أوجدت دور العرض السينمائية في بغداد تقاليد اجتماعية وثقافية، بل كانت منذ اربعينات القرن الماضي واحدة من المصادر الغنية للعراقي في معرفة الآخر، ونادراً ما تجد مواطناً ممن في العقد الرابع لم تكن السينما واحدة من اشكال التسلية الرفيعة عنده. ودور العرض في بغداد تتعدد لا بحسب الامكنة، بل بحسب الاذواق وبحسب الشكل السينمائي، فلا يمكن ان تذكر"سينما النهضة"في منطقة الباب الشرقي الا وتستعيد ذاكرة جمهور السينما في العراق مئات الافلام الاجنبية. لاحقاً نافستها"سينما سميراميس"في عروض"السينما التقدمية"بحسب تعبيرات عقد السبعينات وتحديداً في افلام"زد"،"ساكو وفانزيتي"و"حالة حصار". واذا كانت"سينما بابل"تخصصت في اسابيع الافلام لدول المعسكر الاشتراكي، فثمة اسبوع الفيلم السوفياتي والفيلم البولندي واليوغوسلافي، فإن اقل من خمسين متراً هي التي كانت تفصلها عن"سينما النصر"التي تخصصت في جديد السينما المصرية بل ان مسرحها افتتح في العام 1965 ليضم حفلة غنائية أحياها الراحل عبدالحليم حافظ، ولتكن الصالة ذاتها التي ضمت فيلمه الشهير"ابي فوق الشجرة"والذي استمر في عروض متواصلة زادت عن ستة شهور. ومن النادر ان تصل دار سينما الى مستوى يمنح اسمها لشارع، ولكن"سينما الخيام"فعلت ذلك فلا أحد يعرف التسمية الرسمية للشارع الذي تشغله، لكن عروضاً من سينما"الاكشن"و"الويسترن"بدأت منذ خمسينات القرن الماضي منحت السينما تلك سطوة لا تدانيها سطوة. ولكن أي حال تعيشها"صالات الاحلام"هذه الايام؟ وهل خرجت عروضها من حصار قضى عليها في السنوات التي اعقبت غزو الكويت، مثلما خرجت البلاد؟ اللافت ان حصاراً داخلياً امسك بالحياة الاجتماعية في العراق بعد الحصار الخارجي، فثمة تهديدات الاصوليين والمتشددين شيعة وسنّة تنهال على اصحاب صالات السينما الذين فضلوا تشغيلاً مربحاً لا يجبي المشكلات، فصار بعضها مخازن خشب وآخر مصانع احذية، فيما جاهد القليل كي يظل محافظاً على تدافعه الصور المضيئة في ظلام القاعات، ولكن بوجود"رجال حماية"يستشعرون خطر التهديدات الاصولية ويدفعونه قبل اقترابه. القليل هذا فضل عروضاً ترضي جمهور قاع المدينة، عروضاً أقرب الى السينما الإباحية! "سينما بغداد"في منطقة"علاوي الحلة"مغلقة، وحالها مشابهة لحال غالبية دور السينما في قلب بغداد القديم: شارع الرشيد الذي كان يضم عدداً من دور السينما، ومنها"سينما الشعب"التي تحولت محال بعد ان أيقن صاحب العمارة بأن السينما لم تعد تدر ربحاً وفيراً عليه كما كانت في السابق. وتحولت"سينما الوطني"الى"مسرح علاء الدين"وكان خصص بالعروض الكوميدية والغجرية الراقصة قبل اكثر من عشر سنوات وتحولت مخازن خشب ومحلات نجارة اليوم. "سينما روكسي"التي كانت تجذب الناظر بتماثيلها الجميلة اعلى بنايتها وفي زوايا قاعتها، تحولت الى"مسرح وسينما النجاح"ولا تزال ماكينتها تدور ولكن اي مشاهد محب للسينما سيتراجع فوراً وهو يرى الصور الفاضحة التي وضعت في جوانب الممر المؤدي الى الصالة، والرواد غالبيتهم من المراهقين او من الباحثين عن لذة عابرة عبر"ثلاثة افلام في آن واحد". ومن شاهد فيلم"الفراشة"واستمتع بملحمة اداء ديستان هوفمان وستيف ماكوين سيحزن على حال سينما"اطلس"، ومن خرج جذلاً في نشيد روحي عميق بعد مشاهدته"تلك الكلمة الحلوة: الحرية"سترعبه قذارة"سينما النجوم"ومن ارتعش قلبهما ذات يوم وهما يتابعان سعاد حسني في"الحب الذي كان"او جرحهما يوسف شاهين في"العصفور"سيمران ونظرتهما منكسرة نحو"سينما النصر"التي ظلت الحياة متوقفة فيها عند آخر عرض من عروض"المسرح التجاري". الصمت والغبار يحيطان بالمكان الذي عرضت فيه أفلام لأندريه فايدا، وفيه عرف عراقيون كثر لأول مرة صوت ماجدة الرومي في"عودة الابن الضال"، الصمت الحجري القاتل هو ما انتهت اليه"سينما بابل". وعوضاً عن انشغال السينمائيين العراقيين بوقائع مرة كهذه، وعوضاً عن تبريرات جاهزة لتراجع حال السينما من نوع"الكم الهائل من الافلام السينمائية التي تعرضها القنوات الفضائية العربية والاجنبية، وانتشار اسطوانات الافلام وبسعر اقل من زهيد"عوضاً عن كل هذا الا انهم منشغلون - كما هي حال المثقفين العراقيين عموماً - ب"كلام"مطنب في تنظيره ، حول الخطاب السينمائي تاركين ظهورهم لنبع حقيقي من القصص والحكايات والمصائر الذي يشكل مادة لإنتاج مئات الافلام. وفي"مؤتمر المثقفين العراقيين"الأخير في بغداد، راح السينمائيون يقدمون اوراق بحث تكتظ بكلام يستند الى نظريات السينما، ولكنه لم ينشغل ولو لبرهة بالسؤال: كيف يمكن انشاء صناعة سينمائية في بلاد لا تتوافر فيها قاعات عرض، وفي اجواء تستند الى اصولية ترى السينما من المحرمات.