عند الحديث عن القومية العربية ترد الى الذهن الاسئلة التالية: هل هي حديثة مستحدثة أم قديمة؟ وما هي صلة الاسلام بها ودوره فيها؟ وما دامت القومية عاطفة حب وولاء للأمة فهل يمكن ان يكون للفرد أكثر من ولاء وحب؟ أ - القومية العربية بحسب فهمنا لها، ليست وليدة مرحلة معينة وظروف تاريخية خاصة تنتهي بانتهائها، بل هي قديمة قدم الأمة التي تجسدها، بغض النظر عن ضعف هذه الأمة وقوتها أو عن تقلصها او توسعها في مراحل التاريخ المتعاقبة. لقد أثير جدل حول العروبة ومن هو العربي مع ظهور الحركة الشعوبية في نهاية حكم بني أمية في القرن الثامن للميلاد، وهذه الحركة أخذت اسمها من كلمة الشعوب الواردة في الآية 13 من سورة الحجرات"يا ايها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم إن الله عليكم خبير". وقد بدأت في المطالبة بالمساواة والعدالة بين المسلمين العرب وغير العرب، ولكنها انتهت بدوافعها السياسية، الى الهجوم على العرب والتصغير من شأنهم وماضيهم، فانبرى عدد من الكتاب للرد عليهم وتفنيد ادعاءاتهم بما يشبه الأدلة التي طرحها دعاة القومية العربية ومفكروها في هذا العصر الحديث عندما فندوا وردوا على الافكار والطروحات التي تسفه القومية العربية وتعاديها كالمنظمات والأنظمة القطرية، والماركسية الأممية، والاسلاميين الذين تحمسوا لعالمية الاسلام واهملوا عن جهل او تجاهل صلته بالعروبة، وأبرزهم من باكستان المودودي ومن ايران الخميني وبني صدر. - في القرن الثامن الميلادي كان تعريف العربي والعروبة أي القومية العربية في لغة هذا العصر متأثراً بنسبة قليلة بالحسب والنسب والعرق، او بالأرض والجغرافيا. ولكن الاكثرية او التركيز السائد كان على اللغة والثقافة والعادات والتقاليد. فالجاحظ 255 ه على سبيل المثال يقول:"لقد جعل اسماعيل وهو ابن اعجميين، عربياً، لأن الله فتق لهاته بالعربية، ثم حباه من طبائعهم ومنحه من اخلاقهم وطبعه من كرمهم وأنفتهم وهممهم"رسائل الحاحظ - مكتبة الخانجي في القاهرة - الجزء الأول - تحقيق وشرح عبدالسلام هارون - أيلول سبتمبر 1964 ص31. وعن الامام مالك ان الرسول صلى الله عيه وسلم قال:"يا ايها الناس ان الرب واحد والأب واحد، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم، وإنما هي اللسان، فمن تكلم بالعربية فهو عربي"ولمزيد من الامثلة يمكن مراجعة كتابنا"عروبة الاسلام وعالميته"الطبعة الخامسة لعام 1993، ص214-248. ب - اما بالنسبة لصلة الاسلام بالعروبة ودوره فيها فهي اشبه ما تكون بصلة الشجرة بالارض التي انبتتها، على رغم كونه ديناً سماوياً وعالمياً او انهما كاللحمة والسدى في الثوب. وآية ذلك ان"العرب كما قال عنهم عمر بن الخطاب هم مادة الاسلام"، فالنبي الاعظم عربي "وما ارسلنا من رسول الا بلسان قومه ليبين لهم سورة ابراهيم، الآية 4، ولغة القرآن الكريم هي اللغة العربية:"إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون"سورة يوسف الآية 2. وعندما توضحت اهداف الإسلام واكتملت تعاليمه وترسخت نواته في صدر الاسلام، ويوم لم يكن لغير العرب دور في نشره والنضال من اجله، نزلت الآية في حجة الوداع لمخاطبة المسلمين يومذاك:"اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الاسلام ديناً"سورة المائدة، الآية 3. هذا ومن السهل على أي عربي ان يجد العروبة في قراءته للقرآن وفي الصلاة والحج والأذان والفقه فضلاً عن الحضارة والتراث والتاريخ. ولكن الذين لا تروق لهم هذه الحقيقة، أي العلاقة الوثيقة بين العروبة والاسلام يسعون الى التفريق في المعنى بين العروبة والقومية بنوع من الحذلقة اللغوية، فيزعمون انهم ليسوا ضد العروبة لأن العرب مادة الاسلام ولغتهم لغة القرآن، ولكنهم