أعطته سقفاً ليقيم، ورغيفاً ليأكل، ودفتراً ليكتب، ووسادة ليحلم. جاء محمد الماغوط ليعيش في بيروت، بين شعرائها وكهّانها الشعريين، وفي مقاهيها ومنازلها"أليفاً كريشةٍ في جناح"بعد أن كان يعيش في بلاده"غريباً كجناح بين حوافر". جاء الى بيروت و"في عينيه قسوة القياصرة/ وفي زنده ملايين الأذرع الخاوية تتأرجح"، جاء ليهجو تاريخاً جامداً ومعقوفاً كالمنقار، جاء حاملاً تباشير الغليان، ونذير الحمم:"سامحني يا مولاي/ انني أحول كما تعرف،/ يا سليل تدمر وسومر/ وبقيّة الدمامل المشعّة كالياقوت/ انظر الى هذه الدموع المطروحة في المغلفات/ انه صمغ في أسفل القدم/ قيح في فوهة المدفع/ رماد الأبطال يسقط في منفضتك يا جبان/ لقد حرمتني لقمتي يا مولاي/ لقمتي الصغيرة المجموعة من كل حقول العالم/ والمتدحرجة همساً على طرف السوط والمقلاة". من قصيدة"احتضار"، عام 1958 جاءت أشعار الماغوط بمثابة سجل اعترافات وشهادة اعتراف وإدانة. ومن أجل ذلك، خاطب محمد الماغوط بيروت بقوله:"بيروت/ يا أمي وطفلتي ومعبودتي/ تذكرت ساحة البرج في"سرير تحت المطر"/ وساحة الدباس في"الغجري المعلّب"/ وصخرة الروشة في"أمير من المطر وحاشية من الغبار"/ لقد أحببتك/ وقدّستك/ حتى كدت أشرك...". ومن أجل ذلك قال:"أرفع يدي كالمتر المكسور/ دون أن يردّ عليّ أحد". والآن/ قد تدخل الجيوش وتنسحب الجيوش، قد تقفل الحدود وقد تفتح الحدود،/ قد يحكم الحكام وقد تتدحرج تماثيلهم في الأودية والساحات كالدمى المحطمة/ ولكن،/ ولا قوة في العالم،/ بقادرة على أن تزحزح محمد الماغوط قيد أنملة،/ من شارع أو مقهى،/ من كتاب أو أريكة،/ في قلب بيروت.