ابرزت استقالة عمر كرامي، رئيس الحكومة اللبنانية السابق، ثم اعتذاره الأول والثاني عن تأليف الحكومة - على رغم تمتعه بكثرة نيابية رشحته في استشارات"ملزمة"، - ابرزت مشكلة تقع على الحد بين المنطق الدستوري الخالص وبين دائرة العلاقات السياسية الفعلية والحقيقية. فإحراز سياسي من السياسيين تسمية كثرة من النواب قمين وحده بحمل رئيس الجمهورية على تكليفه الاضطلاع بتأليف الحكومة. ولا ينبغي ان ينجم، مبدئياً، عن"التشاور مع رئيس مجلس النواب"في شأن التكليف على ما تنص المادة 53 من الدستور منذ ايلول / سبتمبر 1990 ما يخل ب"الاستناد الى الاستشارات النيابية الملزمة"التي"يطلع"رئيس الجمهورية رئيس المجلس على"نتائجها... رسمياً". وليس معنى تسمية الكثرة النيابية مكلّفاً، او"اقتراع"هذه الكثرة في الاستشارات لصاحبها، حسمَ تحصيل المكلف ثقة الكثرة نفسها في المجلس النيابي. فبين التكليف وبين الترئيس الفعلي والإجرائي مرحلة اولى هي انشاء الجسم الوزاري من وزراء ينتسبون على هذا القدر او ذاك، الى كتل نيابية ودوائر ومصالح وأحلاف وخلافات. وبين هذا وذاك مرحلة ثانية هي البيان الوزاري العتيد وطرحه على المناقشة والتصويت. وقد تبدو المرحلة الثانية في ضوء الأولى، المرجحة والحاسمة، تسليماً من طرف اللسان بوجوب رسو السياسة على معيار دستوري تنضبط عليه. فتلزم الحكومة نفسها ببرنامج عمل، وبتضامن على البرنامج وبنوده. ولكن التسليم هذا، ولو اشبه إقرار"الرذيلة"لل"فضيلة"بفضلها وتقدمها، ضابط يقيد شطط السياسة وجريها مع الهوى الكتلوي، والعصبي الخالص. ولا يحول جلاء النص الدستوري، لغة وظاهراً، دون غموضه، اجراء وسياسة. فاتباع تسمية رئيس الجمهورية رئيس الحكومة المكلف"استناداً الى استشارات نيابية ملزمة"، ب"التشاور"مع رئيس مجلس النواب، من غير جلاء مضمون التشاور، يلقي بالإبهام على حدود"الشورى"او"المشورة"او"التشاور"المتروكة على عواهنها. والحق ان مثل هذا الإبهام يظلل علاقة رئيس الجمهورية بكلا رئيسي الحكومة والمجلس، في كل مرة يوجب فيها دستور"الطائف"، المعدّل، وإصلاحاته، علاقة بين"الرؤساء". فينبغي ان يتوسط علاقة رئيس الجمهورية، الماروني، بهيئات السلطة الأخرى، مجلس نواب او مجلس وزراء، وسيط يقيد هذه العلاقة. والإبهام، إبهام"التشاور"، هو صورة هذا القيد على رئيس الجمهورية. فكأن رئيس الجمهورية غير كفي، وحده، ليتولى التكليف"الملزم"بناء على الاستشارات. ويتكرر الإبهام المقيِّد في احوال علاقة رئيس الجمهورية برئيس مجلس الوزراء، على ما لاحظ معلقون كثر، منذ إقرار"الطائف"، صوغ الاتفاق مواد دستورية، وبعد صوغه. فإذا دعا رئيس الجمهورية مجلس النواب الى عقود استثنائية من غير طلب"اكثرية المجلس المطلقة"، ألزم"بالاتفاق مع رئيس الحكومة"المادة 33، وقيد باتفاق لا يلزم رئيس الحكومة شيئاً، على مثال"التشاور"مع رئيس المجلس. وتقيد المادة 52 عقد المعاهدات الدولية وإبرامها ب"اتفاق"رئيس الجمهورية مع رئيس الحكومة. ولا يدعو رئيس الجمهورية مجلس الوزراء"استثنائياً"الى الانعقاد إلا"بالاتفاق"المرسل"مع رئيس الحكومة"المادة 53. وإذا عاد امر إصدار رئيس الجمهورية"بعد موافقة مجلس الوزراء"المادة 58، المرسوم القاضي بتنفيذ مشروع قانون مستعجل أَحالَتْه الحكومةُ، على هذه الصفة، الى مجلس النواب، كثرت المعميات. فالأربعون يوماً المقتضاة شرطاً لجواز"الإصدار"يقيدها الإمكان "يمكن لرئيس الجمهورية... ان يصدر" اولاً، وموافقة مجلس الوزراء ثلاثاً "تقرر الحكومة..."