ضد القومية العربية وما نجم عنها من حركات وتنظيمات قومية لأنها في نظرهم مماثلة للحركات القومية في أوروبا، ثم يلصقون بها ما ليس فيها، ويتهمونها بالتعصب والتقليد والاغتراب وتبني العلمانية الملحدة، او ما شاكل ذلك من سلبيات. أي انهم يلبسونها قناعاً بشعاً مخيفاً لتنفير المسلمين العرب منها، ويسعون لافتعال التعارض والتناقض بينهما. وفي المقابل فإن الاسلام أمد العروبة بأسباب القوة والنمو والبقاء واثراها بتعاليمه وقيمه الايجابية والانسانية، وأصبح هو في موضع القلب من الجسم او اللب من الثمرة، وهذا يعني ان المسلم غير العربي، اذا فهم الاسلام على حقيقته فلا بد له من ان يتعاطف مع العرب من خلال عقيدته الاسلامية. اما المسيحي العربي فانه يحمل شيئاً من روح الاسلام وتعاليمه من خلال صلته بالعروبة، فما دام الاسلام عربياً بلغته ونبيه وبيئته الاجتماعية التي نشأ فيها وفي ابطاله ورجاله الاوائل الذين نصروه ونشروه وأنشأوا اول دولة عربية اسلامية في بداية حكم الخلفاء الراشدين، وما دام الاسلام قد وحد العرب وأفصح عن العروبة وأغناها وعززها وحماها، وكان لها تراثاً انسانياً عالمياً ضخماً فقد اصبح من حقه كعربي ولو كان مسيحياً ان يتفهم الاسلام ويتزود من تراثه ويعتز به بوصفه تراثاً ثقافياً وحضارياً له لمزيد من التفاصيل انظر كتابنا"عروبة الاسلام وعالميته"ط5، لعام 1993، ص171 وما بعدها. ويكفي ان نتذكر كيف ان الاستعمار الغربي للأقطار العربية لا سيما في اقطار المغرب العربي كان يسعى الى تمزيق العرب في سبيل الهيمنة عليهم من خلال محاربة الاسلام واللغة العربية الفصحى وتشويه التاريخ العربي الاسلامي، وهي المقومات او المكونات الاساسية للترابط بين العروبة والاسلام. ج - ما دامت القومية حباً وولاء فهل يمكن ان يكون للمرء اكثر من ولاء وحب؟! وجوابنا عن ذلك نعم، اذ يمكن ان يحب اسرته وابناء قريته واعضاء حزبه وبني وطنه وأمته وعقيدته الدينية. ويمكن فوق ذلك ان يكون ذا ميول ومشاعر انسانية، يتعاطف مع الشعوب الضعيفة، ويقدم لها المساعدة الممكنة. وهذا يعني ان العربي القومي يستطيع ان يخدم أمته العربية والقطر الذي يعيش فيه ضمن اطار الدولة، وعقيدته الدينية، وعواطفه الانسانية، من دون ان يشعر بالتناقض، ما لم يقع في شراك الافكار والتنظيرات المغرضة والتي تتعمد افتعال التناقض بين هذه المشاعر ضمن هذه الدوائر المذكورة. وهنالك ملاحظة اخرى، هي ان الشعور القومي وتأثيراته قد تُمنى بالضعف والفتور في فترة معينة من الزمن، ويقوى على حسابه الشعور الوطني او الديني العالمي، او الماركسي الأممي، او العصبيات الطائفية والعشائرية او الجهوية، ولكن أخطر ما يواجه الفكر القومي في هذه المرحلة يتجلى في الفئات الحاكمة في كل قطر، لأنها تعمل على تسخير وسائل الدولة القطرية وامكاناتها لاذكاء الجانب الوطني واعطائه شرعية تاريخية وواقعية في حدود الدولة القطرية، مع طمس الشعور القومي، وبالتالي لجعل المصلحة القطرية غاية الاهداف ونهاية المطاف، من خلال القوانين والقرارات والشعارات والرموز الخاصة بالدولة كالحكومة والمجلس النيابي والجيش والعلم والنشيد الوطني والقوانين التي تقيد حرية الانتقال للاشخاص والبضاعة من والى الاقطار العربية الاخرى بأشد مما هو مع الاقطار الاجنبية. ومنع أي حزب او حركة من النشاط او العمل اذا كان لها صلة بحزب او حركة في قطر عربي آخر. كما ان الصحافة واجهزة الاعلام ومناهج التربية والتعليم تركز على شؤون القطر مع اهمال الاقطار الاخرى والمصلحة القومية المشتركة. حتى الجامعة العربية في ما آلت اليه، لم تعد قادرة على جمع الحكام العرب حول أبسط القضايا القومية لأنها تمثل سياساتهم المغرقة في القطرية