إمضغا اللقمة عجناً وعجالة، فلا وقت للكلام. الى الحائط ترنوان، الى المقفل، الصمت، تديران وجهيكما كل الى جهة، تتأملان الفراغ فوحده لا يصرخ ولا يضرب ولا يقهر. تتعجلان اللقمة كأن المدينة ستنقض عليكما بعد حين. تخافان الموت على معدة خاوية. الموت، هناك في أعلى البرج يدفش الأجساد الضئيلة فتدفن في التراب ولا أحد يأبه. مواقف السيارات في أسفل الأبراج ملاعب لأشباح سمر، تهرب من جثثها في الليل، تصرخ في الزوايا، تنتظر خرافة تفك قيدها لتحلّق بخفة الى السماء. الموت هناك، تحت شمس الصيف التي تشوي الأجساد بخمس وأربعين درجة مئوية، خمس وأربعون جلدة تلسع كل خلية من جسد الشقاء، تحفر فيها فيطلع عرق وملح وينزّ الوهن عمراً ينقضي بين الباطون والحديد وفم الجرافة وساعد الرافعة. الموت هناك، في ظلم"الكفيل"الذي له كل السلطة والتسلط والحقوق والعقوق، ولكما الصبر والحرمان. حرمان الحقوق و"حرمان"رسمي يرمي بكما خارج حدود الوطن المستعار، ان ارتفع الصوت اعتراضاً أو تمرداً. الموت هناك، حين ينهار جدار في المطار فوق الرؤوس، فيموت العشرات وتتصدر صحف اليوم التالي أخبار كاذبة عن جروح نالت من شخص وموت كاد يغتال شخصين بالأكثر. حين يأكل الحريق بيوتاً من التنك على نوافذها تتدلى خرق حقيرة هي كل ما لدى"عمال منطقة الحدائق". عمال يصنعون الأخضر ويقفون فوقه يلتقطون الصور ويرسلونها إلى بلادهم، يختالون بقبعاتهم الزرق في صورة ستضعها الزوجة على الحائط أو تدسها الأم تحت الوسادة. تتأملها في الليل وتبكي، وفي النهار تريها للجارات وتخبرهن كم أن بلاد القبعات الزرق جميلة وضاحكة وخضراء. الضحكة في الصورة ذكرى لموت عبر أو كاد، لتعب تأصل أو كاد، لوقت مرّ أو كاد. الموت هناك، لا يعطّل ولا يؤجّل ولا يزن. فأنتما اثنان فقط، اثنان من بين أكثر من مليوني عامل يديرون ورش البناء في هذه المدينة التي تصنع من سواعد العمال حكايتها ومن أكفهم أعجوبتها ومن أطراف أصابعهم شهرتها. في مواجهة الحائط، الذي أكثر ما تطمئنان إليه، كما يطمئن الخالق إلى مخلوقه، تلوذان بدقيقة من السكينة. تأكلان من قلب القماشة البيضاء الملفوفة عرقاً أخضر وقليلاً من البطاطا. وتتعجلان القيام، كأنّ المدينة ستنقض عليكما بعد حين. كأن أبراج دبي، الشاهقة فوق الأحلام والأوهام، التي في حجارتها شيء من دمكما وعلى طلائها ملح من عرقكما وأبوابها مقفلة في وجهيكما، تعقر اللقمة في الحلق، تصرخ كامرأة بشعة تستعجل خدمها:"هيا إليّ، توقفا عن الأكل وتعالا، فما زلت بحاجة إلى الزينة". كأن جسور دبي، التي تمتد أوسع من مخيلتكما البسيطة والراضية والساذجة، ستلتف حول عنقيكما وتطوقهما وتسرق اللقمة. وفي المساء، حين يعود واحد منكما إلى البيت، إلى حيث قد تنتظره الزوجة، فليبحث عنها جيّداً. ليتفقد كل زاوية من الغرفة الضيقة، في الخزانة، تحت الملاءة، في خزنة الغاز... ليسأل الجارة أو الأولاد في الشارع. لينتابه القلق، فصحف دبي يملؤها القلق، والأخبار التي تزجّ في أسفل صفحات الصحف المحلية، مخفية ومتخفية كإعلانات وزارات الصحة العربية عن مضار التدخين، تتحدث عن موت زوجات العمّال انتحاراً:"وجدت جثة زوجة عامل هندي على شاطئ الجميرا بعد أن تركت له رسالة تقول فيها إأنها انتحرت لأنها لا تراه كثيراً بسبب قضائه الليل والنهار في العمل. تركت له مع الرسالة ثلاثة أطفال". يسأل علي عن الخبر ويضحك. علي سائق الأجرة الإيراني الذي يجلس ثماني عشرة ساعة في اليوم وراء مقود السيارة، يقول إنه لن يتزوّج أبداً طالما هو في هذه المدينة:"لا أريد أن تنتحر زوجتي". في الانتظار، قد يتشجع للتحرّش بانكليزية مخمورة تترك له باب حديقتها مفتوحاً.