،"بموافقة مجلس الوزراء"حين الإحالة، وحين نشر المرسوم، ثانياً، وإبهام المدة "من طرحه على المجلس"،"بعد إدراجه في جدول اعمال جلسة عامة"، بعد"تلاوته فيها"، بعد إغفال البت، ثالثاً. فمجلس النواب في حل من قيود المهل الدقيقة، على خلاف رئيس الجمهورية اذا طلب"إعادة النظر في القانون"ووافق عليه المجلس في"مناقشة اخرى"، بحسب المادة 57. وإذا وقع تعارض او بعض التفاوت في التقدير بين المجلس وبين رئيس الجمهورية، ولو غُلَّت يدا هذا ب"اتفاق"مكرر وملح مع حكومة"حرة", مال النص الى الغموض، وانحاز الى غير رئيس الجمهورية، وإلى غير الحكومة حين تتحد الحكومة ورئيس الجمهورية في قرار واحد. وأما دائرة العلاقات السياسية الفعلية والحقيقية في هذا الأمر فينبغي التماسها ربما في مسألة حل مجلس النواب. فالمجلس يحله مجلس الوزراء،"مناط السلطة الإجرائية"المادة 65،"بطلب من رئيس الجمهورية"، اذا امتنع من الالتئام والانعقاد عقداً عادياً او عقدين استثنائيين متواليين، وإذا هو رد الموازنة برمتها، قصد"شل الحكومة عن العمل". وعلى هذا فهو لا يُحل إلا اذا سبق حلَّه عن يد مجلس الوزراء، قبل رئيس الجمهورية، حلُّه نفسه من تلقاء نفسه، وتعطيله التشريع والإجراء والموازنة هي قلب الإجراء وركنه. ويحَل المجلس المادة 7 إذا اراد"إعادة النظر في الدستور"، ولم توافق الحكومة على إرادته, او عفواً على"اقتراحه". وأعادت"القرار"، على قول المادة في مشروع القانون، الى المجلس، فأصر عليه هذا"بأكثرية ثلاثة ارباع"اعضائه نظير ثلثيهم في"إبداء اقتراحه"الأول. فيجعل الدستور طلب المجلس النيابي التعديل إما معجزاً، او استماتة لا يرى المواطن مسوغاً لها غير الولايات الرئاسية ومكانتها"الاستراتيجية"المزعومة. وفي حالي حل المجلس النيابي تظهر مشكلة علاقة المنطق الدستوري بدائرة العلاقات السياسية على نحو ظهورها وبروزها في حال الاستشارات والتكليف، ثم في اشتراط موافقة رئيس الحكومة والحكومة على بعض مبادرات رئيس الجمهورية. فإناطة السلطة الإجرائية بمجلس الوزراء - وهي الخيط الذي يصل حلقات إبهام علاقة رئيسي الجمهورية ومجلس الوزراء واحدهما بالآخر، والتكليف، والعقود المجلسية الاستثنائية, وعقد المعاهدات الدولية وإبرامها، وإصدار مشاريع القوانين المستعجلة ومهلها، بعضها ببعض - يفترض، سياسياً وليس دستورياً، تبلور كثرة نيابية متجانسة ومتماسكة تتولى تكليف الحكومة، وليس رئيسها وحده، مهمات يصوغها البرنامج الوزاري بحسب الظرف والإمكانات والموارد والأحلاف. فإذا اوكلت الكثرة النيابية الى الحكومة، مجتمعة، مهماتها، قامت الكثرة بحماية الحكومة، وذلك ما دام الوفاق بين الاثنتين. وإذا خرجت الكثرة، أي بعض اجزائها او كتلها، عن تعاقدها