والذاتية والانصياع للضغوط الأميركية. ولهذا كله لا نستغرب اذا تحول الشعور الوطني الايجابي بفعل سياساتهم الى نزعة قطرية سلبية متعارضة مع النزعة القومية، في الوقت الذي كان في الامكان ان تسير النزعتان او الشعوران جنباً الى جنب، وعلى سبيل المثال فإن الفئات الحاكمة في القطر السوري بعد جلاء القوات الفرنسية عنه قد جمعت بين المحافظة على حكمها في القطر مع بقاء التوجه القومي ورعايته. ففي الاربعينات من القرن الماضي، كنا نردد في المدارس الابتدائية والثانوية النشيد القومي الشهير"بلاد العرب أوطاني من الشام لبغدان / ومن نجد الى يمن الى مصر فتطوان / فلا حد يباعدنا ولا دين يفرقنا / لسان الضاد يجمعنا بغسان وعدنان". وهذا التثقيف القومي هو الذي يفسر لنا الحماسة الشعبية الشديدة للوحدة بين مصر وسورية عام 1958 اضافة الى ان الحريات العامة والممارسة الديموقراطية كانت في تلك المرحلة أفضل وأرحب مما آلت اليه في ما بعد حيث تحولت الانظمة العربية الى الديكتاتورية او البوليسية الامنية. وتمكنت من تقييد المنظمات الشعبية او إلغاء دورها بعد ان كانت هذه المنظمات قادرة على محاربة وافشال الاحلاف العسكرية والهيمنة الاجنبية كحلف الدفاع المشترك في بداية الخمسينات وحلف بغداد في منتصفها ومبدأ أيزنهاور لاملاء الفراغ في المنطقة العربية عام 1957. بينما في العقد الاول من هذا القرن، تحتل أميركا بلداً عربياً العراق وتعبث بأمنه ووحدته ومصير شعبه ولا تستطيع الجماهير العربية التعبير عن مشاعرها القومية بالتجمهر او التظاهر الا ما ندر وبحجم اقل بكثير مما يجب ان يكون، وذلك بفعل الخوف وقمع الاجهزة الأمنية، او لأن الثقافة السياسية والاعلامية في الاقطار العربية اصبحت قطرية لا قومية تمجد من هم في قمة السلطة ملوك وامراء ورؤساء ولا تعنى بالتثقيف الوطني والقومي والديموقراطي، بل توافقت مع اجهزة الاعلام الغربية في توجيه اهتمام الاجيال العربية الجديدة نحو اهتمامات رياضية او فنية او لاشباع حاجاتهم المادية والاستهلاكية، ومتعهم الشخصية مع العزوف عن القضايا الاساسية المهمة في حياة الوطن والامة، بحيث اصبحنا نجد عشرات الألوف من الشبان يحضرون او يشاهدون مباراة في كرة القدم او حفلات سوبر ستار، بينما لا يحضر منهم سوى عشرات لمحاضرة يلقيها سياسي او مفكر كبير عن الديموقراطية او الوحدة العربية او المشروع الاميركي عن الشرق الاوسط. لقد كان الرئيس جمال عبدالناصر جامعاً بين المشاعر الوطنية المصرية والقومية العربية والدينية الاسلامية، ويعمل فوق ذلك كقائد عالمي وانساني في منظمة الدول الداعية الى الحياد وعدم الانحياز والتحرر من تبعية الدول الكبرى الطامعة بالهيمنة، ولهذا كان عندما يلقي خطاباً موجهاً الى العرب ويتحدث فيه عن القومية العربية وضد الاستعمار، تتفاعل معه الجماهير العربية من المحيط الى الخليج وتتحرك بالتظاهر اذا دعاها، بينما لا يستطيع أي زعيم عربي في هذه الايام ان يحرك هذه الجماهير ولو في قطره الذي يحكم فيه الا بأجهزة الدولة واستخباراتها وفي شكل مفتعل، وذلك لسبب بسيط هو كونه واحداً من المسؤولين في الانظمة القائمة بطبيعتها القطرية المستبدة المستسلمة للضغوط الاميركية، والفاشلة في تحقيق اهداف الجماهير في التحرر والتقدم والازدهار. - عندما تعمم ثقافة الديموقراطية الحقيقية، وثقافة التوازن والمواءمة بين المشاعر الوطنية والقومية والدينية والانسانية، ويستبعد افتعال التناقض او التعارض بينها، تصبح الاهداف القطرية والقومية المنشودة في التحرر والتقدم قابلة للتحقيق، بل يصبح ما يبدو لبعضهم معجزة، قابلاً للتحقيق ايضاً، وعلى سبيل المثال نشير الى انتصار شعب فيتنام على أعتى دولة واقواها في هذا العصر، الولاياتالمتحدة