ألكسندر دوغين ترجمة عماد حاتم. أسس الجيوبوليتيكا: مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي. دار الكتاب الجديد، بيروت. 2004. 720 صفحة. هو كتاب متعدٍ لمفعولين، بمعنى أنه يجعل من البحث في مستقبل روسيا الجيوبوليتيكي بمثابة توطئة للتأكيد على مستقبل روسيا الإمبراطوري. من هنا فهو يقطع مع الكتابات الروسية ذات التجليد الأنيق التي انتشرت في الحقبة السوفياتية والتي تزكم الأنوف برائحة الإيديولوجيا الواخزة. قبل أن يحدد الاتجاهات و المشاريع التي تحكم روسيا اليوم، يقف ألكسندر دوغين عند واقع روسيا الحالية الذي ما زال يدغدغ بعض مثقفي العالم الرابع على حد تعبير سمير أمين، حنيناً إلى الوصول إلى الأيام الخوالي للعهد السوفياتي. يكتب المؤلف في توصيفه ما يلي: من الواضح أن وجود روسيا ، التي تفهم على أنها الفيدرالية الروسية ف.ر لا يستجيب لأية معايير جادة عند تحديد وضع"الدولة. والهذيان المتعلق بتقييم الفيدرالية الروسية في السياسة العالمية إنما هو بالذات الدليل على هذا الوضع للأمور. فما هي الفيدرالية الروسية. أهي ورثية الاتحاد السوفياتي وخليفته الحقوقية؟ أهي دولة جهوية؟ دولة متعددة القوميات؟ فيدرالية متعددة الإثنيات؟ جندرمة الأوراسيا؟ بيدق في المشاريع الأميركية؟ أراضٍ مكرسة للتقسيم في المستقبل؟ انطلاقاً من شروط معينة تلعب الفيدرالية الروسية واحداً من هذه الأدوار بغض النظر عن التناقض المطلق في هذه التحديات. فهي أحياناً دولة ذات تطلع إلى دور خاص في السياسة العالمية، و هي أحياناً أخرى دولة جهوية ثانوية الأهمية، وفي ثالثة حقل للتجارب الانفصالية. و يضيف"الفيدرالية الروسية ليست روسيا، ليست الدولة الروسية الكاملة الشخصية، إنها تشكل انتقالي في عملية جيوبوليتيكية شمولية ديناميكية واسعة لا أكثر من ذلك. ومن الطبيعي أنه يمكن للفيدرالية الروسية أن تكون الدولة الروسية في المستقبل ، لكن ليس من الواضح على الإطلاق أن ذلك سيحدث. كما أنه من غير الواضح ما إذا كان ذلك يستحق السعي من أجله". في هذا الوضع القلق غير الواضح والفاقد لبوصلة اتجاهه، يرى المؤلف أن روسيا الحالية يتناهبها مشروعان، الأول هو المشروع الليبرالي/ الإصلاحي الذي يجد مثله الأعلى في سقف التاريخ الغربي الذي يقوم على رفض تلك القيم المسماة بالشعب، الأمة، التاريخ، المصالح الجيوبوليتيكية الخ... لصالح مبدأ الفعالية الاقتصادية القصوى والفردانية واقتصاد السوق. وما يميز هذا الاتجاه أنه يصوغ بكل سهولة الأجوبة اعتماداً على النموذج الليبرالي الغربي الناجز والجاهز. وهذا الاتجاه، كما يرى المؤلف، يمثل إلى هذه اللحظة"الموقف الأكثر شهرة"لأنه يتطابق في عمومه مع المنحى العام للإصلاح الليبرالي ولمنطقه المبدئي. أما الاتجاه الثاني فهو الاتجاه القديم السوفياتي القيصري الذي يضم عناصر العقلية السوفياتية ما قبل البيريسترويكا وأنصار الأرثوذكسية الملكية القيصرية، ويقوم على رفض الاصلاحات الليبرالية. وهو يمثل خليطاً ساحراً على حد تعبير دوغين من الأفكار العاطفية المتناثرة وغير المدروسة. يحذر المؤلف من المشروع الليبرالي الذي يمهد من وجهة نظره إلى"محو تدريجي للخصائص القومية للروس"، ومن المشروع السوفياتي الذي يحاول بعث الأمة والدولة في نفس تلك الصيغ البالية التي قادت تاريخنا إلى الإفلاس. من هنا تأكيده على ضرورة الأخذ ب"طريق ثالث"يمثل، كما يقول،"خطة تجديدية تقطع مع الازدواجية التي تحكم المشاريع السابقة". و هذا الطريق الثالث يمر عبر إعادة بناء الإمبراطورية الروسية. فلا معنى لروسيا من دون إمبراطورية: فهذا هو تاريخ روسيا في الماضي وفي المستقبل الذي يراهن عليه؟. وفي هذا السياق يراهن دوغين على الشعب الروسي الذي شكل على مسار تاريخي، كما يقول بنبرة لا تخلو من عنصرية،"جماعة تاريخية تحمل جميع ملامح الشخصية السياسية التامة القيمة والراسخة"، أضف إلى ذلك كونه من"الشعوب ذات الرسالة". و من هنا رفض المؤلف للحقبة السوفياتية السابقة لتلك الدعوات التي تجعل من روسيا المستقبلية كما يرى الغرب دولة جهوية على طريق تركيا الكمالية الأتاتوركية. فهذا مرادف لخصائها الروحي: فعلى مسار تاريخي طويل ظل إيمان الروس بالحقيقة والروح والعدالة مما يُستمد من العقيدة الأرثوذكسية لا يتزعزع. فمن وجهة نظره، الروس معنيون بكل شيء وبالجميع قاطبة. فلم يضع الروس في تاريخهم قط هدفاً يتحدد بإقامة دولة وحيدة الاثنية متجانسة عرقياً، لذلك بقيت رسالتهم ذات طابع عالمي، و لهذا السبب كان الشعب الروسي يسير بطريقة منهجية إلى بناء الإمبراطورية. لكنه يشترط أن تكون الإمبراطورية التي تأخذ عنده طابع الصيرورة والضرورة معاً، أوراسية، قارية كبرى، وأن تكون في المستقبل عالمية. ومن هنا مصدر قوله إن معركة الروس من أجل السيادة على العالم لم تنته بعد. وهو بذلك يسلك سلوك هنتنغتون في صدام الحضارات، وكأن قدر الإمبراطورية لا يقوم إلا بوجود عدو مشترك تتم التضحية به على مذبح قربان الإمبراطورية لكي تنهض؟. كتاب جديد وخطابة جميلة عن الرسالة الخالدة للأمة الروسية الخالدة، تذكرنا بخطابات فيخته الألماني عن الأمة الألمانية وخطابات المفكرين القوميين العرب عن الرسالة الخالدة للأمة العربية. لكنها الخطابة التي تتجاهل واقعا روسيا يحلم بركوب قطار التاريخ ولو في عربته الأخيرة علّه يجتاز الممر الجبلي الضيق إلى الرحاب الواسعة للتاريخ الكوني. وهذا ما يتجاهله المؤلف.