حظيت الأحداث الأخيرة في كل من العراق ولبنان والمملكة العربية السعودية والأراضي الفلسطينية، باهتمام كبرى الصحف الأميركية التي علقت في افتتاحياتها على هذه التطورات بدءاً من التظاهرات في بيروت، مروراً بتعديلات الدستور المصري في القاهرة، وانتهاءً بالانتخابات العراقية وغيرها من الأحداث التي دفعت بالكثيرين الى التفاؤل بأن هذا التوجه نحو الديموقراطية سيستمر ويزدهر في المنطقة. إن التحمس لإجراء الانتخابات ولشعبية التظاهرات يعني أن الديموقراطية على وشك تحقيق نصر دراماتيكي في الشرق الأوسط، وإننا نشهد"نقطة حساسة"وتحولاً براغماتياً ذا أبعاد تاريخية. لكن هذه الاعتبارات تبدو كأمنيات لمتابعي شؤون الشرق الأوسط خصوصاً في ظل تمنع القادة العرب عن التغيير، كما حدث في مؤتمر قمة الجامعة العربية أخيراً. وفي الوقت نفسه فإن العديد من القادة في الشرق الأوسط والغرب على حد سواء غير مرتاحين بإدعاءات إدارة الرئيس بوش بأنها الدافع وراء هذه التغيرات الأخيرة في المنطقة. لكن الجدل لصالح بوش يتطلب رداً جدياً لأنها تكشف عن عدم الوضوح بالتفكير في طبيعة ومصادر التغيير الديموقراطي. فبالنسبة الى اولئك الذين يدعمون إدارة بوش، فإن السياسة الأميركية هي ما يريده أو يقوله الرئيس جورج بوش، أي حملة وفتوحات أخلاقية لمحاربة الإرهاب عن طريق نشر الحرية. إن ادعاءات من هذا النوع تدعو إلى رد متشكك، فرفوف المكتبات مغطاة بمواد معروضة للبيع والتي تكشف المصالح العميقة وراء الحرب والمواجهة. وهناك أسباب تدفع للاعتقاد بأن موقف الرئيس بوش من الديموقراطية إنما هو غطاء يخفي وراءه الطموحات الإمبريالية، والنفط الاستراتيجي، وعقدة الصناعة العسكرية القوية. وللتأكد، فإن السياسات الأميركية في الشرق الأوسط، بدون الإشارة إلى سياسات قوى أخرى كبيرة ومتوسطة، كانت مأسورة لوقت طويل حول اهتمامات تعتمد على المصادر والوضع الجغرافي والاستراتيجي، وإلا كيف يمكن تفسير الانقلاب الذي دعمته الولاياتالمتحدة ضد رئيس الوزراء الإيراني المنتخب ديموقراطياً عام 1953، وعدم اللامبالاة باستعمال صدام حسين للأسلحة الكيماوية ضد الأكراد العراقيين سنة 1988؟ ولماذا هناك إعادة النظر بالعلاقات مع النظام السلطوي لمعمر القذافي، ولماذا الرئيس التونسي الأوتوقراطي بن علي هو من أقرب الحلفاء المفضلين للولايات المتحدة ؟ ويبدو إذن أن المحافظة على الانسجام الإقليمي، وليس تشجيع الديموقراطية، هو الدافع الذي يشرح هذه السياسات، وهناك أسباب قوية للتهكم . إن العيب الرئيسي في هذا الرد والاستجابة لسياسات بوش، هو أنها انفعالية في شخصيتها بشكل أساسي، وهي لا تشرك مباشرة موضوع"الديموقراطية في الشرق الأوسط"، تاركة سؤال مهم بدون إجابة: هل هناك مكان في الجدل حول الديموقراطية للأولئك الذين يدعمون التغيير الإيجابي في الشرق الأوسط بدون أن يوقعوا على شيك مفتوح للسياسات العدائية والمليئة بالتناقضات لإدارة الرئيس بوش؟ مهما كانت دوافع الرئيس بوش، إلا أن موضوع الديموقراطية يجب معالجته بمصطلحاته الخاصة، فالديموقراطية تعني أكثر من الانتخابات، وممارساتها يجب أن تكون متجذرة عميقاً في تربة الثقافات المحلية إذا أرادت أن تتحول إلى وقائع قائمة، وليست فقط أحداث سريعة الذوبان. إن اجراء الانتخابات، على رغم كونه إيجابياً في مضمونه، ليس عماد الديموقراطية. وإن السياسات التي تثير التنافرات الدينية والثقافية بدل أن تحلها، هي بذور لصراعات مستقبلية لا للديموقراطية. يصبح دعم الديموقراطية ذا مصداقية عندما يقترن بروح التعاون والتواضع. لا توجد لدى أي براءة اختراع للديموقراطية. فجوهر الموضوع هو أن الديموقراطية تعني المشاركة في اتخاذ القرارات والتعاون لتعزيز القيم