مع الحكومة، وسع الحكومة ردع الجزء، او الكتلة"المتمردة"عن المغامرة بالائتلاف الحكومي كله، من طريق التلويح بحل المجلس النيابي، والاحتكام الى الناخبين في شأن الخلاف. فالحق الحكومي او الرئاسي، في الحل، سنده ومسوغه الحرص على تماسك السياسة العامة، وحماية التعاقد بين الحكومة وبين المجلس النيابي أي كثرته على انتهاج سياسة متماسكة ومتصلة. وإناطة تأليف او تشكيل الحكومة بالاستشارات النيابية، أي ببروز تكتل نيابي اكثري وليس باستنساب رئيس الجمهورية، ينبغي ان يلازمها تمكين الحكومة من حل المجلس. فإلحاق التأليف الوزاري، أي السلطة الإجرائية وديمومة الأحكام واتصالها، بتكتل نيابي وتسمية نيابية، لا يستقيم إلا اذا قام نظيره وبإزائه حق الوزارة في تنبيه التكتل النيابي الأكثري الى تبعته عن حماية الحكومة وبرنامجها وسياستها. وإلا لم تكن الإناطة العتيدة إلا تمويهاً خادعاً يراد به التستر على إبهام غير"خلاق"، على خلاف ما ينسب الى"الفوضى"الأميركية الرايسية. وأما عقد"السلطة"على حكومة يتوسط رئيس المجلس النيابي في تكليفها، وتتولى استشارات رئيس الحكومة المكلف التوفيقَ بين كتلها المجلسية المتنافرة، ويحال بينها وبين تذكير الكثرة النيابية بواجب تماسكها والتزام عهدها مع الحكومة بواسطة حل المجلس وتحكيم الناخبين، وتقتسم الحذر والشك مع رئيس جمهورية مظنون - فهو عقد تبطله العلاقات السياسية الفعلية، وتلغي مفاعيله ومترتباته. فلا يترتب على دستور"الطائف"العتيد الاضطلاع بتوحيد السلطة الإجرائية، ولا الموازنة بين السلطات المنفصلة وتعاونها. فمثل هذه المطامح او المزاعم انما تتحقق من طريق نظام"الأقفال والموازنات"او المثاقيل التي تعدل وزناً يخشى ترجيحه الحاسم هيئة واحدة على الهيئات الأخرى، وليس من طريق زرع المنازعات وتركها معلقة من غير حسم ولا جزاء. فإذا وقع خلاف سياسي مثل الخلاف الذي وقع جراء تمديد ولاية رئيس الجمهورية، ثم جراء اغتيال رفيق الحريري واستقالة رئيس مجلس الوزراء واعتذاره مرتين قبل تكليف خلفه نجيب ميقاتي، ظهرت هشاشة المنطق الدستوري"الإصلاحي"وصورية صلته بالموازين السياسية والاجتماعية الفعلية. وظهر تعطيل الرسوم الدستورية التبلورَ السياسي الذي يلخص في"إلغاء الطائفية السياسية"والانتخاب"النسبي"، عشية اجراء الانتخابات. فترك تكوين الكثرة النيابية الى حين التكليف بتشكيل الحكومة، معلقاً او منوطاً بإرادة غير نيابية وفوق مجلس النواب وكتله وتياراته، يؤدي الى تشكيلها من غير تكافل وتضامن مع المجلس النيابي او كثرته. وأداة التكافل بين الحكومة وبين المجلس النيابي، وتضامنهما، هي انبثاق سلطة اجرائية مجتمعة ومتماسكة من مجلس نيابي اكثري. وهو حل ازمة مرجعية"النظام اللبناني"التي يُلهج بها كناية عن طلب الوصاية العروبية. والانبثاق هذا يفترض رئيس حكومة"واحداً"، وحكومة متضامنة، ومجلساً نيابياً تتجاذبه كثرة وقلة، وتحكيم الهيئات الناخبة في منازعات السلطات، في المطاف الأخير. وجلي ان مشاغل"الطائف"وأهله، او من بقي منهم، في واد آخر. وهذا الوادي غادره اللبنانيون وتركوه ينعى سمّاره. كاتب لبناني.