تعتمد المفاضلة بين المدن الفرنسية عموماً على أمزجة السياح ذاتهم، ولكن معظم الذين يتوافدون على هذه المدن يخرجون بانطباع موحد تقريباً وهو أنها، وبشكل عام، مدن حضارية تجمع بين التراث والطبيعة. فالآثار التي تنتشر في أحشائها تشكل جزءاً متمماً من معالم الجمال الذي تتميز به، لذلك فمن الصعب على السياح أن يجدوا ثمة فروقات كبيرة بين الطبيعة الزاخرة والتاريخ الحافل بالأحداث المختلفة، فضلاً عن الازدهار الذي تتمتع به السوق التجارية وصناعة التسوق والخدمات السياحية المختلفة. وإحدى أبرز هذه المدن مدينة"كاركوسوني"التاريخية الشهيرة التي تقع في الجنوب الغربي من فرنسا، على مقربة من حدود اسبانيا. و"كاركوسوني"لها ميزة خاصة ليست موجودة في المدن الفرنسية الأخرى، وهي أنها تمثل نقطة التقاء وسطية لقناة"دوميتي"التجارية التي حفرت قبل ثلاثة قرون لتربط مياه المحيط الأطلسي من الشمال بمياه البحر الابيض المتوسط من الجنوب، لتقريب المسافات بين عالمي الشمال والجنوب من جهة، ولاستخدامها في التجارة البحرية من جهة أخرى. المدينة تحتضن عدداً من الأبراج العالية لمبانٍ قديمة وقلاع كبيرة، انشئت في مراحل تاريخية مختلفة، وهذه المعالم كلها أوجدت جواً خيالياً تتميز به المدينة التي تعتبر إحدى المدن الخاضعة لعناية اليونيسكو منذ العام 1997، لأنها تضم ارثاً معمارياً رفيع المستوى. "كاركوسوني"صاحبة الطبيعة الخلابة والمعالم الأثرية البديعة، مدينة"نظيفة"للغاية، فهواؤها النقي وجوها المتميز وثروتها الطبيعية والثقافية جعلتها موضع اهتمام معظم السياح الأجانب عموماً والفرنسيين خصوصاً، الذين يحبذون قضاء أوقات الراحة فيها، فضلاً عن مواسم السياحة الربيعية والصيفية التي تشهد مهرجانات فنية راقية ومسابقات رياضية، أشهرها مباراة الفرسان عند بوابات القلاع الكبيرة التي تستهوي العوائل التي تصطحب معها الأطفال الذين يتمتعون بهذه المشاهد الحية، وتزيد من معارفهم التاريخية، إضافة الى انتشار الحدائق والمتنزهات العامة التي تضم ألعاباً مختلفة. الأقوام التي سكنت"كاركوسوني"حوالي 600 عام قبل الميلاد، بنت بيوتها الخاصة التي كانت نواة ظهور المدينة في ما بعد، من الخشب والحجارة، في مواقع تحيطها الغابات والمروج، وبمرور الزمن أخذت تتطور الملامح العمرانية فيها. وفي مطلع العصر الوسيط، بدأت تظهر القلاع الحجرية الشامخة بعد أن احتدمت المنافسة على المدينة بين جيوش المقاطعات المختلفة. وحسب الاسطورة فإن اسم المدينة جاء من اسم سيدة من أهل المدينة، عندما حاول القائد العسكري"بيب القصير"احتلالها، ولكنه عجز عن ذلك بسبب المقاومة التي أبداها الأهالي، فقام بمحاصرتها فترة طويلة قاطعاً عنها الإمدادات الغذائية والخدمية. وبعد أن نضب الغذاء، اعتقد القائد بأن الأمر لا يتعدى بضعة أيام حتى يستسلم أهالي القلعة، ولكن أرملة شابة اسمها كاركوس أقنعت الأهالي بخطة ذكية مفادها أن يقوم الأهالي برمي ما تبقى لديهم من المواشي على الجنود الذين يحاصرون القلعة كدليل على توافر الطعام