الاجتماعية، مع تأسيس قاعدة آمنة للمعارضين. كما أن الديموقراطية هي خطوة نحو حل الصراعات الاجتماعية إذ تستعمل وسائل سلمية للحصول على نتائج سلمية. وإن السياسات التي تهدف إلى تعزيز الديموقراطية، خصوصاً في المناطق التي تخللت تاريخها طموحات ديموقراطية، يجب أن تكون ديموقراطية بطبعها. وإذا لم تكن هذه السياسات ديموقراطية، فهي تخاطر بتقويض الشرعية السياسية والثقافية الطويلة الأمد للمشاريع الديموقراطية المتناغمة. وعلى رغم الاختلافات السياسية الحقيقية والملحة مع الإدارة الأميركية، إلا أن شعوب الشرق الأوسط أمام فرصة للرد ولاستجابة للجدل حول الديموقراطية بشكل خلاق وبشروطهم الخاصة. وهذه الاستجابة يجب أن ترتكز على عمودين أساسيين، وهما: الدعوة إلى حل للصراع الإقليمي، ووضع البرامج بشكل فعال لإشراك المجموعات المدنية، الدينية والعلمانية، التي تعبر عن رغبتها بالتغيير الديموقراطي. إن التوجه الرئيسي الى حل الصراع الإقليمي هو أمر أساسي لأن الصراعات المنبطحة، بما فيها الصراعات بين الجماعات الإثنية المتنافسة، بالإضافة إلى الصراعات بين الأنظمة والشعوب، تلهب المشاعر الوطنية والدينية التي تقوض التغيير التقدمي. وببساطة لا يمكن للديموقراطية أن تزدهر وتستمر في جو يسوده الرعب والذل. وإن سياسات الرئيس بوش الحالية ربما أقضت مضجع الأنظمة في الشرق الأوسط، لكنها أيضاً ألهبت مشاعر أولئك الذين يرفضون ما يرونه على أنه سياسة خارجية إمبريالية. ويجب على الحكومات وقادة المجتمع المدني في الشرق الأوسط أن يشرحوا هذه النقاط بوضوح للمتحدثين الأجانب، وعليهم في الوقت نفسه ان يفعلوا ما يستطيعونه لتحقيق تغيير سلمي في المنطقة. المشاركة بين الحكومات وجماعات المجتمع المدني أمر ضروري ويمكن تحقيقه بطرق عديدة، إذ يجب أن تتواصل الحكومات مع الناشطين الدينيين والعلمانيين على حد سواء، والعمل على خلق حوار لاكتشاف ما هو التوجه الإسلامي أو الشرق الأوسطي بشكل خاص نحو الديموقراطية والحكم الصالح. ويمكن لقادة الشرق الأوسط أن يقدموا الدعم لمشاريع ضرورية نحو تحقيق المهنية الإعلامية وتنفيذ توصيات تقارير التنمية البشرية. كما يمكن استثمار الشراكة الإقليمية بين الجامعات في الشرق الأوسط لخلق دائرة لتقوية الأجيال المقبلة وتعزيزها بمهارات المواطنة. وهكذا وعبر إعادة صياغة الجدل الديموقراطي، يمكن لشعوب الشرق الأوسط أن تتخذ خطوات مستقلة وبناءة لتطوير وتنفيذ الرؤىء نحو بناء مستقبل مشرق. ويجب على جماهير المنطقة ألا تستسلم للشكوك حول النظريات السياسية الحالية، ولكن يجب أيضاً أن لا تضيع هذه الجماهير الفرص لإحراز تغيير حقيقي ودائم. وإن إلقاء اللوم على جهات خارجية لعدم التصرف والبحث في النيات هو تضييع لطاقة مهمة، هذه الطاقة التي يجب أن تتحول الآن إلى قواعد لإنشاء برنامج نحو تحقيق التحول والتغيير الاجتماعي والسياسي. ليس هذا وقت المقاييس والإجراءات التجميلية، أو إطلاق الكلمات الفارغة حول التغيير المنظم، وإذا فشل القادة العرب والشرق أوسطيين بإعطاء مساحة من الحرية السياسية الحقيقية، وعرض مبادرة إعادة التفاوض حول الشراكة بين الدولة والمجتمع، فإن القوى الخارجية ستفرض أجندتها الخاصة باسم الديموقراطية. إن الدلائل الحالية في هذا الوقت تشير إلى أن أنظمة الشخص الواحد التي تسود في منطقة الشرق الأوسط أصبحت"فضول تاريخية". ووحدها الحكومات التي تتحرك بروح من الشرعية الديموقراطية والمحاسبة هي التي تستطيع أن تفاوض لصالح الحقوق العربية والإسلامية. * د. عبد العزيز سعيد، أستاذ السلام الدولي وحل النزاعات في الجامعة الأميركية في واشنطن. ** د. ناثان فونك أستاذ مساعد في السلام الدولي وحل النزاعات في جامعة كونراد غريبل الكندية.