اختيار جلال طالباني رئيساً للعراق له دلالات ايجابية عدة، وربما يكون بداية لتغيرات ملموسة في الثقافة السياسية للمنطقة كلها وليس للعراق وحده، حيث اضطهاد الأقليات وأحياناً الأكثريات هو السائد في الدساتير وفي الممارسة السياسية اليومية، وحيث الآخر، الذي من المفترض أن يكون شريكاً في المواطنة والقرار، يُعامل بازدراء، ويُنظر اليه كتهديد للمجتمع الذي ينبغي أن يكون ذا نسيج أحادي. تعدد المكونات الاجتماعية، في نظر ثقافة الحزب الواحد والشعب الواحد، يتطابق مع التفتت المحتمل. ولذلك تخاف هذه الثقافة من التعدد وتحاربه وتقمعه. انها ثقافة تفتقد المرونة والقدرة على الحوار مع الآخر الشريك في الوطن. والنقاء هو الشعار الذي ترفعه معظم دول المنطقة وإن كان هذا النقاء قناعاً لإخفاء المكونات المتعددة والفسيفسائية لمجتمعاتها. الأكراد عانوا، أكثر من غيرهم ربما، من عنف وضراوة هذه الثقافة، ودفعوا أثماناً باهظة في المواجهة التي فُرضت عليهم بسببها، فقد أُنكرت هويتهم القومية وبُذلت محاولات، بعضها كان دموياً، لصهرهم في بوتقة المجتمع الواحد. والبوتقة، بالمناسبة، مصطلح محبب ويكثر استخدامه في مجتمعات الحزب الواحد والهوية القومية الصافية. التعدد في هذه المجتمعات هو موضع شك وريبة وتخوين، وينبغي توحيد النسيج الاجتماعي والقومي للدولة ولو كان ذلك قسرياً وسبباً لانتاج مجتمع مأزوم. التعدد لا يُغني المجتمع في هذه الدول بل يشكل حالة رُهاب على الصعيد السياسي، وهذا ما يفسر اصرار مسؤولي الدول المجاورة للعراق على ذكر مطلب"وحدة العراق"في تصريحاتهم. فالوحدة، في نظرهم، آمنة وتطمئنهم على وحدتهم التي تمثل لهم رهاباً أكبر في ما لو وصل تأثير التعددية العراقية اليها، حتى لو كان هذا التأثير رمزياً وموضعياً لا يتجاوز إمكان وصول فرد من قومية أخرى أو دين آخر أو طائفة أخرى الى منصب الرئاسة. العراق في هذه الحالة يعطي درساً في السعي الى تحقيق مواطنة فعلية تضمن مشاركة جميع مكونات المجتمع في القرار السياسي، والأرجح ان انتخاب الكردي جلال طالباني لرئاسة بلد عربي يعطي بعض الجاذبية للعرب وقضاياهم في زمن فقدت فيه العروبة السياسية كل بريق. ما زال مبكراً، بالطبع، الحديث عن الطريقة التي سيُستقبل بها هذا الحدث، لكنه يصلح أن يكون بداية لترويج ثقافة سياسية مختلفة تسعى لخلق مواطنة عابرة لمكونات المجتمع سواء كانت هذه المكونات قومية أو مذهبية أو طائفية أو حزبية. انها، بمعنى ما، دعوة لممارسة التطبيع داخل مجتمعاتنا. لقد آن لنا أن نتعلم بعض الرقة بعد عقود طويلة من الفظاظة السياسية. كاتب سوري