الاميركية، وانتصار الجزائر على فرنسا ومن ورائها حلف الأطلسي، وكذلك صمود المقاومة الفلسطينية طوال نصف قرن بفضل التلاقي والتعاون بين التيارات الوطنية والقومية والماركسية والدينية والعلمانية. ومثل هذا في المقاومة العراقية التي تتلاقى فيها وتغذيها المشاعر الوطنية والقومية والاسلامية، وعندما تلاقت كلها وتضافرت على مقاومة الاحتلال استطاعت ان تقترب من المعجزة في تمريغ انف الادارة الاميركية في التراب، وهي التي تراها الفئات العربية الحاكمة قوة لا تقاوم ولا تقهر. - اما الحركة القومية فهي ما نتج عن الشعور القومي من فعل ونضال وتنظيم وفكر يحدد الاهداف والمبادئ المرحلية والبعيدة التي تجسد آمال الأمة وتطلعاتها، ومن هنا كانت الحركة القومية العربية حية متجددة وتعبر عن نفسها في كل مرحلة بأهداف وشعارات معينة. وكلما كانت هذه الاهداف والشعارات معبرة بصدق وعمق عن حاجات الأمة وتطلعاتها، ومنسجمة مع منطق العلم والتطور، ومع القيم الانسانية في الحق والعدل والمساواة، وتوائم بين الحداثة والتراث، كانت أكثر قدرة على الاستقطاب الشعبي والنجاح، شريطة ان يتبناها تنظيم في مستواها يتوافر في قياداته الوعي والايمان والقدرة على النضال والتضحية والمثابرة. وبعبارة واحدة: فإن الحركات والتنظيمات والنشاطات القومية تتغذى من الشعور القومي كما تتغذى الشجرة من نسغها ومن التربة التي تعيش فيها. واخيراً وليس آخراً، من المناسب ان نشير الى اهم الاهداف التي تنشدها وتناضل من اجلها الحركات القومية في هذه المرحلة، مدفوعة بالشعور القومي على النحو التالي: - الدعوة والعمل لاقامة اتحاد بين العرب وفق صيغة اتحادية مرنة لا مركزية، لأن في الاتحاد قوة وفي التجزئة ضعفاً وتخلفاً، وهذا ما يؤكده الواقع العربي والملموس والمعاش، وتؤيده كل الدراسات والبحوث العلمية من خبراء ومتخصصين عرب وأجانب. والدليل على ان في الاتحاد قوة في المثل السائر"ان عشرة متفرقين لا يستطيعون بناء بيت واحد، بينما اذا اتحدوا بنوا عشرة بيوت"، وكذلك قول الشاعر العربي: تأبى الرماح اذا اجتمعن تكسراً / واذا افترقن تكسرت آحادا. - والهدف الثاني، هو الحرية واقامة نظام ديموقراطي يضمن وجود هذه الحرية واسلوب ممارسته. وبين الوحدة الاتحادية والديموقراطية صلة حية وعضوية وتعد هذه من اقرب الطرق المؤدية الى تلك لأن تطبيق الديموقراطية يعني السماح لابناء الأمة العربية كي يعبروا عن آرائهم بحرية، وهذا التعبير لن يكون لتكريس للتجزئة او التباعد بين العرب وانما للتعاون باتجاه الاتحاد، لا سيما ان حركة لتطور المعاصرة تسير باتجاه المزيد من اقامة الاتحادات والتجمعات الاقتصادية والسياسية لمصلحة الذين يشتركون فيها. - اما الهدف الثالث والاساسي لحركة القومية العربية المعاصرة فهو العدالة الاجتماعية والاقتصادية بحيث تحقق مبدأ تكافؤ الفرص وتمنع استغلال الانسان لأخيه الانسان، أي محاربة الرأسمالية المتوحشة المستشرية التي ترعاها العولمة وقوانين السوق الحرة والتجارة العالمية والدول الكبرى المتقدمة المهيمنة على اسلحة الدمار الشامل لا سيما الولاياتالمتحدة الاميركية مع استهتارها بالقوانين والشرعية الدولية اتي تصون السلام والأمن والعدالة بحدودها الدنيا، وتحد من تغول الاقوياء للضعفاء وفق شريعة الغاب. وكما ان الاشتراكية الماركسية فشلت في الاتحاد السوفياتي لغياب الديموقراطية، فإن الديموقراطية في اميركا ستمنى ولو بعد حين، بالفشل لغياب العدالة الاجتماعية والاقتصادية، ولسيطرة اقلية من الرأسماليين في شركات متعددة الجنسية على اقتصاد العالم ومصائر الشعوب في شكل لا يعرف الرحمة والعدالة والقيم الانسانية. * قيادي سابق في حزب البعث العربي الاشتراكي.