لديهم، وبذلك سيشعر"بيب القصير"بأن توقعاته باقتراب المجاعة خطأ، فيسحب قواته لأن الحصار سيستمر فترة طويلة لا يتحملها جنوده. وهذا ما تم بعد تنفيذ الخطة، فسلمت المدينة بعد انسحاب الغازي. وتقديراً لهذه السيدة اطلق على المدينة اسمها مع إضافة أحرف التحبب الأخرى، فأصبحت تحمل اسم"كاركوسوني". وفي الحقيقة فإن"كاركوسوني"هي عبارة عن مدينتين يفصل بينهما جسر صغير شيد في العصور الوسطى على نهر"أودة". وقصة انفصال المدينتين بدأت حين غزتها في ما بعد جيوش إحدى المقاطعات، فهرب الأهالي الاصليون نحو الأسفل خلف نهر"أودة"، وهناك بدأت تظهر ملامح مدينة أخرى اطلق عليها في ما بعد اسم"لافيلا باسا". وعاشت المدينتان مراحل صراع عنيفة خلال التاريخ الوسيط. ولم يكن بينهما أي مشترك سوى الجسر الحجري الاسطوري القديم، فإذا اراد الأهالي تسوية خلافاتهم أو عقد اتفاقات ومعاهدات، فإنهم يلتقون وسط الجسر الحجري في منتصف المسافة المحايدة. في المدينة قلعة هائلة، مبنية من العصور الوسطى ومحصنة من كل الجهات، وربما هي التي شهدت أحداث الاسطورة التي جئنا عليها، وفيها متحف لنماذج الأسلحة القديمة ابتداء من القرن الثاني عشر. وفي الجنوب كنيسة بنيت في تلك الفترة تقريباً، وهي"كنيسة الناصرة"، وطرازها المعماري يجمع بين الأسلوبين الروماني والغوطي. وفي المدينة عدد من المرافق الثقافية المختلفة، مثل المسارح والغاليريات والمتاحف وغيرها. وابرز تلك المسارح"مسرح المدينة"المفتوح الذي يقع في إحدى البنايات القديمة، وفيه تعرض المسرحيات المهمة. وفي القسم القديم يوجد المركز التاريخي الذي بني في القرن الثالث عشر، ويضم عدداً كبيراً من الكنائس القديمة. أما مركز المدينة الذي يمتاز بطرقات منبسطة وشبكة متفرعة من الشوارع الضيقة، فيعتبر من المراكز الأكثر جذباً للسياح، وفيه تقع ساحة"كارنوت". وفي قلب المركز يتقاطع شارعان رئيسيان تنتشر على جوانبهما المطاعم والمقاهي والمحلات التجارية المختلفة وأسواق الفواكه والخضار، فضلاً عن المتنزهات والحدائق المنتتشرة حولهما. وتعرض هذا الموقع لحريق هائل في العام 1622 التهم نحو 150 بيتاً من البيوت التاريخية القديمة. في ساحة"كارنوت"يلتقي السياح والزوار ليتمتعوا بلحظات اللهو المختلفة. ففيها تنظم السلطات المحلية في مواسم الربيع والصيف وحتى الخريف عروضاً مسرحية وموسيقية قرب تمثال"نبتون"الذي يفتخر به أهالي المدينة. وقرب الساحة تقع إحدى الأسواق المحببة للفرنسيين عموماً، وهي من الأسواق القديمة جداً وما زالت تمارس طريقة بيع الحبوب بواسطة الحضنات الصخرية القديمة. مدينة"كاركوسوني"السياحية تعتبر سوقاً تجارية نشطة، كونها ميناء مهماً بين المحيط الأطلسي والبحر الأبيض المتوسط، لذلك يؤمها آلاف الزوار من مختلف الأقطار الأوروبية والعالم عموماً للتسوق أيضاً، حيث يشكل قطاع التجارة والتبضع أحد أبرز القطاعات بعد السياحة. وهي تفرض على السائح الأجنبي، قبل الفرنسي، أن يحمل ملامحها الرائعة في خياله، أينما ذهب، لأنها فعلاً مدينة الخيال والمتعة.