خلق الله سبحانه وتعالى الناس من نفس واحدة، وهو ينظر - سبحانه - اليهم جميعاً على هذا الاساس، فالانسان هو هو، لا يفترق واحد عن واحد، وليس لانسان ان يدعي تفوقه على غيره من بني آدم، سواء لأنه أبيض ولأن غيره اسود او ملون، او لأنه اكثر منه علماً او قوة. ويبين هذا المعنى في المساواة من كثير من آيات القرآن الكريم، يتجه فيها الخطاب لا الى طائفة معينة من البشر وانما بصفتهم كذلك، وذلك في الآيات التي تبدأ بعبارة"يا ايها الناس...". يقول الله تعالى:"يا ايها الناس أتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ان الله كان عليكم رقيباً". وقال تعالى:"يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير". وقال عليه الصلاة والسلام:"أيها الناس ان ربكم واحد وأباكم واحد. لا فضل لعربي على عجمي ولا لعجمي على عربي، ولا أسود على أحمر ولا أحمر على أسود الا بالتقوى". ويقول سبحانه وتعالى:"ان هذه امتكم أمة واحدة وانا ربكم فاعبدون". كما يسوي الله تعالى بين بني آدم في فرص الرزق، عندما يدعو القرآن الكريم الناس جميعاً - بلا تفرقة - الى السعي في طلب الرزق:"وهو الذي جعل لكم الارض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه واليه النشور". كما سنرى ان حياة أي انسان تساوي - عند الله - حياة كل انسان آخر،"وكتبنا عليهم فيها ان النفس بالنفس"، وان فقهاء المسلمين يقررون ان حياة العالم تساوي حياة الجاهل، وان الغني يؤحذ بحياة الفقير، لأن الله سبحانه وتعالى ينظر الى الانسان بصفته كذلك من دون ان يحيط بها من زخرف الحياة الدنيا. طبيعي ان يختلف الناس في ما بينهم، فيتفوق بعضهم على بعض في الذكاء او في المواهب، او في القدرة والانتاج، او في ما يقدمه لغيره من الافراد او للمجتمع من نفع او مساعدة، وهو ما يفهم من الآية الكريمة:"وهو الذي جعلكم خلائف الارض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم". لكن هذا التفاوت بين الناس في ما آتاهم الله من ملكات وقدرات ليس معناه ان يتفاوت الناس في المنزلة والتقدير، لأن اساس هذا التفاوت في المنزلة والتقدير هو معيار آخر، يقوم على سلوك كل منهم،"إن أكرمكم عند الله اتقاكم". كما ان هذا التفاوت في القدرات يستتبع منطقياً بالضرورة ان يطالب كل انسان بأن يقدم من عمل على قدر ما أوتي من مواهب، وأن يوجه هذه القدرات الى خير المجتمع الذي يعيش فيه، وعلى هذا الاساس يكون حسابه امام المجتمع، وهو كذلك حسابه أمام الله تعالى، وهو المعني المستفاد من قوله تعالى:"ليبلوكم في ما آتاكم"، أي ليرى كيف يتصرف الانسان في ما اعطاه الله تعالى من قدرات ثم ليحاسبه على سعيه في هذا السبيل. على ان المفارقة بين الناس في المواهب والقدرات لا تعني ابداً ان يختلفوا في مبدأ الحقوق والواجبات، فالناس في هذه الناحية متساوون، أقصد في ناحية الكرامة الانسانية. فلكل انسان في الكرامة حق يساوي حق اخيه، ولكل طائفة من الناس حق يساوي حق أي طائفة اخرى، لا يفضل واحد من الناس غيره بامتياز عليه، فلا يكون له حق خاص ليس للآخرين، ولا يسقط عنه واجب مقرر على الآخرين. العالم كالجاهل في هذا الخصوص، والمسلم كغير المسلم، وفي المبادئ الاسلامية تطبيقات كثيرة لهذا المبدأ الاصيل، من ذلك ما هو مقرر من ان العالم اذا قتل عمداً جاهلاً يقتل به، والجاهل اذا قتل عمداً عالماً يؤخذ به ولا يؤخذ معه غيره بسبب كون المقتول عالماً،"النفس بالنفس"ونفس العالم كنفس الجاهل، الكل امام القانون سواء، ولو كان كل منهما مختلفاً في نفسه للمجتمع او في قدراته ومواهبه ومركزه بين غيره من بني الانسان. وبهذا المبدأ الذي يقضي ان الناس جميعاً متساوون مكن الاسلام للمجتمع ان يضم افراداً متفاوتين في قدراتهم متساوين في حقوقهم وكراماتهم، فكان طبيعياً ميسوراً ان يتعاونوا ويتضامنوا، كل في حدود امكاناته ولكل بحسب احتياجاته. فليس في المجتمع الاسلامي طوائف او اشخاص خارجون عن سلطان القانون: فليس فيه سادة ولاعبيد، ولا رجال دين لا يخضعون لقانون، ولا اشراف لا يؤدون عملاً، ولا اغنياء لا يدفعون ضريبة، ولا اذكياء يدعون لأنفسهم حقاً في استغلال الاغبياء. بل الجميع شعب واحد متكاتف يخدم بعضه بعضاً، ليس فيه احد أفضل من أحد... انظر الى قول ابي بكر رضي الله عنه عندما ولي الخلافة:"اني وليت عليكم ولست بخيركم، القوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ منه الحق، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ له الحق". ومن المفيد الاشارة الى انه لا تناقض بين المفارقة في القدرات والمساواة في الحقوق الانسانية، فهذا التفاوت من سنن الحياة ومن اسباب سير الكون وعمارة الحياة، اذ الناس مخلوقون لكي يخدم بعضهم بعضاً، فكان طبيعياً ان يختلفوا في القدرات والكفاءات والطباع ودرجة الطموح، لكي يحسن بعضهم أداء ما لا يحسن الآخرون أداءه، انظر الى تبادل الخدمات والمنافع بين اهل القرية وأهل المدينة بين اصحاب الفكر والحرفيين اليدويين، بين الأدباء والابناء، بل انظر الى ما يمكن ان يؤديه الشخص نفسه في حالات عمره المختلفة، ثم انظر في ذلك كله الآية الكريمة،"نحن قسمنا بينهم معيشتهم في الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجات ليتخذ بعضهم بعضاً سخريا"، أي سخرنا بعضهم لخدمة بعض، تسخير مصالح ومنافع متبادلة وليس تسخير اذلال وامتهان. في مجتمع البشر لا يكفي ان تتقرر الحقوق لافراده ان لم يكن ثمة سبيل الى ضمانها من جانب السلطان، ومتى تقررت للانسان كرامته فان الاعتداء على الكرامة ممكن ومتوقع، فكان لا بد من وجود القضاء الذي يملك رد الحق الى صاحبه ولكي يمكن للقضاء ان يقوم بوظيفته قياماً فعالاً فقد وجب ان تتوافر له مقومات وشروط وان يراعي اتباع اجراءات معينة، من ذلك مثلاً: ان يسمع القاضي الى شكوى من يلجأ اليه مدعياً الاعتداء على كرامته، فان لم يفعل القاضي ولم ينصت الى الشكوى ولم يلجأ الى التحقيق فيها، مجاملة للمشكو في حقه او خوفاً من بطشه كانت كرامة الشاكي - وكرامة غيره - نهباً مباحاً. وان تكون اجراءات القاضي عادلة، بمعنى ان تضمن المساواة بين الخصمين في الحقوق، فيكون لكل منهما فرصة متساوية مع خصمه في ابداء رايه والدفاع عنه، لا فرق بين غني وفقير، ولا بين رفيع ووضيع. وان يكون حكم القاضي - في نهاية الاجراءات - عادلاً، لا ينطق عن هوى، فلا خوف ولا مجاملة، ولا اعتداء ولا محاباة. وقد وضع عمر بن الخطاب رضي الله عنه أسس القضاء في الاسلام، في كتاب جاء فيه:"... فافهم اذا أدلي اليك فانه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذ له. آسى الناس في مجلسك وفي وجهك وقضائك حتى لا يطمع شريف في حيفك، ولا ييأس ضعيف من عدلك واياك والغضب والقلق والضجر، والتأذي بالناس والتنكر عند الخصومة". وفي تفسير هذا الكتاب انه اذا عدل القاضي في ما تقدم - أي في سلوكه من المتخاصمين - فهو عنوان عدله في الحكم، فمتى خص احد الخصمين بالدخول عليه او القيام له او بصدر المجلس والاقبال عليه والبشاشة له والنظر اليه كان عنوان حيفه وظلمه، وفي تخصيص احد الخصمين بمجلس او اقبال او اكرام مفسدتان، احداهما طمعه في ان يكون الحكم له فيقوى قلبه وجنانه، والثانية ان الآخر ييأس من عدله ويضعف قلبه وتنكر حجته. ومن أبرز مظاهر الكرامة الانسانية ان يكون الانسان محترماً في شخصه، وفي سمعته، وفي حياته الخاصة واما احترامه في شخصه فهو يتحقق بأساليب كثيرة أهمها تدبير العيش الكريم له، ولاسرته من طريق ايجاد عمل مناسب يعيش منه، او مساعدته ان كان عاجزاً عن الكسب، ذلك انه لا يمكن ان تقوم كرامة حقيقية لجائع او فقير او عاجز. ويهمني في هذا المقام ان أعرض لما يتصل باحترام كرامة المواطن الشخصية أي سمعته وعرضه. فقد نهى الاسلام عن ايذاء المسلم للمسلم بالقول او بالفعل، صراحة او تلميحاً، في حضوره او في غيابه قال تعالى:"يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى ان يكونوا خيراً منهم ولا نساء من نساء عسى ان يكن خيراً منهن ولا تلمزوا أنفسكم ولا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الايمان ومن لم يتب فأولئك هم الظالمون، يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيراً من الظن ان بعض الظن أثم ولا تجسسوا ولا يغتب بعضكم بعضاً أيحب أحدكم ان يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه واتقوا الله ان الله تواب رحيم. يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا ان أكرمكم عند الله اتقاكم ان الله عليم خبير". وقال سبحانه وتعالى:"ويل لكل همزة لمزة"ومعنى الهمز واللمز الطعن والكسر في اعراض الناس. كما قال سبحانه مخاطباً رسوله الكريم،"ولا تطع كل حلاف مهين، هماز مشاء بنميم، مناع للخير معتد أثيم". وقال جل شأنه،"ولا تقف ما ليس لك به علم، ان السمع والبصر والفؤاد كل اولئك كان عنه مسؤولاً"، ومن التطبيقات البارزة لهذه الحماية - حماية الانسان من ان يمس عرضه - ان حرم القرآن اتهام انسان بالزنا، رجلاً كان او امرأة، ووضع لهذا الاتهام عقوبة الجلد لا يبرأ منها القاذف الا متى أتى باربعة شهداء يثبتون بشهادتهم ارتكاب الفعل، وهو أمر عسير. وقال تعالى:"والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فأجلدوهم ثمانين جلدة ولا تقبلوا لهم شهادة ابداً وأولئك هم الفاسقون الا الذين تابوا من بعد ذلك وأصلحوا فإن الله غفور رحيم". كاتب مصري.